تعارف الحضارات والمفكر زكي الميلاد

سلمان عبد الأعلى

 منذ أن أطلق المفكر السياسي الأمريكي صامويل هنتغتون نظريته المسماة بـ "صدام الحضارات"، والسجالات حولها لم تنتهي، إذ أنها واجهت العديد من السجالات التي رفضتها وناقشت ركائزها وآثارها.. وقد يكون أبرز من تصدى لهذه النظرية المفكر الفرنسي المسلم روجيه غارودي عبر أطروحته الشهيرة التي أطلق عليها أسم "حوار الحضارات"، والتي تأتي في مقام النقد والرد لنظرية صدام الحضارات، وقد كُتب لهذه الأطروحة الانتشار الواسع أيضاً، فلقد تبنتها العديد من الجهات والبلدان والشخصيات وروجت لها، وأقامت لأجلها العديد من الندوات والمؤتمرات التي كان شعارها هو "حوار الحضارات"، وبالخصوص الحوار بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية.

المفكر الميلاد وتعارف الحضارات:

 بين مقولة صدام الحضارات ومقولة حوار الحضارات يطرح المفكر زكي الميلاد أطروحته المسماة بـ تعارف الحضارات، وهي أطروحة ذات رؤية إسلامية مستوحاة من الآية القرآنية المباركة ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ))[1]. إذ يقول الميلاد في تعليقه على هذه الآية المباركة: ((هذه الآية تؤسس لعلاقات بين الأمم والحضارات على قاعدة التعارف "ليتعارفوا" وليس على أساس النزاع أو الصدام أو الإلغاء والإقصاء. ولقد كونت نظرية من خلال دراسة هذه الآية في عناصرها ومكوناتها التجزيئية والتركيبية، أطلقت عليها نظرية "تعارف الحضارات" واعتبرتها الطريق الثالث الذي بحاجة لاكتشاف مقابل ما يطرح في الغرب من "صدام الحضارات"، و"حوار الحضارات"، فمن غير ان تبدأ الحضارات من التعارف لن تتخلص من رواسب الصدام، لتصل إلى حوار الحضارات)).

 ويضيف بقوله: ((التعارف هو أرقى المفاهيم، وأكثرها قيمة وفعالية، ومن أشد وأهم ما تحتاج إليه الأمم والحضارات، وهو دعوة لأن تكتشف وتتعرف كل أمة وكل حضارة على الأمم والحضارات الأخرى، بلا سيطرة أو هيمنة، أو إقصاء أو تدمير. والتعارف هو الذي يحقق وجود الآخر ولا يلغيه، ويؤسس العلاقة والشراكة والتواصل معه لا أن يقطعها أو يمنعها أو يقاومها))[2].

 وهذا الكلام جميل جداً ومريح للنفس لما فيه من إيجابية وتفاؤل؛ على عكس ما تقول به نظرية صدام الحضارات التي تجعل الإنسان يعيش القلق والتشاؤم في آن واحد، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل نحن في الواقع الفعلي الذي نعيشه نشهد صداماً للحضارات أم حواراً وتعارفاً ؟!

 إن هذا السؤال لم يفت المفكر الميلاد الإجابة عليه، وفي ذلك يقول: ((والحقيقة أن ما ذهب إليه "هنتغتون" هو صحيح من حيث الواقع الموضوعي الذي عليه العالم اليوم، فنوعية الرؤية التي تعبر عنها كل حضارة من الحضارات المعاصرة عن نفسها، وعن رؤيتها للآخر، ينتهي بها إلى التصادم، وهو الواقع بالفعل الذي أوصل الحضارات المعاصرة إلى التصادم. فالذي يعيشه اليوم هو تصادم بين الحضارات، ونحن على هذا الحال منذ عدة قرون من الزمان.. والذي اختلف أن وعينا بهذا التصادم اليوم هو أكبر وأوسع من السابق، والذي يكبر ويوسع هذا الوعي في أذهاننا هو ما نراه ونلمسه من تداخل شديد بين أجزاء العالم المترامي الأطراف، الذي بات يختزل نفسه في ما يشبه القرية))[3].

 وبعد ذلك، نجد أن المفكر الميلاد لم يكتفي فقط ببيان الوضع القائم الآن، بل ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، إذ وجه أصابع الإتهام للغرب بكونه هو المتسبب لهذه الحالة التي يعيشها العالم حالياً من صدام وصراع، حيث يقول: ((وما ينبغي أن يتوقف عنده بالدراسة والتحقيق، خصوصاً من مؤرخي العصر الحديث، أن الغرب تاريخياً هو الذي أدخل العالم في صراع الحضارات، وكان هو الطرف المصادم للحضارات، في الأزمنة التي كان يشهد فيها تصاعده المتفوق، وكل الأمم والحضارات التي احتك بها الغرب خرجت بموقف ناقم منه. لتوجهاته العدوانية، وأما الأمم التي أدخلها الغرب تحت سيطرته فقط أصابها من التدمير في البنى التحتية الأساسية ما شل قدرتها على الإنماء والنهوض لفترة طويلة من الزمن))[4]. فصحيح أن الوضع الحالي هو صدام أو أقرب للصدام منه إلى التعارف والحوار، ولكن لا ينبغي أن يغفل عن سبب ذلك والمتسبب فيه !

لماذا تعارف الحضارات؟

 إن هذا السؤال من الطبيعي أن يطرحه أي شخص لديه إطلاع على هذا الموضوع، وله الحق في ذلك، فما هي الحاجة لنظرية تعارف الحضارات؟ وما هي الإضافة التي سوف تضيفها؟ وهل هناك ثغرات تعاني منها نظرية غارودي القائلة بـ حوار الحضارات حتى ننتقل منها إلى نظرية تعارف الحضارات ؟!

 هذه الأسئلة وغيرها قد تتوارد إلى الذهن عند المرور بذكر هذه الأطروحة "تعارف الحضارات"، وهذا ما لم يغفله المفكر الميلاد، ولذلك نجده يقول: ((ومع ذلك فإن من المبرر أن يعاد طرح مقولة حوار الحضارات مع ما أثارته من جدل لم ينقطع بعد، مقولة صدام الحضارات، لأن حوار الحضارات هي المقولة الجاهزة والاعتراضية على المقولة الثانية، لكن هل في مقدورها الحلول مكانها؟ هذا ما يصعب إثباته. قد تستخدم وسيلة اعتراض ونقد، لكن أن تكون هي الأساس في تشكيل رؤية الغرب للعالم والمستقبل، فهذا محل خلاف لعدم وجود ما يسنده من الأدلة والبراهين والشواهد)).

 ويردف قائلاً: ((والذي أتوقف عنده، هل ان البيئة العالمية وصلت إلى مرحلة من النضج تتقبل فيه حوار الحضارات بالاستعداد الحيوي والتفاهم المشترك! وهل الغرب يسمح لنفسه أن يدخل في حوار مع حضارات لا يجد فيها التكافؤ معه. وهو المحكوم بعقلية التوازنات المادية! وهل أن الحضارات الأخرى كالحضارة الاسلامية والهندسية والسلافية والإفريقية وحضارات العالم الثالث، أخذت توازنها الطبيعي في البناء الحضاري، واستعادت مقوماتها وقدراتها بما يؤهلها إلى حوار مع الحضارات الكبرى والمتقدمة في العالم بصورة متكافئة؟))[5].

 ويلخص وجهة نظره في ذلك قائلاً: ((يبقى أن مقولة حوار الحضارات، هي أصلح وأسبق من مقولة صدام الحضارات على مستوى المعرفة والفكر، لكن الوصول إليها كواقع وممارسة تقف دونه مسافات طويلة تمنع من أن يتقدم العالم خطوات نحوها))[6].

مرتكزات تعارف الحضارات:

 بعد أن قام المفكر الميلاد بتحليل جزئي للآية الكريمة ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ))[7] خلص إلى ما أسماه بـ مستخلصات من هذه الآية، والتي تمثل مرتكزات لتعارف الحضارات، وسوف ننقلها باختصار قدر الإمكان وهي كالتالي[8]:

1. إن القرآن الكريم خطاب إلى الناس كافة، من غير أن يتحيز إلى أمة بعينها، ولا أن يفضل أمة على أمة أخرى بسبب القوم أو العرق أو اللغة أو اللسان، كما أن هذا الخطاب لم يأت للناس في زمن دون آخر، ولا لمكان دون مكان آخر.

2. وحدة الأصل الانساني ((إنا خلقناكم من ذكر وأنثى)) فالانسانية بكل تنوعاتها العرقية والقومية، اللغوية واللسانية، الدينية والمذهبية، وبكل مستوياتها في المعايير الاجتماعية والعلمية والاقتصادية، إنما ترجع إلى أصل واحد. والقرآن الكريم لا يريد أن يقدم هذا إكتشافاً، وإنما يريد أن تعي الانسانية هذه الحقيقة وتحكمها كمبدأ في نظرة كل إنسان إلى إنسان آخر، ونظرة كل أمة إلى أمة أخرى.

3. إن القرآن الكريم يريد للناس أن ينظروا لأنفسهم على أنهم أسرة إنسانية واحدة على هذه الأرض، مهما اختلفوا في اللون واللسان. ومهما تباعدوا في الأوطان. مع كل ما بينهم من فوارق واختلافات إلا أنهم ينبغي أن يتعاملوا فيما بينهم بمنطق الأسرة الواحدة.

4. أن يتعامل العالم على خلفية الأسرة الانسانية المشتركة الواحدة، فهذا يعني إزالة كل الأحقاد والعصبيات والعنصريات والكراهية بين الناس، الظواهر التي تقف وراء كل ما يصيب العالم من نزاعات وصراعات وحروب مدمرة. كما أن هذه الخلفية تمثل أعمق المكونات الروحية والأخلاقية في الروابط بين الأمم والشعوب والحضارات.

5. التنوع والتعدد الإنساني حقيقة موضوعية يؤكدها الكريم ((وجعلناكم شعوباً وقبائل)) لأن الله سبحانه وتعالى بسط الأرض بهذه المساحة الواسعة لينتشر الناس فيها، ويعمروها ويستفيدوا من خيراتها (...) وقد تعددت وتنوعت الثروات بين الشعوب حسب إمكانات الأرض وقدراتهم على الاستفادة منها..

6. إن القرآن الكريم ربط بين وحدة الأصل الانساني، وبين التنوع الانساني في هذه الآية، الربط الذي يفهم منه أن وحدة الأصل الانساني لا تعني إلغاء التنوع بين الناس في أن يعيشوا شعوباً وقبائل. وأن التنوع والانقسام في العيش إلى شعوب وقبائل لا يعني إلغاء وحدة الأصل الإنساني، أو أن البشرية لا يعنيها هذا الأصل وأنها تخطته وتجاوزته، أو أنه كان يعبر عن مرحلة تخطتها البشرية حينما تجاوزت عهودها البدائية. ومن بلاغة القرآن الكريم تقديم وحدة الأصل على قاعدة التنوع، لكي يكون التنوع متفرعاً عن الأصل..

7. استخدم القرآن الكريم كلمة "الخلق" في هذه الآية حينما قال: ((إنا خلقناكم من ذكر وأنثى))، وكلمة "الجعل" حينما قال: ((وجعلناكم شعوباً وقبائل)). فما هو الفرق بين لفظ الخلق ولفظ الجعل؟ (...) لفظ "الخلق" لم يستخدم في القرآن الكريم إلا في حق الله سبحانه وتعالى، فهو الخالق، خالق كل شيء، ولا يصدق على غير الله جل شأنه أنه خالق (...) أما الجعل فهو التقدير الذي يأتي لتحديد الوظائف والخصوصيات وما يترتب عليه الاقتضاء. فالله سبحانه وتعالى خلق الذكر والأنثى بالعلم لأنه عليم، وجعل الناس شعوباً وقبائل، أي قدر لهم ذلك لأنه خبير، وكل ما خلقه الله سبحانه وتعالى فهو يعلم، وقد لكل ما خلق لأنه الخبير (...) وحينما جعل الله الناس يعيشون شعوباً وقبائل، فإن هذا تقديراً منه جلت قدرته، التقدير الذي فيه المصلحة، ولهذا فإن البشر لا يمكن أن يعيشوا إلا شعوباً وقبائل..

8. إن القرآن الكريم يؤسس مبدأ التعارف بين الأمم والشعوب والحضارات "ليتعارفوا" فالتنوع بين الناس إلى شعوب وقبائل، وامتدادهم وتكاثرهم على ربوع الأرض، لا يعني أن يتفرقوا، وتتقطع أواصرهم، ويعيش كل شعب في عزلة عن الشعوب الأخرى، كما لا يعني هذا التنوع أن يتصادموا ويتنازعوا، من أجل الثورة والقوة والسيادة، وإنما ليتعارفوا.

9. لا يكفي أن يدرك الناس أنهم من أصل إنساني واحد وينتهي كل شيء بل هم بحاجة إلى أن يتعارفوا، وأن يصل مستوى هذا التعارف بالشكل الذي يتحقق بين الأسرة ذات الأصل الواحد. وأن يصل التعارف بالعالم إلى مستوى يعيش فيه الناس كما لو أنهم أسرة إنسانية واحدة ذات أصل انساني واحد.

10. من غير أن يكون هناك تعارف بين الأمم والحضارات، لن يكون هناك حوار ولا تعاون. فالتعارف هو الذي يحدد مستويات الحوار والتعاون، ويثريهما، ويثمرهما، كما أن التعارف له دور وقائي في منع النزاع والصدام على مستوى الأمم والحضارات. لهذا فإن اختيار مفهوم التعارف الذي ينبني عليه مفهوم تعارف الحضارات، هو أكثر دقة، وفاعلية في السياق الذي تحدثت عنه الآية.

11. إن القرآن الكريم حينما يتحدث عن التعارف، فإن هذا المفهوم يستتبع معه مفاهيم الانفتاح والتواصل والسلام ومد الجسور، وعدم الانغلاق والقطيعة والكراهية، التي هي شرائط التعارف من جهة تحققه. وهناك ما يترتب عليه، من جهة المعطيات والمنافع، وهنا تبرز مفاهيم التعاون والترابط والتبادل. كل هذه المفاهيم تؤكد حيوية هذا المفهوم وفاعليته..

12. إن المقصود من التعارف، هو المعنى الأعم والأشمل لهذا المفهوم الذي يتجاوز الحدود السطحية المتعارف عليها، إلى ما هو أعمق من ذلك، والذي من أبعاده أن تتعرف كل أمة وكل حضارة على إمكانات وقدرات وثروات الأمم والحضارات الأخرى، بالاضافة إلى معرفة الظروف والمشاكل والتحديات، وكل ما يتوقف ويترتب عليه التعارف.

13. لا يلغي القرآن الكريم مبدأ التفاضل بين الناس، وبين الشعوب والقبائل، لأن التفاضل إنما يعبر عن واقع موضوعي لا يتعارض مع مبدأ العدل والمساواة. والذي يحاول القرآن تغييره هو مقاييس التفاضل، من مقاييس التفاخر بالأنساب وبالقوم والقبيلة والعشيرة والعرق، إلى مقاييس سامية تربط الأمم والحضارات بالقيم وأهمها الإيمان بالله سبحانه وتعالى.

14. إن الأحقاد والكراهية والبغضاء تحصل بين الناس وبين الأمم والشعوب حينما تتمحور معايير التفاضل في إطار عالم الانسان، تتحول إلى عصبيات تتعالى فيها معايير القوم والعرق واللغة والقبيلة والعشيرة، وهكذا حينما يتحول الدين والمذهب، وحتى العلم والثقافة الى عصبيات وتطرف فالأمم والشعوب تتعالى عن هذه الأحقاد والعصبيات إذا التزمت بمبدأ (إن أكرمكم عند الله أتقاكم).

15. شخصية كل أمة في كرامتها، لأن الكرامة هي التعبير الحقيقي لوجدان كل أمة والتي تشكل للأمم نظرتها إلى ذاتها، وإلى مكانتها وسيادتها وعزتها. وأكثر ما تصاب به الأمم حينما تتأثر كرامتها، حتى قيل أن ألمانيا دخلت الحرب العالمية الثانية إنتقاماً من الإذلال الذي فرضته عليها دول الحلفاء بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى.. فالأمة لها كرامة، كما الانسان الفرد له كرامة.

16. العلاقات والروابط بين الأمم والشعوب والحضارات في المنظور الإسلامي، ليست مجرد مصالح ومنافع. وليست محكومة بالسياسة والاقتصاد فحسب، وإنما هناك القيم والآداب والأخلاق (إن أكرمكم عند الله أتقاكم). والتقوى هي التي تجمع القيم والآداب والأخلاق وترمز إلى منظومة القيم والأخلاق.

17. إن العالم لا يستطيع أن يعالج أزماته ومشاكله بالسياسة فحسب، أو بالاقتصاد والعلم فقط. فالسياسة تحولت إلى أداة لجلب المصالح، والاقتصاد محكوم بالمنافع وبقاعدة الربح والخسارة، والعلم انفصل عن القيم. والذي يضيفه الاسلام في هذا المجال، مجال العلاقات الدولية هو ادخال منظومة القيم والأخلاق "التقوى". فقد بات من المؤكد أن العالم بأمس الحاجة إلى منظومة من القيم والأخلاق، لأن من أشد ما يفتقده العالم المعاصر ويتضرر كثيراً بافتقاده، هو انعدام العامل الروحي والوجداني والأخلاقي في العلاقات الدولية وبين الأمم والحضارات.

18. إن التقوى باعتبارها الإطار الجامع للقيم والآداب والأخلاق تزيل العصبيات بكل أشكالها العرقية والقومية والطبقية، والتي هي من أشد العوائق تأثيراً وسبباً في إنقسام الأمم والشعوب وتصادمها، هذا من جهة السلب، أما من جهة الإيجاب، فإن التقوى تعطي دفعه قوية للتعارف، وفي توثيقها، والمحافظة عليها، وفي تطويرها وتفعليها.

19. ان يرتضي الناس والأمم والحضارات ما يختاره الله سبحانه وتعالى لهم من سنن وقوانين وآداب وقيم وأخلاق، في سعيهم لعمارة الأرض وبناء الحضارة، لأن الله هو "العليم الخبير"، وإذا كان الناس يأخذون من صاحب العلم والخبرة من البشر، فالله سبحانه وتعالى هو أعلم العالمين، وهو الذي أعطى الانسان العقل والاستعداد لاكتساب العلم، وهو الذي يهدي إلى سبيل الصواب.

 وبعد أن استعرض المفكر الميلاد هذه المستخلصات من الآية المباركة تمم فكرته قائلاً: ((الملاحظ بصورة عامة أن كل حضارة تشتكي من الحضارات الأخرى على أنها لا تُعرف بالشكل الذي ينبغي، أو لا تُعرف إلا من خلال بعض الظواهر العابرة والسطحية والمحدودة، الأمر الذي يؤكد أن هناك جهلاً متبادلاً بين الحضارات. هذا الجهل هو من أشد العوائق تأثيراً في عرقلة حوار الحضارات، ويكون سبباً في أي تصادم بين الحضارات. ورفع هذا الجهل هو أحد أبعاد مقولة تعارف الحضارات، والذي ينبغي أن يشترك الجميع في رفعه.. ))[9].

 إذاً هناك عوائق تقف دون تحقيق الحوار بين الحضارات، ولهذا تأتي نظرية تعارف الحضارات لتعالج هذه الحالة، فمن بوابة التعارف يأتي الحوار.. وللأسف أننا نشهد أن الكثير من الشخصيات أو الجهات أو البلدان ترفع شعار حوار الحضارات وتناشد به، ولكنها تقف موقفاً سلبياً أو شبه سلبي من تحقيق الحوار بين الحضارة الواحدة فيما بينها، فالبعض يطالب بحوار الحضارات؛ ولكنه يرفض أو لا يتحمس لفكرة الحوار مع المذاهب التي تنتمي لنفس حضارته، كالحوار بين الشيعة والسنة، وكان من الأولى على المسلمين أن يدعموا الحوار بين المذاهب والتيارات الفكرية الإسلامية المختلفة قبل أن يتوجهوا لحوار الحضارات.

 لذا نحن نحتاج للتعارف ليس فقط بين الحضارات؛ وإنما التعارف بين جميع الأطراف المختلفة والمتعددة لاسيما بين المذاهب الإسلامية، فنحن ندرك حالة الجهل الذي يعيش فيه الكثير من أبناء المذهبين (السنة والشيعة) ببعضهم البعض، ولهذا هم يحتاجون للتعرف على بعضهم البعض أكثر؛ ليهيئوا الأرضية المناسبة للحوار الصحيح فيما بينهم قبل أن يتوجهوا للحوار أو التعارف مع الحضارات الأخرى، كما نشاهد حالياً من الدعوة للحوار بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية.

 ختاماً نقول: آمل أن تلقى أطروحة المفكر الميلاد حول "تعارف الحضارات" نصيبها من البحث والاهتمام والتبني وبالخصوص عند المسلمين، من خلال إقامة الندوات والمؤتمرات التي تدعمها وترفعها كشعار لها، كما حصل مع مقولة "حوار الحضارات" وذلك لأنها مقولة تنطلق من عمق الرؤية الإسلامية في التعامل مع الآخر، ولأنها أيضاً تسهم في معالجة إشكالات الوضع القائم (ما هو كائن في الحاضر) وترشد لما ينبغي أن يكون عليه الوضع في المستقبل.

                

[1] سورة الحجرات، آية 13.

[2] راجع كتاب المسألة الحضارية لزكي الميلاد ص 36.

[3] راجع المصدر السابق ص62.

[4] راجع المصدر السابق ص63-64.

[5] راجع المصدر السابق ص69.

[6] راجع المصدر السابق ص70

[7] سورة الحجرات، آية 13.

[8] راجع كتاب المسألة الحضارية ص 74 -87 منقول ببعض التصرف.

[9] راجع المصدر السابق ص78 - 79.