وعد بلفور فلسطيني

الأبعاد السياسية والثقافية والقانونية الكارثية لاعتراف الفلسطينية بيهودية (إسرائيل)

صالح النعامي

[email protected]

"أنه وعد بلفور فلسطيني"، هكذا وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي (بنيامين نتنياهو) أي اعتراف فلسطيني رسمي بيهودية الكيان الصهيوني في المستقبل، عندما كان يهمس في أذن أحد نواب حزب (ليكود) الحاكم دون أن يلتفت لوجود لاقط الصوت الخاص بالتلفزيون الذي نقل هذا الهمس بالصوت والصورة!

توضح العبارة التي صدرت عن (نتنياهو) حجم الرهانات التي يُعلقها "القائد" الصهيوني على مطالبته للسلطة الفلسطينية بالاعتراف بالكيان كدولة يهودية. ويُطالب (نتنياهو) الفلسطينيين بالاعتراف بيهودية الكيان مقابل فقط تجميد الاستيطان في الضفة الغربية وبشكل مؤقت لمدة شهرين. وقبل، وكما يقول نائب رئيس وزراء الكيان الصهيوني (سيلفان شالوم)، فإن موافقة أي جهة تُمثل الفلسطينيين على يهودية الكيان يعني ببساطة تسليم وقبول هذه الجهة بكل الخطوات والإجراءات وتقبل بكل المواقف التي تضمن تكريس الطابع اليهودي لهذا الكيان. ومن خلال تصريحات المسؤولين الصهاينة يتبين أنه يترتب على الموافقة الفلسطينية على يهودية الدولة أربعة أبعاد كارثية على الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة.

1  العامل الديموغرافي

فضمان الطابع اليهودي للكيان الصهيوني يعني أن يُحافظ اليهود على تفوق ديموغرافي كاسح داخل الكيان، لذا فإن موافقة الفلسطينيين على يهودية الدولة تعني أن يتنازل ممثلو الفلسطينيين عن أي طلب أو موقف يُهدد في الحاضر والمستقبل التفوق الديموغرافي اليهودي، وبالتالي فإن موافقة الفلسطينيين على يهودية الدولة يعني تنازلهم الضمني عن حق العودة للاجئين، على اعتبار أن عودة اللاجئين ستنسف الواقع الديموغرافي داخل الكيان وتحوّل اليهود إلى أقلية. من هنا فإن الاعتراف بيهودية الدولة يعني البحث في كل الحلول لقضية اللاجئين بإستثناء عودتهم للأراضي التي شُردوا منها خلال حرب 1948، مثل حلول التوطين. في نفس الوقت فإن الاعتراف بيهودية الدولة يعني أن يقبل ممثلو الفلسطينيين بالإجراءات التي يتخذها الكيان الصهيوني، والصيغ التي يطرحها للتخلص من العبء الديموغرافي الذي يمثله فلسطينيو 48 الذين يقطنون داخل الكيان ويحملون جنسيته، من هنا فإن فكرة تبادل السكان التي يُبدي وزير الخارجية الصهيوني (أفيغدور ليبرمان) حماساً منقطع النظير لها تصبح فكرة واقعية، مع العلم أن هذه الفكرة تدعو إلى أن يتم ضم منطقة المثلث التي يقطن فيها أغلبية فلسطينيي 48 إلى الدولة الفلسطينية على أن يتم ضم التجمعات الإستيطانية اليهودية في الضفة الغربية للكيان الصهيوني، مع العلم أن ما يطرحه (ليبرمان) يتجه ليُصبح أحد ركائز الإجماع الصهيوني.

2  تشريع القوانين العنصرية

ويعني اعتراف الفلسطينيين بيهودية الكيان الصهيوني القبول، أو على الأقل، التسليم بالقوانين التي سنّتها الكنيست في الماضي والحاضر والتي ستسنها في المستقبل من أجل ضمان تهويد الأرض الفلسطينية؛ فالاعتراف بيهودية الدولة يعني الاعتراف بالقوانين العنصرية التي سنها المشرع، وضمنها "قانون العودة" الذي يُعطي لكل يهودي أينما كان "الحق" في الهجرة لأرض فلسطين وأن يُصبح بشكل تلقائي "مواطناً" في الكيان الصهيوني، وقانون المواطنة الذي يحرم فلسطينيي 48 من الحق في لمِّ شمل عائلاتهم إن كان أحد الزوجين يقطن الضفة الغربية أو قطاع غزة، وما ينطبق على قانوني "العودة" و"المواطنة" ينطبق على قانون "الولاء" الذي أقرته حكومة الكيان الصهيوني مؤخراً والذي يُلزم غير اليهود بإعلان الولاء للكيان الصهيوني ك "دولة يهودية وديموقراطية"، علاوة على أن الاعتراف الفلسطيني بيهودية الدولة سيُشكل غطاءً لسنِ مزيد من القوانين العنصرية، مثل القانون الذي أعلن زعيم حركة (شاس) ووزير الداخلية الحاخام (إيلي يشاي) عزمه على تمريره الذي ينص على وجوب حرمان كل شخص يُتهم بارتكاب مخالفة أمنية من جنسية الكيان، والمفارقة أن (يشاي) اعتبر أن مشاركة النائب العربي في الكنيست "حنين الزعبي" في أسطول الحرية "جريمة" تُسوغ سحب الجنسية منها.

ومن نافلة القول أن الاعتراف بيهودية الدولة يعني إضفاء الشرعية على القوانين والنُظم التي تُضيّق الخناق على فلسطينيي 48، وعلى رأسها القانون الذي يحرمهم من الحق في شراء أراضي تتبع ما يعرف ب "دائرة أرض (إسرائيل)"، وهي الأراضي التي سيطرت عليها العصابات الصهيونية عشية وخلال وبُعيد حرب عام 1948، علاوة على إن الكيان الصهيوني يرغب في أن يضفي الفلسطينيون شرعية على البنية القانونية التي تكرس غبن فلسطينيي 48، فقد سنّت الكنيست الإسرائيلي عدداً كبيراً من القوانين التي تحرم فلسطينيي 48 من الكثير من المزايا الاقتصادية بحجة أنهم لا يؤدون الخدمة العسكرية في جيش الاحتلال، مثل حرمانهم من مخصصات الأطفال والمنح الجامعية، وغيرها.

3  تهويد الذاكرة الفلسطينية

بالنسبة للنُخب الحاكمة في الكيان الصهيوني فإن الاعتراف الفلسطيني بيهودية الدولة يعني قبل كل شيئ تهويد الذاكرة الجمعية الفلسطينية بكل ما تعني الكلمة. وحتى لا يكون هناك مجال للبس، فإنه من الأهمية بمكان الإشارة إلى ما قاله وزير التعليم الصهيوني (جدعون ساعر) عندما تحدث عن المضامين الثقافية لاعتراف الفلسطينيين بيهودية الدولة، حيث حدد (ساعر) في مقابلة مع تلفزيون الكيان هذه المضامين في بندين أساسيين، وهي:

 أولاً: إعادة صياغة مناهج التدريس الفلسطينية بما يتوائم مع جوهر الاعتراف الفلسطيني بيهودية الكيان، سيما مناهج الجغرافيا والتاريخ والتربية الدينية!!! صحيح أن (ساعر) لم يُقدم تفاصيل كثيرة حول مطالبه على صعيد تغيير هذه المناهج، لكن ما يقصده معروف وواضح؛ فبعد الاعتراف بيهودية "الدولة" فإنه يتوجب على وزارة التعليم الفلسطينية طرح كتب جغرافيا جديدة تتضمن خريطة مختلفة، تظهر فيها (إسرائيل) إلى جانب الدولة الفلسطينية، وسيكون لزاماً الإشارة للمدن الفلسطينية بالأسماء العبرية؛ فبئر السبع ستُصبح "بير شيفع" وصفد ستُصبح "تسفات" وبيسان "بيت شآن"، وعسقلان "أشكلون"...، وهكذا دواليك. أما على صعيد مناهج مادة التاريخ فإن الكيان الصهيوني يتوقع أن يتوقف النشء الفلسطيني عن تعلم الرواية الفلسطينية للصراع؛ فالاعتراف بيهودية الدولة يعني أن يتم تربية الطلاب الفلسطينيين على أن هذه الأرض هي "أرض الميعاد لليهود"، وأن الفلسطينيين هم مجرد مجموعة بشرية "تصادف وجودها" على هذه الأرض!!! أما على صعيد مناهج التربية الدينية التي يُبدي (ساعر) اهتماماً بنسفها، فإن المرء يُمكنه أن يتوقع ما يريده بالضبط، فالاعتراف بيهودية الدولة يعني التوقف عن التعرض لآيات القران التي لا تروق لليهود.

 ثانياً: يرى (ساعر) أن الاعتراف بيهودية الدولة يعني أن تفرض الدولة الفلسطينية رقابة مشددة على دور العبادة ووسائل الإعلام الفلسطينية، بحيث يتوقف ما يصفه ب " التحريض " على الكيان الصهيوني.

أن (ساعر) المعني بوقف التحريض على الكيان الصهيوني في دور العبادة ووسائل الإعلام الفلسطينية هو الذي كان يحرص على زيارة الحاخام (مردخاي إلياهو) أحد أهم مرجعيات الإفتاء في الكيان الصهيوني قبل موته والحصول على "تبريكاته"، مع العلم أن (إلياهو) صاحب الفتوى التي تُبيح ذبح نساء وأطفال وشيخوخ الفلسطينيين وحتى بهائمهم. أن الوزارة التي يُديرها (ساعر) هي التي تدفع سنوياً مبلغ 200 ألف دولار للمدرسة الصغيرة التي يُديرها الحاخام (إسحاق شابيرا) الذي أصدر مؤخراً كتاب "دين الملك" الذي طرح فيه "التأصيل الفقهي" الذي يُسوغ قتل الأطفال الفلسطينيين، مع العلم أن تحقيقاً صحافياً نشره الصحافي الصهيوني في صحيفة "هآرتس" أثبت فيه أن إدارة الرئيس (أوباما) تُقدم أيضاً الدعم المالي لمدرسة (شابير) عبر إعفاء تبرعات عدد من اليهود الأمريكيين لهذه المدرسة من الضرائب.

4  المقابل: السراب

المضحك المبكي أن (نتنياهو) يُطالب السلطة الفلسطينية بالاعتراف بيهودية الدولة التي تتضمن كل هذه الأبعاد الكارثية دون أن يُبدي استعداداً للتوافق مع مطلب السلطة المتمثل في إقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران عام 1967، ولا يعرض سوى تجميد الاستيطان في الضفة الغربية لمدة شهرين...!!! وما يعرضه (نتنياهو) على السلطة لا يتجاوز صيغة الحكم الذاتي. أي أن المجازفة بالاعتراف بيهودية الكيان الصهيوني سيُقابله (نتنياهو) بمواصلة التشبث بمواقفه المتطرفة...

أنه من الواضح مما سبق أن كل ما يعني الكيان الصهيوني هو قبول الفلسطينيين بالمضامين الجوهرية لاعترافهم بيهودية الدولة. وهناك ما يبعث على القلق من مواقف بعض المستويات الرسمية الفلسطينية؛ فصحيفة (هارتس) نسبت لأمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ياسر عبد ربه تصريحاً قال فيه أن السلطة مستعدة للاعتراف بالكيان الصهيوني كدولة يهودية بعد إقامة دولة فلسطينية...! عبد ربه حاول إنكار التصريح، لكن سلوكه لا يمكن أن يُفاجئ أحد، فهو الذي تنازل عن حق العودة للاجئين في وثيقة جنيف التي توصل إليها مع عدد من الساسة الصهاينة.

يتوجب الإشارة إلى حقيقة أنه لم يشهد تاريخ العلاقات الدولية سابقة طالبت فيها دولة ما دول أو كيانات أخرى بالاعتراف بالمضامين الدينية لهويتها، هذا لم يحدث البتة، لكن بات واضحاً مرامي الكيان الصهيوني من المطالبة بيهودية الدولة؛ فالموافقة الفلسطينية على هذا الطلب يعني عملياً تصفية القضية الوطنية الفلسطينية...