بين استراتيجية (إسرائيل).. وأجندة أوباما

صبحي غندور*

[email protected]

(إسـرائيل) هي اليوم عبء مالي وسـياسـي كبير على أمريكا وعلى مصالحها في العالمين الإسـلامي والعربي؛ فلم تعد (إسـرائيل) وشـواطئها فقط هي المتاح الأسـاس للتسـهيلات العسـكريـة الأمريكيـة في الشـرق الأوسـط ـــــ كما كانت في حقبـةٍ طويلـة في الحرب الباردة ـــــ، ولم تعد (إسـرائيل) مصدر أمنٍ وحماية للمصالح الأمريكيـة، بل إنَّ تلك العلاقـة الخاصَّـة معها أضحت هي السـبب في تهديد مصالح واشـنطن في بقعـةٍ جغرافيـةٍ تمتدّ من المحيط الأطلسـي إلى المحيط الهندي، ويعيـش عليها مئات الملايين من العرب وغير العرب، وترتبط ثروات هؤلاء أصلاً بل وسـائر خيراتهم الاقتصاديـة ارتباطاً شـديداً الآن بالشـركات والمصالح الأمريكيـة.

ولأنَّ واشنطن رفضت سابقاً دعواتٍ عربيةٍ ودولية لعقد مؤتمرٍ دولي لتحديد "مفهوم الإرهاب" وللفرز بينه وبين حقِّ مقاومـة الاحتلال، فإنَّ المفهوم الأمريكي للإرهاب أصبح هو نفسه مصدر تشجيع للإرهاب، عوضاً عن الحدّ منه ومن أسبابه ومن ظواهره.

فقد أعطى هذا المفهوم الأمريكي للإرهاب "شرعية" أمريكية للممارسات الإسرائيلية العدوانية المتكررة على الشعبين الفلسطيني واللبناني. وكانت حصيلة هذا المفهوم الأمريكي، ونتيجةً للجرائم الإسرائيلية، ردود فعلٍ عديدة من المظلومين في ظلِّ هذا المفهوم وممَّن هم ضحايا لهذه الجرائم.

ولم تعترف واشنطن و(إسرائيل) بمنظمة التحرير الفلسطينية إلا حينما أكّدت المنظمة كتابةً ـــــ في رسالة شخصية من رئيسها ياسر عرفات ثمّ في وثائق إتفاقات أوسلو ـــــ على رفض أسلوب العنف (وهو هنا المقاومة) وتعهّدت باستبداله بأسلوب وحيد فقط هو "التفاوض" والعلاقات الثنائية المباشرة دون وسطاء. لذلك نرى الضغط الأمريكي دائماً على السـلطـة الفلسـطينيـة لجعلها تلتزم بالإدانـة الصريحـة والعلنيـة لأي عمليـة عسـكريـة ضدّ الاحتلال الإسـرائيلي..!!

إنَّ واشـنطن تعتبر أيّ عدوان إسـرائيلي نوعاً من "الدفاع عن النفـس"، بينما تنظر (واشـنطن) إلى المقاومـة ضدّ الاحتلال كما لو كانت "حالـةً إرهابيـة"، تسـتوجب منها الردع والعقاب..!!

فالموقف الأمريكي من القضية الفلسطينية سيبقى موضع شكٍّ ونقدٍ لدى العرب والعالم كلّه طالما استمرّت واشنطن في إغفال التعامل مع العدوان الإسرائيلي على أنَّه حالة احتلال يتوجَّب وقفها فوراً، وأنَّ إنهاء الاحتلال يعني أيضاً بناء دولةٍ فلسطينية مستقلةً على كلّ الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1967 بما فيها القدس الشرقية، وضرورة تلازم ذلك مع ضمانٍ لحلٍّ عادل لحقوق اللاجئين الفلسطينيين.

فلقد تحدَّثت واشـنطن كثيراً عن "دولـة فلسـطينيـة"، لكن دون تحديدٍ لحدود هذه الدولـة وسـكانها وعاصمتها. فلا يكفي الحديث بالعموميات عن "الدولـة الفلسـطينيـة"؛ فحكّام (إسـرائيل) أنفسـهم قالوا بتلك العموميـة، بينما هم يقتلون الفلسـطينيين ويُدمّرون ممتلكاتهم ويُصادرون أراضيهم.

إنّ إدارة أوباما معنيّة حالياً بالرؤية الشاملة للصراعات الدائرة بالمنطقة، وحتماً فإنّ الملفّ الفلسطيني هو أساس مهم في هذه الصراعات رغم التهميش الحاصل الآن للقضية الفلسطينية.

فالتشويه الطائفي والمذهبي يحصل حالياً للصراعات الحقيقية في المنطقة ولمواصفات الأعداء والخصوم والأصدقاء، بحيث لم يعد واضحاً من هو العدوّ ومن الصديق، وفي أيِّ قضية أو أيّة معركة، ولصالح من؟!

نعم هناك صراع دولي/إقليمي على المنطقة العربية. نعم هناك محاور تتصارع الآن في منطقة الشرق الأوسط. لكن ما الذي أوصل المنطقة إلى هذا الحال من الصراع والتصعيد؟

المسؤول الأوّل عن ذلك هو الإدارة الأمريكية السابقة التي وضعت غزو العراق، منذ مطلع العام 2001، في قمّة أولوياتها، وقبل الأعمال الإرهابية في أمريكا، وتجاهلت تماماً الصراع العربي/الإسـرائيلي بعدما كانت الأولوّيـة هي لملفّات هذا الصراع في نهاية إدارة (جورج بوش) الأب عبر مؤتمر مدريد عام 1991، ثمّ في سنوات إدارة (كلينتون) حتى آخر شهر من وجوده في البيت الأبيض.

فلو ضغطت الإدارات الأمريكيـة في السـابق على (إسـرائيل) للانسـحاب من الجولان والضفـة والقدس وغزّة، ومن الأراضي اللبنانيـة كلّها، هل كان للمنطقـة أن تشـهد ما شـهدتـه من تصعيد عسـكري وتأزّم سـياسـي خطير في العقدين الماضيين!؟

لو تجاوبت إدارة (بوش) الأبن بشكلٍ جدّيٍّ مع "مبادرة السلام العربية" التي أعلنتها قمّة بيروت عام 2002، وأقامت على أساسها مؤتمراً دولياً لتحقيق تسوية شاملة على كلّ الجبهات، وإعلان دولة فلسطينية مستقلة، هل كان لأمور المنطقة أن تتعقد وتتأزم كما جرى لاحقاً؟! فلو تمّ ذلك، لما كانت هناك مشكلة تتعلّق بسلاح المقاومة في لبنان أو في فلسطين. لكن إدارة (بوش) اختارت الحرب على العراق ودعم حكومة (شارون) في حربها على الفلسطينيين، مما زاد من انتعاش حركات المقاومة وكلّ مظاهر الغضب على السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط.

إنّ غياب السـلام الحقيقي يسـتحضر الحرب والعنف ويدفع بالخاضعين للاحتلال إلى ممارسـة حقّ مقاومتـه. وغياب الدور العربي الفاعل هو الذي يسـتحضر الدور الأجنبي الدولي والإقليمي. وغياب الوفاق الوطني الحقيقي في أيّ بلد عربي هو الذي يُشـجّع الآخرين على التدخّل بشـؤونـه وتحويل أرضـه إلى سـاحـة صراعات...

وكم هو جهلٌ عربي كبير حينما يحصل هذا التهميـش للقضيـة الفلسـطينيـة حتّى في تفاصيل الأوضاع العربيـة الداخليـة. ولعلّ بعض الشواهد التاريجية مهمّة في هذا الحديث: عدوان ثلاثي إسرائيلي/ فرنسي/ بريطاني على مصر في العام 1956 لأنّ جمال عبد الناصر قام بتأميم شركة قناة السويس لأسباب داخلية مصرية. أمّا في لبنان، فقد بدأت فيه حربٌ أهلية دامية وطويلة في العام 1975 ارتبطت بمسألة الوجود الفلسطيني على أرضه، الوجود المسلح وغير المسلح. فهل يمكن أن يشـهد المشـرق العربي اسـتقراراً دون حلولٍ عادلـة لحقوق الشـعب الفلسـطيني؟! أليسـت أوضاع المنطقـة العربيـة كلّها تتأثر بمجريات الصراع العربي مع (إسـرائيل) وبالمشـاريع الاسـتعماريـة الداعمـة لها؟! ألم يكن تفكيك السـودان مؤخراً ومحاولات تقسـيم العراق ولبنان وغيرهما، مصلحـةً وهدفاً إسـرائيلياً يتمّ العمل لأجلهما منذ حصول نكبـة فلسـطين قبل أكثر من سـتـة عقود؟!

أليس كذلك هو حال كثيرٍ من الدول العربية التي يرتبط الاستقرار السياسي والاقتصادي فيها بمصائر الحروب والتسويات مع (إسرائيل)؟! أليس أيضاً تحجيم التدخّل الإقليمي الإيراني والتركي في الشؤون العربية أمراً يرتبط في مستقبل القضية الفلسطينية وما لهاتين الدولتين من علاقات وتأثير في الصراع العربي مع (إسرائيل)؟!

ففلسـطين هي جغرافياً في قلب الأمـة العربيـة، وهي دينياً محطـة الرُسـل والأنبياء، ومن يُسـيطر عليها يُهيمن على مربط الوصل بين آسـيا وأوروبا وأفريقيا، ويتحكم بمصير الدول العربيـة الفاعلـة المجاورة لها. لذلك كانت فلسـطين هي البدايـة في "وعد بلفور"، قبل تقسـيم المنطقـة العربيـة في (سـايكـس بيكو) بمطلع القرن العشـرين قبل مائـة عام. وفلسـطين كانت هي المدخل في حروب "الإفرنج" قبل ألف عام. وفلسـطين كانت هدف المسـتعمرين الجُدد في القرن الماضي. وسـتبقى فلسـطين، في مطلع هذا القرن الجديد، حجر الزاويـة في أي مشـاريع تسـويـة لأزمات المنطقـة كلّها.

لكن مشـكلـة الرئيـس (أوباما) الآن، في أجندتـه الشـرق أوسـطيـة، هي ليسـت مع خصومـه الدوليين والإقليميين بل مع أقرب حلفائـه الآن؛ فالأشـد خطورة على اسـتراتجيـة التحرّك السـياسـي الأمريكي الآن مصدره (إسـرائيل) وما لديها من نفوذ سـياسـي وإعلامي مؤثّر في الولايات المتحدة وفي دول أوروبا. وقد كان رئيس الوزراء الإسرائيلي (نتنياهو) واضحاً وصريحاً في اعتراضاته على التقارب الأمريكي/الأوروبي مع طهران، وأطلق التحذيرات العلنية من الوصول إلى اتّفاقات مع إيران حول ملفّها النووي، إذ أنّ (إسرائيل) ترفض من حيث المبدأ وقف الصراع مع إيران، فكيف بتحقيق تفاهماتٍ دولية معها!؟

إنّ (إسـرائيل) تعمل منذ سـنوات، على جعل أولويّـة الصراعات في المنطقـة مع إيران وحُلفائها بالمنطقـة، وعلى إقامـة محور عربي/إقليمي/دولي تكون (إسـرائيل) فيـه هي الرائدة لإشـعال حرب عسـكريـة ضدّ إيران ومن معها في سـوريا ولبنان وفلسـطين؛فالمراهنـة الإسـرائيليـة هي على تهميـش الملف الفلسـطيني وعلى كسـب الوقت لمزيدٍ من الاســتيطان في القدس والضفـة الغربيـة، وعلى تفجير صراعات طائفيـة ومذهبيـة وقبليـة تؤدّي إلى تفتيت الكيانات العربيـة الراهنـة، وإنهاك وإنهاء حركات المقاومـة ضدّها في فلسـطين ولبنان، وتدمير الجيوش العربيـة الكبرى في المنطقـة، وتُراهن على إقامـة تطبيع سـياسـي وأمني مع كل الأطراف العربيـة التي تقبل السـير في المحور الإسـرائيلي المنشـود.

لذلك، من الصعب أن تخضع (إسـرائيل) الآن للمطالبـة الأمريكيـة والدوليـة بوقف الاسـتيطان، وهي لن تقبل حتماً بتقسـيم القدس ولا بحلّ قضيـة اللاجئين ولا بإقامـة دولـة فلسـطينيـة مسـتقلـة ذات سـيادة على حدود العام 1967..!! ثمّ إن (إسـرائيل) لا تجد مصلحـةً إطلاقاً في الإئتلاف الدولي الذي تقوده واشـنطن ضد "داعـش" والذي يقوم الآن على التوافق الغربي مع إيران وعلى العمل لإنهاء الأزمـة الدمويـة السـوريـة بتسـويـة سـياسـيـة تحافظ على وحدة الكيان السـوري وتُعيد بناء الدولـة السـوريـة على أُسـس سـليمـة.

هو تباينٌ كبير حاصلٌ الآن بين استرايجية (إسرائيل) وبين أجندة (أوباما) التي تأخذ بعين الاعتبار المصالح الأمريكية أولاً، لكن يبقى الأساس في عدم تراجع إدارة (أوباما) نفسها عن هذه "الأجندة"!

               

* (مدير "مركز الحوار العربي" في واشنطن)