ثقل القلادة لو تعلمون

زهير سالم*

[email protected]

صنّف القرآن الكريم اللباس الذي يلبسه الناس أصلا على أنه زينة . وفسر المفسرون قوله تعالى : (( يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ..)) بأنه أمر بارتداء الثياب التي تستر والتي تجمل وتزين . ولا شك أنه بعد (( وَرَقِ الْجَنَّةِ )) الذي راح أبوانا آدم وحواء يخصفانه على جسديهما أو على بعضه ؛ استطاعت ذريتهما أن تجد لنفسها ثيابا أكثر سترا وأدوم بقاء وأجمل شكلا . في مرحلة متقدمة من تاريخ الإنسان الحضاري والاجتماعي كانت تقاس مكانته بكثرة ما عليه من ( ثياب ورياش ) والعبارة مقتبسة من كتب التاريخ الحضاري العام .

وفي إطار الأناقة أو الترف الأنثوي كانت مكانة المرأة الاجتماعية تتحدد بطول ما تجر وراءها من ذيل . وحين حرم الرسول الكريم جر الثوب خيلاء ( بينا رجل يجر ثوبه خيلاء خسف به فهو يتلجلج في الأرض إلى يوم القيامة ..) ، بادرت النساء يبحثن عن خصوصيتهن في هذا المجال متذرعات بضرورة الستر فرخص لهن الرسول الكريم أن يجررن سبعة أذرع أي ما يعادل المترين في مقاييسنا ، سبعة أذرع تجرها المرأة خلفها كنوع من استعلان المكانة والزينة وما شئتم من مقاصد بعد ...

حين نجد الهرة في الحديقة قد اضطجعت في شمس ربيع وأخذت تنظف نفسها لعقا بلسانها ندرك أن طلب الجمال والحرص على الزينة حاجة فطرية في غرائز المخلوقات . بل إن (( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ )) والإبداع هو الخلق على غير مثال ، جعل من الزينة والجمال مقصدا من مقاصد الخلق ذاته وامتن علينا أن نجوم السماء فوق رؤوسنا في بعض مقاصد خلقها أن تكون زينة وهداية لنا ..

وفي هذا العصر حيث استعلنت ( جراحة التجميل ) و فنونه وأدواته واكسسواراته نمر أحيانا بشباب قد لبسوا اقراطا وتسوروا بأساور في معاصمهم .. قلت مرة لمسايري الذي أطلق استنكاره ان يجد شابا بأسوارة عريضة في يده : ما تنكر على الإنسان ؟ وأنا وأنت نعلم ، وأن سيدنا سراقة قد لبس سواري كسرى بعد وعد رسول الله ، وفي الرواية دلالتان تاريخيتان إضافتان : الأولى أن لبس الأساور كان عادة شائعة كزينة للرجال والنساء ، والثانية كانت عادة شائعة على مستوى الملوك وبين الفرس والعرب ، وأضفت بل لعلنا لا ننسى أن موعدون في الجنة بأساور من ذهب وفضة ..

وكما الأساور كانت وما زالت زينة وحلية للرجال والنساء فقد كانت القلائد والعقود زينة من النوع نفسه تلبسها النساء ويلبسها الرجال تعبيرا عن الزينة والجاه والمكانة ، وربما كان يشترط في القلادة والعقد من الشروط الجمالية أكثر بكثير مما يشترط في الأساور فحبات القلادة ، ومعدن حجارتها وعقد نظامها وترتيبها وواسطتها ولمعانها وبريقها وصوغها كل ذلك كان موضوعا لشعر الشعراء ووصف الواصفين ولعل من أجمل ما قيل قول بصير المعرة :

وكأنني ما قلت والليل طفـل ... وشباب الظلماء في عنفوان

ليلتي هذي عروس من الزنج ... عليهـا قلائـد من جمـان

ومن ألطف ما اشترطوا في القلادة وحباتها أن تكون على نفاسة حباتها وجمالها وأناقتها لطيفة خفيفة على عنق حاملها ..

ولا شك أن القلائد كما الأساور ما تزال تجد هوى في نفوس الرجال والنساء ,وما زال الرجل المطوق كما أطلق عليه الشريف الرضي يجد لنفسه فضلا وزيادة على الخليّ أو الخالي . وما زال الناس يتتايعون بحق أو بأخيه حرصا على طوق يطوقهم أو قيد يقيدهم بغض النظر عن تبعاته وانعكاساته وقدرتهم عن الوفاء باستحقاقات الطوق أو القيد ..

يوضح الراغب الأصفهاني في كتابه الذريعة إلى مكارم الشريعة أن وسائط الإنسان المعرفية أكثر بكثير من الحواس الخمس التي تعارف عليها الناس ويذكر إلى جانبها العديد من الأحاسيس الأولية الأساسية ويضع من جملتها منها قدرة الإنسان على تقدير الأثقال والإحساس بالأوزان ..

الإحساس بالثقل المادي والمباراة في إبراز القدرات عليه تقوم عليه مباريات حمل الأثقال حول العالم وببساطة وسهولة يمكن تمييز بطل العالم في رياضة رفع الأثقال ..

أما الإحساس بالثقل المعنوي وحسن تقدير تبعاته بأبعادها المعنوية هو موضوع يكثر في اللجاج والجدال ..

إن قلادة خيط نظامها السخط وواسطة عقدها القتل وحباتها الاغتصاب والهتك واليتم والثكل والتشريد والإعاقة والجوع والبرد .. لقلادة عنق حاملها يستحق الدعاء والرثاء ما أحس بالثقل وأحسن تقدير التبعة ...

وقديما قالت العرب : ويل للشجي من الخلي ...وفي لامية العرب للطغرائي من الحكمة ما يضيق عنه مقال.

               

* مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية