أوباما ليس مهماً

حارثة مجاهد ديرانية

حارثة مجاهد ديرانية

[email protected]

لقد اخترت هذا العنوان وأنا أحسب أن الغالبية العظمى من القراء سوف يفهمون ما عنيت به[1]، ولعل قائلاً أن يظهر عجبه من كتابة مقال كهذا الآن وقد ولى وقت نتائج الانتخابات منذ حين من الزمن، وهدأ النقاش المعهود عن الرئيس الجديد أهو رجل صالح سينقذنا مما نحن فيه أم هو شرير سيزيد في أذيتنا إمعاناً، ولكن الرد على عجبه سهل يسير، ذلك أن هذا النقاش -كما وصفته للتو- هو نقاش معهود، وما أكثر نقاشاتنا "المعهودة" التي تضيع أعماراً ولا تأتي بطائل! فاسمحوا لي أن أضمن لكم أن نقاش الأمس القريب سيكون نقاش الغد، كما كان نقاش قبل أمس والذي قبله والذي كان قبل قبله، ثم أوغلوا في الماضي ما شئتم فإنكم تجدون الحكاية نفسها لا تتبدل فيها غير الأسماء! من أجل ذلك ما باليت أن يكون قد مضى على نتائج الانتخابات بعض من الزمن أو كثير منه، ودعوني لكي نفهم الحكاية ولماذا لا يهم سواء كان أوباما أم غير أوباما، دعوني أحدثكم أولاً عما يُرى وما لا يرى، لعل الأمور أن تتجلى لنا من بعد ذلك. تصوروا أني أردت أن أشتري ساعة فذهبت واشتريتها من محل اسمه "عمرون"، ثم لم يمض على شرائي إياها أسبوع حتى توقفت عن العمل فجأة، فقمت إلى المحل أراجعه، فأجيبوني الآن: هل يهم في شيء آلذي باعني الساعة كان زيداً أو عمراً أو فلاناً من الناس؟ الجواب معروف، وهو أن شخص الذي باعني الساعة لا يهم أبداً، وجل ما كان البائع يصنعه يوم دفع إلي الساعة ودفعت إليه بمالي أنه كان يمثل شركة عمرون التي يعمل بها، فلا الساعة كانت ملكاً له قبل أن يعطيني إياها، ولا صار المال الذي دفعته إليه من ماله. فمع من كنت أتعامل يوم اشتريت الساعة؟ وإذا لم أكن أتعامل لا مع محاسب الصندوق ولا عامل التنظيف بل ولا حتى مع المدير التنفيذي للشركة فمع كنت أتعامل إذن؟ والجواب أنني كنت أتعامل مع "شركة عمرون" للساعات! وكل الناس يعرفون نظرياً هذا الكلام الذي نقوله الآن فلا جديد فيه، ولكن كثيراً منهم يفشلون في أن يروا فيه العبرة التي تتعدى إلى غيره. إن محاسب الصندوق هو ما يُرى، وأما "النظام" المسمى شركة عمرون فهو ما لا يُرى. ولكني كنت في الحقيقة أتعامل مع هذا الأخير الذي لا يُرى، وكان ما يُرى (محاسب الصندوق) عديم الأهمية في الواقع! والآن وقد رأينا أن شركة عمرون هي كيان قائم بذاته، وأنها نظام مستقل لا يرتبط ارتباطاً مباشراً برجل بعينه، دعونا نتخيل بقية لحكايتنا، إذ يقوم واحد من موظفي شركة عمرون -ولنسمه زيداً- بنشر رأيه بين الناس، رأيه الذي يقول إن ساعات الشركة المنافسة "زيدون" أمتن صنعاً وأطول أعماراً. ثم لم يكد هذا الكلام الذي يقوله زيد يصل إلى بعض الناس الذين يعملون في شركة عمرون حتى انتشر انتشار النار في الهشيم، وحتى انقلبت الشركة كلها عليه وأقامت عليه الحرب على الرغم من أن الكلام الذي قاله لم يكن غير الحق! لقد كان كثير من العمال الذين يعملون في شركة عمرون أصدقاءه، ولكن هذا لم يفده بشيء لما أضحى تهديداً خطيراً يهدد أمن النظام الكبير. إن الأنظمة هي أشياء لا تُرى، ولكنها تعني مصالح مهمة بالنسبة إلى عناصرها المنتمين إليها من البشر، ومن أجل ذلك يدافعون عنها بشراسة حينما يكون ارتباط مصالحهم بوجود النظام عالياً، فهم سدنتها الذائدون عنها. والنتيجة المهمة من ذلك كله هو التالي: هو أن النظام -على الرغم من أننا نعتبره كياناً وهمياً صنعناه بأنفسنا فلا وجود مادياً له- مخلوق حي يدور ويتحرك، والأهم من ذلك كله أنه يدافع عن نفسه بشراسة شديدة إذا هدده مهدد بالأذى أو الزوال!

هنا تبين لي أن كثيراً من الناس يخلطون أشياء لا ينبغي لها أن يخلط بعضها ببعض، فحينما ترى كثيراً ممن حولك مهتمين بأن يقرروا هل أوباما رجل صالح أم طالح فإن لك كل الحق في أن تشعر بالقلق! إذ ليس أوباما للنظام الذي يخدمه بأكثر من محاسب الصندوق لشركة عمرون، ولكن كثيراً من الناس لا يعلمون! عندما يتجادل أولئك الناس فيكون محور جدلهم أوباما، فإنك تعرف أنهم قوم قد بنوا كل محاكمتهم على فرضية خفية فاسدة هي أن مشكلتنا مع رئيس أمريكا، وما أبعد ذلك عن الصواب! لقد ضلَّلَنا أوباما لأنه شيء يُرى فلوى أعناقنا حتى ما عدنا قادرين على أن نبصر عدوَّنا الحقيقي الذي لا يرى، وهو النظام الذي كان أوباما أحد ممثليه وحسب. ودعونا -لكي تزداد المسألة وضوحاً- نطرح المزيد من الأسئلة، فإذا كنا اتفقنا على أن في هذا العالم ما لا يحصى من الأنظمة المتصارعة، أفليس من المنطق إذن أن يكون أحد الأنظمة العملاقة فاز بسيادته على سائر الأنظمة الأخرى في العالم؟ وما أظن من العسير أن نتفق على أن النظام الذي حاز الملك والسيادة هو النظام الغربي عموماً[2] (أمة الرجل الأبيض). قلنا إن هذا النظام قد ملك وساد وتقوى وتجبر، فهل يمكن أن يسمح لأي كان أن ينافسه على عرشه الذي تربع عليه؟ كلا! بالطبع ما كان لنظام إذا ساد أن يسمح لغيره بالسود عليه، وسيدافع عن نفسه بشراسة شديدة، و"بلاأخلاقية" في حالة النظام الغربي، وهي مسألة مهمة سنعود إليها لاحقاً.

فالحمد لله الذي علّمنا أن انحصار التفكير[3] فيما تراه الأعين التي في الرأس لا يكفي وحده دائماً لفهم الأمور، وأن في الرأس جهازاً آخر عظيماً حبانا الله به يقولون عنه "دماغ"، إذا بحثنا عن الفهم في غيره لم يُفهّمنا الله حتى ولو كنا أبصر الناس بأعيننا وأقرأهم لكتاب الله إذا كنّا -أعاذني الله وإياكم- ممن يردد ولا يعي ما يردد كيلا نكون من الذين قال الله عنهم إنهم "كالحمار يحمل أسفاراً".

                

[1] تقدم هذه المقالة نقداً لأسلوب ساذج في تصور الأمور، وتتخذ من موقفنا من فوز أوباما في الانتخابات مثالاً عليه.

[2] على الرغم من أن من دونه أنظمة أخرى تشترك معه في مصالحها بوجه عام ولكنها تتصارع فيما بينها، فدولة الولايات المتحدة نظام قائم بذاته يشترك مع النظام الغربي الكبير في مصالحه عامة، وكذلك مجتمع الدول الأوربية، وهما فريقان مختلفان بينهما تنافس، وبين الأنظمة الأصغر في كل منهما تنافس، وهلم جراً. ويبقى فوق كل تلك التحزبات الحزب الجامع الكبير: حزب الرجل الأبيض الذي ولدنا في عصر هيمنته على العالم.

[3] "فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور".