التغيير يبدأ بالأجهزة الأمنية

التغيير يبدأ بالأجهزة الأمنية

عبد الستار قاسم

حاول عدد من حكام العرب امتصاص ثورة الشباب بإقالة الحكومة وتشكيل حكومة جديدة، واعتبروا ذلك عنوانا كبيرا لاستجابتهم لمطالب التغيير. هكذا حصل في تونس ومصر والأردن وسوريا والبحرين. ظن حكام العرب أن الشعب على درجة عالية من الجهل بحيث يظن أن الوزير هو الذي يتخذ القارات ويرسم السياسات ويأمر بالتنفيذ، وأن مجرد تغيير وزراء، أو تبديل حكومة بأخرى سيكون مقنعا للشارع ومهدئا للنفوس. هذا الظن لم يتحقق في أي دولة عربية، والسبب أن الوزير عبارة عن مجرد موظف إداري كبير، ولا يملك صلاحيات رسم سياسات الدولة.

حكومات العرب عبارة عن مجلس من الطراطير (الطرطور هو الذي لا يملك قدرة على اتخاذ القرار، ويسير وفق إرادة غيره) الذين تسيرهم أجهزة الأمن بخاصة المخابرات، والتي تنسق عادة مع رئيس الدولة أو صحاب الجلالة الملك. الوزراء لا يملكون صلاحية لكي يتخذوا قرارات تتعلق بسياسات الدولة الداخلية والخارجية، وفقط يملكون صلاحيات اتخاذ قرارات تتعلق في الحياة اليومية للشعب. هم لا يرسمون سياسة اقتصادية، ولا يعرفون عن السياسة الأمنية، ولا يقررون سياسة اجتماعية أو اقتصادية، وفقط يعملون على تسيير شؤون الناس وفق السياسات المرسومة سلفا من قبل النظام.

قبل تشكيل الوزارة العربية، وأيضا بعد تشكيلها تقوم الأجهزة الأمنية بالاجتماع مع الوزراء أو المرشحين لكي يكونوا وزراء لتداول الحديث. غالبا يقوم مدير المخابرات بهذه المهمة، وهو إما يستدعيهم إلى مقر المخابرات، أو يلتقيهم في أماكن أخرى كنوع من التقدير المزيف. أثناء التداول، يُفهم مدير المخابرات أو من يقوم مقامه حضرات الطراطير أن الأمن هو الآمر الناهي في البلد، وهو الذي يقرر، ويحذرهم بطريقة مهذبة بأن على أحدهم ألا يظن أنه صاحب قرار، وأن على الجميع أن يلتزموا بما يسمى بالسياسة العليا. وعادة يكون الحديث واضحا فيما يتعلق بوسائل الإعلام، وأنه من المحظور الحديث عن السياسة العليا للبلد. ثم يتناولون المناسف أو الكبسة أو الكسكس ليعرف الجميع أن الاهتمام بالكرش أهم من الاهتمام بالوطن.

أجهزة الأمن هي آفة هذه الأمة لأنها هي التي تشيع الفساد والفتن في البلاد، وهي التي تتحكم برقاب العباد. غالبا، أعضاء الأجهزة الأمنية من النوعيات الهابطة التي تتنازل بسهولة عن ضميرها، وتبدي استعدادها لعمل الموبقات وفق التعليمات. أتحدى فيما إذا كان مدير مخابرات عربي واحد، أو مدير جهاز أمني واحد يعرف في فلسفة الأخلاق، أو يعرف بفلسفة القدوة في الحكم. إنه خبير في القمع والإفساد وبث الضغائن والأحقاد وحبك المؤامرات، ويتسلح بميزانية ضخمة لم يسبق لأي دولة عربية أن أفصحت عنها. قد يكون هناك عنصر وطني يعمل في الاستخبارات الخارجية يعرف في مصلحة الوطن، لكنه منزو، أو محجوب حتى لا يلوث الآخرين فتنتابهم مشاعر الوطنية.

أجهزة الأمن هي التي ترعب الناس، وهي التي تزورهم في الساعات المتأخرة من الليل، وهي التي تتجسس عليهم أثناء النهار. هي التي تراقبهم، وتستدعيهم وتحقق معهم وتسبهم وتشتمهم وتهددهم وتطردهم من وظائفهم وتلاحقهم في لقمة أطفالهم وتعتقلهم وتودعهم غياهب السجون وربما تقتلهم أو تنفيهم أو تمثل بأجسادهم. هذه هي الأجهزة التي تقرر فيما إذا كان المواطن محترما وحسن السيرة والسلوك أم لا، وهي التي تقرر فيما إذا كان يصلح للوظيفة أم لا، وفيما إذا كان يستحق الحصول على راتب من البلاد التي من المفروض أنها بلده. هذه الأجهزة المجرمة هي التي تقرر معايير الأخلاق والاحترام، وتقرر من يجب أن يأكل ومن يجب أن يجوع. عمالقة من أهل العلم والأدب والفكر في هذا الوطن العربي الكبير ألقت بهم المخابرات على نواصي الشوارع يبحثون عن عمل لأنهم رفضوا أن يكونوا أدوات للنظام. عنصر أجرب في المخابرات لا يستطيع فك الخط يتطاول بسهولة واستهتار على العلماء والأدباء والمفكرين، ويحرمهم من حقوقهم الدنيا، ويتفاخر عليهم أمام مرتادي الحانات وكهوف الدعارة.

النظام في كل دولة عربية عبارة عن عصابة من اللصوص وقطاع الطرق والزعران والبلطجية، يرأسها جلالة الملك أو فخامة الرئيس، ويحيط به رؤساء الأجهزة الأمنية وبعض العناصر المقربة منه والتي قد لا يكون لها منصب رسمي، وأبناؤه وبعض اقاربه وأصدقائه. في كل دولة عربية، هناك عصابة تحكم، وتتحكم برقاب الناس وتذيقهم سوء المهانة والعذاب. هذا الشخص الذي يظهر على شاشات التلفاز مستعرضا حرس الشرف، وتهتف باسمه جماهير من المنافقين، وتحتفل به وسائل الإعلام عبارة عن أزعر وبلطجي وفهلوي خسيس، ولا يتقن شيئا إلا أن يكون زعيم عصابة.

فإذا كان هناك من حكام العرب من هو بالفعل غيور على الأمة، وأنا لا أرى أحدا منهم كذلك، فإن عليه السير ببرنامج تغيير يبدأ بتفكيك العصابة والتي يشكل قادة الأجهزة الأمنية محورها الرئيسي. التضحية بالحكومة أو بعض الوزراء لا يشير إطلاقا إلى نية حقيقية بالتغيير، وإذا كانت النية متوفرة فإن الخطوة الأولى تتمثل بالقبض على مدراء الأجهزة الأمنية، واعتقال عصابة الرأسماليين، والتخلص من التحتيين الذين يقومون بالأعمال القذرة دون معرفة الجماهير.

هل يجرؤ حاكم عربي على عمل ذلك؟ إذا كان من بين هؤلاء من هو عكس ما نظن، فإن بإمكانه الاحتماء بالشعب من العصابة التي يرأسها. الشعوب الآن موجودة في الشارع، وهي مقبلة على التضحية والفداء، وبإمكانها أن تحمي قرارات وإجراءات التغيير الحقيقية. وهل من الممكن أن يكون رئيس عصابة قائد تغيير؟ من الممكن في حالة واحدة وهي أنه جديد على الصنعة، ولم يستطع التأقلم مع أجواء الانحطاط.