الوطن العربي: الديموقراطية أو... الطوفان

الوطن العربي:

الديموقراطية أو... الطوفان

الصادق بنعلال

باحث في قضايا الفكر والسياسة

يعيش العالم العربي راهناً وضعاً سياسياً غير مسبوق بكل المقاييس. فبعد أن أجمع كبار المعنيين بقضايا الأمة العربية على تكلس الشارع، واستكانة المواطنين واستسلامهم للأمر الواقع، إنطلاقاً من "إيمانهم" بأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، بل إن البعض الآخر أقرَّ بوفاة العرب ولم يتبقَ سوى "الإعلان" عن هذا الموت، على إثر ما عاشته المجتمعات العربية من هزائم وويلات عسكرية وحضارية، تململ الجسد من جديد ممثلاً بشباب عاش ثورة معلوماتية واختبر بنجاح تقنيات التواصل الاجتماعي الافتراضي، أملاً برؤية الضوء في نهاية النفق العربي المظلم، خاصة وأن المؤسسات العربية الرسمية حقّقت نجاحاً باهراً في حِرمان المواطن العربي من أبسط حقوق المواطنة، وجعله يئنُ تحت وطأة الإقصاء والتهميش والفقر المادي والمعنوي، مما حدا به إلى ركوب قوارب الموت وما بعد "الموت" عسى أن يعثر على قدر يسير من الكرامة...

لم يعد، ولن يعود، الشباب العربي للاستماع إلى الأسطوانة المشروخة: "لا شيء يعلو فوق صوت المعركة"... "تأجيل الانتقال إلى البناء الديموقراطي إلى حين تصفية القضايا القومية الكبرى"...

إن الشباب العربي الراهن قد عقد العزم على وضع حد للأصولية الدولتية، وتغول الأنظمة الحاكمة وعلى مواجهة أنماط سياسية مهترئة وزعامات غارقة في أمراضها الفيزيائية والماورائية، كانت سبباً محرقياً في تفاقم الاحتقانات الداخلية والخارجية، ونشر النعرات العرقية والدينية والفوارق الاجتماعية المدوية، وتعميق بؤر الفساد ونهب الثروات...

لم تعد الغايـة الأسـمى للفاعلين السـياسـيين من شـباب ومثقفين وأصحاب الضمائر الحيـة، هي تغيير مسـؤول بمسـؤول آخر مهما علا أو دنا شـأنـه، لقد أضحى ديدن هؤلاء هو إقامـة أنظمـة سـياسـيـة ذات مصداقيـة ومؤمنـة بالمواثيق والقيم الإنسـانيـة المتعارف عليها دولياً، إنه من أوجب الواجبات في هذه المرحلة التاريخية المباركة غرس نظام سياسي ـ ملكي، رئاسي، جمهوري... ـ مستند إلى دستور حداثي تُشارك في صياغته كل الأطراف المنضوية داخل المجتمع ودون إقصاء أو إستئصال، وفي سياق إستفتاء شعبي حر ونزيه لوضع حدٍ لظاهرة الدساتير الممنوحة والمفروضة على رقاب الشعوب المضطَهدة، وأن يكون هناك فصل بالفعل وليس بالقوة بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، والعمل الجاد من أجل تحقيق مطلب طالما حُرِمَ منه المواطن العربي: ألا وهو الإعلام الورقي والإلكتروني المسـتقل للمسـاهمـة في تنظيف الممارسـة السـياسـيـة العربيـة من مظاهر التزلف وصوغ قصائد المدح للزعيم "القائد المبجل المفدى"!

وهكذا لا يمكن بالبت والمطلق أن نلتحق بركب الدول المتقدمة إلا بالقطع مع أساليب الحكم البائدة: أساليب الغطرسة والاستبداد والفساد بكل أصنافه، وأوضح الطُرق المؤدية إلى هذا المبتغى إنجاز إصلاحات بُنيوية وصادقة وفعَّالة، دون ذلك ستكون ثورتا تونس ومصر المباركتان بداية لسقوط أحجار (الدومينو)...

وقد أعلنها صيحة مدوية منذ (1992) منظر العقلانية العربية المرحوم الفيلسوف محمد عابد الجابري في كتابه "وجهة نظر" حينما قال:"إن الديموقراطيـة في الوطن العربي، هي اليوم أكثر من أي وقت مضى ضرورة لا من أجل التقدم وحسـب، بل من أجل الحفاظ على الوجود العربي ذاتـه".

فهل نحن مستعدون للتضحية بالغالي والنفيس من أجل الدفاع عن الوجود العربي وكينونته؟ هل نحن قادرون على تقرير مصيرنا والمشي قُدماً نحو إرساء دولة الحق والقانون؟ هل نحن متأهبون لزرع بذور الوحدة والتضامن والعدل والحرية..؟

لعل الدماء الزكية لشباب تونس ومصر وغيرها من الدول العربية من شأنها أن تُعلن عودة العرب مجدداً إلى مسرح التاريخ وأن تُشرق شمسهم بعد ظلام حالك السواد.