وثائق ويكيليس...هل التسريب متعمد

وثائق ويكيليس...هل التسريب متعمد؟؟

د. ياسر سعد

[email protected]

وثائق ويكيليس والتي ناهزت ربع مليون وثيقة تم تسريبها لتفضح السياسة والدبلوماسية الأمريكية ولتحدث ما اعتبره البعض بثورة أو زلزال سياسي ضرب الإدارة الأمريكية في الصميم، فهل هي فعلا كذلك؟ وهل أضافت تلك الوثائق شيئا كان الناس تجهله، أم تراه تسريب متعمد أرادت واشنطن من خلاله توجيه ضربات، وتسديد أهداف، وبث رسائل ما كان لها أن تفعلها بشكل طبيعي وعلني؟ وإذا كان للمرء أن يتساءل عن كيفية وإمكانية تسريب هذا العدد الهائل من الوثائق الدبلوماسية وبإخراج مثير أشبه ما يكون بأفلام الأكشن الأمريكية، فإنه ليعجب من أن تلك الوثائق لم تتحدث عن الأسرار الحقيقة والمحرجة فعلا للأنظمة العربية مثل صفقات السلاح الضخمة والفلكية مع الولايات المتحدة وآلية إتمامها والعمولات والرشاوي والتي تصاحبها. كما إن تلك الوثائق غاب عنها تماما الحديث عن تهريب المليارات العربية للبنوك الغربية وعن مآسي التخصيص في الدول العربية وعن نفوذ الشركات الأمريكية على أصحاب القرار وهي أمور تعد من صلب الاهتمامات الأمريكية في المنطقة وفي العالم.

وإذا كان من العسير في الوقت الراهن الجزم بدوافع ونتائج وتبعات نشر تلك الوثائق ومن بالتحديد الجهة التي تقف وراءها، فإن موقفين سياسين حول تلك التسريبات يلقيان بشيء من الضوء ويساعدانا في محاولة فهم الأهداف والغايات الحقيقية لتلك التسريبات. بنيامين نتيناهو -والتي ترتكب دولته الجرائم جهارا نهارا ولا نحتاج لوثائق لفضحها- اعتبر أن نشر الوثائق يوم تاريخي في علاقات الدبلوماسية والصحافة وأن إسرائيل لم تتضرر أبدا جراء تلك الوثائق، وقال إنها تعزز موقف بلاده حيال الشأن الإيراني. وعبر نتيناهو عن أمله في أن يعرب قادة الدول العربية عن رغبتهم في مهاجمة الولايات المتحدة لإيران علانية، كما ورد في الوثائق السرية، وأضاف أنه "في حال أدى ويكيليكس إلى تصريحات علنية من قبل زعماء المنطقة ضد طهران فسيكون الكشف عن الوثائق مساهمة في السلام بالعالم". أما رئيس وزراء تركيا أوردغان والذي يتمتع بمصداقية عالية وأخلاقية رفيعة فقد شكك بداية في مصداقية تلك الوثائق.

الغريب أن بعض الوثائق المسربة حملت معلومات غير دقيقة إن لم نقل مغلوطة، وعمدت لصناعة أبطال وهميين والدفاع عن جهات يبدو أنها تلعب أدورا مهمة للمصالح والسياسات الأمريكية. مثال ذلك ما نسب لباراك أمام أعضاء من الكونجرس الأمريكي في يونيو 2009 بأن الدولة العبرية تشاورت مع مصر والسلطة الفلسطينية قبيل الحرب على قطاع غزة "فيما إذا كان لديهم الاستعداد للسيطرة على قطاع غزة بعد هزيمة حركة حماس المفترضة على يد جيشه" إلا أن الجانب المصري وعباس رفضا بشدة المقترح الإسرائيلي.  مع أننا نذكر تماما كيف هددت الحكومة الإسرائيلية السلطة الفلسطينية إثر الخلافات الإعلامية حول تقرير غولدستاين بنشر مكالمات هاتفية تظهر تحريض السلطة لإسرائيل على ضرب غزة. كما إن عبّاس كان قد خطب في 11-11-2008 أمام مجموعة محتشدة برام الله "يا أهل غزة يا أهل الإباء والعزة والصمود والعزة صبراً آل ياسر، صبراً أهل غزة، إن موعدنا معكم قريب وقريب جداً"، وفي بدء العدوان الإسرائيلي على غزة خرج الطيب عبد الرحيم في تلفزيون فلسطين ليقول  "أقول لشعبنا في غزة وهو يعلم تماما الواقع والظروف الصعبة التي يمر بها، إن هذه الظروف ستنتهي وإن هذا العدوان سيتوقف، وإن الشرعية ستعود إلى غزة، وكل الأجندات الخارجية ستسقط". فهل تم خلط وثائق صحيحة بأخرى مفبركة أم أن بعض دبلوماسيي أمريكا على درجة متدنية من الذكاء؟

الكثير من المعلومات المسربة أو المتسربة (ويا للغرابة!) تصب في صالح السياسة الأمريكية، فإحراج الدول الخليجية وإذاعة ما أعتبر أنها مواقفها الحقيقية من إيران، يستهدف قطع الطريق أمام أي تقارب بينها وبين إيران ودفعها بعيدا في الارتهان للأجندات الأمريكية. كما قد يفهم الأمر على أنه تهيئة للرأي العام الأمريكي والخليجي للحرب وللضغط على دول الخليج لتحمل نفقاتها إن إندلعت، أوليست هي من تريدها وتدفع باتجاهها؟ كما إن المعلومات حول اليمن والإذلال المتعمد لقياداته يصب لصالح التوجهات الأمريكية في تفتيت المنطقة العربية ودفع اليمن إلى مزيد من التشرذم والتمزق خصوصا بعد الضغوط الكبيرة عليه إثر ما زعم أنه محاولة النيجيري عمر الفاروق تفجير طائرة أمريكية وقصة الطرود المفخخة رغم ما شاب المسألتين من علامات استفهام كبيرة. الحديث عن خطر القاعدة في اليمن وعن ضعف قياداته في مواجهة تلك الأخطار وعن انعدام صدقيتها يصب الزيت على النار في ذلك البلد ويرمي به إلى أحضان الفوضى والتي تبدو سياسة أمريكية معتمدة في المنطقة العربية.

الوثائق المتسربة أو المسربة تحدثت أمريكيا عن تركيا بما لا تستطيعه واشنطن والمستاءة جدا من دور أنقرة المتصاعد والنزعة التركية إلى المزيد من استقلال القرار السياسي التفوه به علنا.  فالدبلوماسيون الأمريكيون يؤمنون –بحسب تلك الوثائق- بأن سر انتقاد أردوغان للهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة هو كراهيته للدولة العبرية. وقال الدبلوماسيون إن "أردوغان يكره إسرائيل بكل بساطة" ، مشيرين الى انهم يؤيدون نظرية السفير الاسرائيلي في انقرة جابي ليفي الذي اعتبر ان تصريحات أردوغان ضد اسرائيل نابعة قبل كل شيء "من منطلق عاطفي، لأنه إسلامي". كما عمدت تلك التسريبات على الحديث عن أرصدة بنكية مزعومة لأوردغان في سويسرا في محاولة لاغتيال الرجل معنويا!

الأمر نفسه ينطبق على الصين والحديث عن أسلحة لإيران من كوريا عن طريق الصين وهو أمر يراد من إعلانه على الملأ من دون تحمل واشنطن مسؤولية أدبية عنه، الضغط على بكين في الملفات المتنازع عليها اقتصاديا وسياسيا خصوصا في مسألة كوريا الشمالية. والأمر يتكرر في القضية الباكستانية والحديث عن فساد وضعف قياداته والخوف من فقدان البلد السيطرة على أسلحته النووية والحديث عن التخوف من انقلاب عسكري، وهي رسائل أمريكية في اتجاهات متعددة.

نعود مرة أخرى لنتساءل هل كشفت تلك الوثائق أسرار حقيقة؟ وهل قدمت لنا معلومات جديدة؟ وهل من أحد يجهل أن السياسة الأمريكية تتميز بالعنجهية والفوقية؟ فخطابات جورج بوش وأحاديث رامسفيلد كانت أشد فظاظة وفجاجة من تلك التي وردت في الوثائق بشكل عام. وهل نحتاج كعرب ومسلمين لوثائق أمريكية حتى نعلم أن أمريكيا دمرت بلدين مسلمين وأن سياساتها قائمة على الظلم والطغيان وأن صواريخها زرعت وتزرع الموت والدمار في العراق وفلسطين وأفغانستان وباكستان واليمن وغيرهم؟ الذي أخشاه أن تكون المسألة توقيتا تستهدف فيما تستهدف إشغالنا وإلهائنا عن الأهداف الأمريكية في تفتيت السودان وشرذمته. الولايات المتحدة وعدت الخرطوم مؤخرا برفعها عن لائحة الدول الداعمة للإرهاب إن هي أجرت استفتاء تقرير المصير للجنوب، بالنسبة لي هذا الموقف الأمريكي والذي يتعامل مع مكافحة الإرهاب كأداة سياسية، أسوأ بكثير بما جاءت به وثائق ويكيليس، فلماذا لم يتوقف الإعلام العربي عنده فاضحا النفاق الأمريكي وازدواجية معاييره؟