ماذا بعد غياب بن لادن

ماذا بعد غياب بن لادن؟

مخلص برزق*

[email protected]

لحظات بعد إعلان واشنطن عن اغتيال أسامة بن لادن في "أبت أباد" القريبة من العاصمة الباكستانية إسلام أباد، وفي غمرة النشوة التي ثمل بها قاتليه، هاهم أتباعه وأحبابه ومريدوه يجتمعون في حالة ذهول وصدمة لوقع الخبر على رؤوسهم، وأحسب أن كل من يقرأ ما سأكتبه في هذا المقال -العاجل- لن يتوقع أن أكتب عن مسارعة أهله وأقاربه وإخوانه في حساب تركته وحصر ورثته، بصفته أحد الأثرياء الذين لم يكن المال عائقاً في يوم من الأيام عن ترجمة أقواله وأفكاره إلى عمليات جلبت عليه وعلى تنظيمه لغطاً كبيراً وجدلاً واسعاً..

الاسترخاء بدا واضحاً على أتباع بن لادن في الفترة الأخيرة، الأمر الذي فسره كثيرون بأنه كان ناتجاً عن فشل تنظيم القاعدة في تحقيق إنجازات ملموسة على أرض الواقع أو الوفاء بوعودهم ووعيدهم لأتباعهم وأعدائهم. وهج القاعدة كان يخفت شيئاً فشيئاً مع ازدياد العمليات العشوائية التي سالت معها دماء سخينة لأبرياء لم يكن يجلب سفكها الفخر لأي عاقل فضلاً عن أن يكون مسلماً موحداً، عمليات بشعة قام بتنفيذها مجموعات نُسبت لفكر القاعدة وإن لم ترتبط بها تنظيمياً، بل إن هناك من تحدث عن اختراق دولي لبعض المجموعات "السائبة" لتنفيذ عمليات تخدم أجندات خاصة لم يكن لها أن تتحقق إلا بسيناريوهات دراماتيكية صبغت بلون الدم القاني، كان العراق في فترة من الفترات مسرحاً غنياً بمثلها.

لن تطول فترة الاسترخاء تلك بعد غياب بن لادن القسري، ففي أماكن عديدة من العالم ستوضع مخططات على الطاولة أو يتم إخراجها من الأدراج لتنفيذ عمليات ثأرية تليق بوزن الثائر المجاهد الذي أمضى حياته خصماً عنيداً لدول عظمى، ورأى بعينيه أفول شمس الاتحاد السوفييتي، وتزعزع أركان الولايات المتحدة الأميركية. ولعل مسارعة وكالة الاستخبارات الأميركية (السي آي إيه) بالتحذير المبكر بحدوث تلك العمليات كان مؤشراً واضحاً على حجم المخاطرة التي أقدمت عليها الإدارة الأميركية، وهو ما بدا واضحاً على وجه الرئيس أوباما المتجهم لحظة قراءته لنبأ اغتيال بن لادن، ما أعطي قراءة واضحة للمستقبل الذي لن يكون وردياً للإدارة الأميركية الحالية بقيادة الرئيس الشاب وحزبه الديمقراطي التي ورثت ملف القاعدة الثقيل عن سلفها جورج بوش وحزبه الجمهوري.

أما هو فقد كان رحيله مشابهاً كثيراً للعديد من قادة الجهاد أمثاله مع الفارق في التفاصيل، إذ كان يلاحق الموت والموت يلاحقه، وكان ينتظر تلك اللحظة دون أن يعرف متى وكيف تكون النهاية.. والأهم أنه حرم خصمه اللدود بوش وكافة ملاحقيه من نشوة القبض عليه حياً واعتقاله بطريقة مهينة تحاكي ما جرى مع الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، ولست مضطراً لتصديق ما بثه الإعلام الأميركي بأن الأوامر التي أعطيت للقوة الخاصة كانت تقضي بقتله لا اعتقاله.. أما قصة دفنه في البحر فلا أراها تختلف كثيراً عن ممارسات دأبت الإدارة الأميركية على اقترافها تحت مسمى "الديمقراطية" الأميركية الشوهاء التي لا تسمح لأحد بمناقشتها أو محاسبتها عليها ولو ضربت من خلالها كل المواثيق الدولية والشرائع السماوية عرض الحائط، إنها الديمقراطية التي فرضت على كل شعوب الأرض أن تشاركها فرحتها بقتل بن لادن وعدم الترحم عليه، كي لا تقع ضمن دائرة الاتهام بالإرهاب والانتساب لتنظيم القاعدة أو الرضى عن أفعاله، على قاعدة أن كل من ليس معنا فهو ضدنا!!

صحيح أن ممارسات لا إنسانية ولا إسلامية مورست باسم القاعدة، إلا أن ذلك لم يكن بالضرورة من فعل أسامة بن لادن أو برضاه، خاصة وأن قرار القاعدة وحسب المطلعين المقربين منها كان مختطفاً من قبل الدكتور أيمن الظواهري وتنظيمه. وصحيح أن الولايات المتحدة تمكنت من التخلص من الرمز الأبرز والأصفى لتنظيم القاعدة، إلا أن الأصح هو أنها تخلصت من الرجل الأكثر اعتدالاً والأقل شراسة، وأبقت القيادات التي سخّرت كل فكرها وجهدها وتاريخها لاستغلال "كاريزمية" ومال وحتى بندقية بن لادن لخوض تجربة ما أسموه بالجهاد العالمي وتحقيق مشاريعها الخاصة.

رحل المجاهد العربي المسلم أسامة بن لادن –رحمه الله- كما وصفه بذلك إسماعيل هنية رئيس الوزراء الفلسطيني متحدياً الغضب المتوقع للإدارة الأميركية والدائرين في فلكها، وبقيت ذكرى رجل استفزته سياسة أميركا العوجاء وحرمته من التمتع بثروة طائلة ورثها عن والده ليفني عمره متمتعاً بسياحة فريدة صحبة الرشاش والبندقية..

رحل بن لادن تاركاً خلفه تجربة مهمة جداً بحاجة لدراسة مستفيضة من قبل أتباعه وأنصاره ومؤيديه لأبرز السلبيات والإيجابيات التي واكبتها، ولعل تزامن الرحيل مع تفجر الثورات السلمية في تونس ومصر ومناطق أخرى في عالمنا العربي ونجاحها المبهر بالإطاحة بوكلاء أميركا في المنطقة في ذات الوقت الذي فشلت فيه القاعدة فشلاً ذريعاً حتى في الاقتراب من إنجازه، يعطي مؤشراً على عقم الوسائل بالغة العنف التي اتبعها المنتسبين لفكر القاعدة، وهو ما أجمع كثيرون على أن أسامة بن لادن –رحمه الله- كان ينأى بنفسه عنها، فهل نشهد في قادم الأيام إعادة لتوجيه البوصلة نحو التغيير السلمي لدى رفاق بن لادن أم أن لغة الدماء ستخط مستقبل ورثته؟

                

*  كاتب فلسطيني مقيم في دمشق.