صديقي اللدود: لماذا عملت شحاذا؟

صديقي اللدود:

لماذا عملت شحاذا؟

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

صديقي اللدود الدكتور جابر عصفور ، وزير الثقافة - المُقال للمرة الثانية - استيقظ من غفوة الإقالة ، وعاد إلى قلمه ( التنويري!) في جريدة الانقلاب الكبرى، وكتب مقالا مطولا يؤكد فيه مشاعر الولاء والثقة في أتابك عسكر النظام والدويدار الذي يرأس الوزراء ، ويفرش الصفحة بكثير من العواطف السيالة تجاه الحكام الانقلابيين ويمزجها بحديث شخصي عن اعتزازه بوظيفة الأستاذ الجامعي ، والناقد الأدبي والكاتب التنويري الذي يكافح إرهاب المتمسّحين بالدين !

في المقال رسائل علنية وأخرى خفية ضمنية عديدة أهمها أن صديقي اللدود مازال على استعداد لأداء دوره في وزارة الثقافة التي تحتاج إلى رفع ميزانيتها ليرتفع  نصيب المواطن المصري منها إلى ما فوق الجنيهين ، ويشير إلى أنه بسبب حبه للدويدار، ووفائه لأتابك عسكر قائد الانقلاب اضطر أن يعمل شحاذا لثمانية أشهر، مستغلا احترام الوزراء له فاستعان بهم ماليا من أجل إكمال بعض مشروعات وزارة الثقافة مثل مشروع بناء متحف جمال عبد الناصر، ومتحف الجزيرة  ، وقصْرى ثقافة حلايب وشلاتين، ثم يختتم مقاله اللحاف الذي حمّله العديد من الرسائل :

" وأخيرا، سيدى رئيس الوزراء، ابق لمن يحبك ويحترمك ويفتخر بأنه عمل وإياك من أجل تحقيق بعض أحلام مصر، تحت قيادة رئيس نؤمن معا بقيادته الوطنية. واعذرنى على الإطالة ".

مشكلة الطامحين إلى السلطة من المثقفين أنهم يقنعون أنفسهم قبل الآخرين بأنهم على صواب من أجل الوصول إلى غاياتهم التي تتجاوز طبيعة المثقف الحقيقي ودوره في الدفاع عن الأمة والحرية والعدل والكرامة والإنسانية . وصديقي اللدود جابر أوهم نفسه أنه يستطيع أن يجمع بين الحسنيين : الثقافة والإدارة ، ولكنه للأسف الشديد لم يستطع أن يقنع الناس بدور المثقف المسلم صاحب الضمير أو مثقف سارتر الملتزم أو المثقف العضوي المنسوب لجرامشي الشيوعي الذي دفع من أجله عشر سنوات في سجون إيطاليا .

 يرى جرامشي أن كل البشر مثقفون بمعنى ما ، ولكنهم لا يملكون الوظيفة الاجتماعية للمثقفين ، وهي وظيفة لا يمتلكها إلا أصحاب الكفاءات الفكرية العالية الذين يمكنهم التأثير في الناس .. والفارق بين المثقف التقليدي والمثقف العضوي أن الأول يعيش في برجه العاجي ويعتقد أنه فوق الناس جميعا، في حين أن الآخر  يحمل هموم كل الطبقات وكل الجماهير وكل الفقراء والمحرومين والكادحين ..  المثقف الحقيقي إذا هو المثقف العضوي الذي يعيش هموم عصره ويرتبط بقضايا أمته .. وأي مثقف لا يتحسس آلام شعبه لا يستحق لقب المثقف وإن كان يحمل أرقى الشهادات الجامعية ..

 مشكلة صديقي اللدود أنه ينسى أن عصر الثقافة الذهبي في مصر هو النصف الأول من القرن العشرين وقد أفاض على عصر العسكر طوال الخمسينيات بحكم قوة الدفع الثقافي إن صح التعبير ، وبعدها بدأ الانحسار حيث تراجعت كل الفنون والآداب : السينما والمسرح والشعر والقصة والرواية والنقد الأدبي والترجمة والفن التشكيلي والنحت والموسيقى والغناء والإنشاد والكتاب والجريدة والمجلة ... في وقت  ارتقت  فيه التنقيات الحديثة وتم الإغداق على الأجهزة الثقافية ، ولكن النتيجة كانت أقل من المأمول وأضعف مما سبق في عصور الملكية والسلطنة والخديوية .

مالا يريد صديقي اللدود ذكره أن ازدهار الثقافة يومئذ كان بمبادرات فردية صرفة تتحرك في بيئتها دون وصاية من وزارة أو مديرية أو إدارة أو هيكل ضخم يضم آلاف الموظفين الذين لا يعملون أو لا عمل لهم ، ويشغلون مكاتب يتناولون عليها الإفطار والشاي ، وقد تبقى خالية معظم الأسبوع ، ولو ألقى صديقي اللدود نظرة على ما يسمى بعمارت العرائس بالمبتديان لرأى حشود الموظفين التابعين للوزارة يشغلون الغرف المكتظة بالمكاتب ، والمصاعد التي لا تهمد دون حصاد ذي بال .

صارت الثقافة في عهد وزارة الثقافة التي أنشأها البكباشي الأرعن في الخمسينيات لاتعبر عن الثقافة الحقيقية ولا المثقفين العضويين وفقا لمصلح جرامشي الشيوعي ، ولكنها تحولت إلى حظيرة –كما وصفها وزير أسبق – للمثقفين الذين يلهثون وراء السلطة ولو كانت يداها مخضبة بدماء الأبرياء والأحرار!

كان المثقفون في عهود خلت يعرفون أقدارهم جيدا ، وينتصرون لمعني المثقف الحقيقي . على الغاياتي نظم قصائده ضد الإنجليز وذيولهم ، وفضل المنفى بعد أن أفلت من السجن ، والعقاد دخل السجن من أجل رأيه ، وباع مكتبته حين فرض عليه الحصار والجوع ، وأحمد لطفي السيد استقال من إدارة الجامعة حين عزلت السلطة طه حسين ، وأحمد أمين أعلنها داوية في مواجهة من أرادوا العدوان على الجامعة وقال : أنا أكبر من عميد وأصغر من أستاذ .. وسيد قطب رفض أن يعتذر للطاغية كي ينقذ رقبته من حبل المشنقة إيمانا برأيه وعقيدته . وقس على ذلك مواقف كثيرة لمثقفين أصلاء ..

قارن ذلك بمن داسوا على جثث شهداء ثورة يناير ليحلفوا اليمين في وزارة شفيق أمام المخلوع بينما الملايين خارج القصر تطالبه بالرحيل. ومن حلفوا اليمين ودماء شهداء رابعة وأخواتها لم تجف بعد ، ورأوا المدرعات والدبابات تقتحم الحرم الجامعي ولم ينطقوا بكلمة ، بل أيدوا العدوان على الشرعية وإلغاء الدستور وتكميم الأفواه وإلقاء عشرات الألوف من صفوة العقول وراء القضبان بتهم ملفقة ، وأقروا الممارسات العنصرية الفاشية ضد أغلبية الشعب الرافضة للانقلاب ، وراحوا بعد ذلك يلهثون وراء العسكر ويغدقون عليهم قصائد المديح الفج والنفاق الرخيص ، وتناسوا معنى أن يكون الإنسان أستاذ ا جامعيا ، أو  واحدا من المثقفين الحقيقيين ..؟    

ماكنت أتمنى لصديقي اللدود أن يتعرض لمهانة الإقالة مرتين ، ولا أن يعمل شحاذا من أجل وزارة لاتمثل الثقافة الحقيقية ولن تمثلها لسبب بسيط ، وهي أنها صوت السلطة الفاشية .

وزارة الثقافة المصرية مجرد طبل خانة وتكية مكتظة بالخيرات ينهبها المحظوظون بالقانون ، ويمرح فيها عشرات المستشارين والمنتدبين الذين يقبضون مرتبات عالية دون عمل ملموس ، ومئات الصعاليك والحظائريين الذين يقبضون ولا يستحقون من النشر والجوائز واللجان والتفرغ والندوات والمؤتمرات والوظائف التي بلاعمل ، وصديقي اللدود يعمل شحاذا ليفتتح متحفا لا قيمة له وقصر ثقافة لايعرف أحد الطريق إليه ! ثم يقدم عربون محبة وعودة إلى الدويدار يقوم على محاربة ما يسميه الإرهاب المتمسح بالدين والفكر الإظلامي ( على وزن الإسلامي!) . من المؤكد أن مثقف السلطة في الماضي والحاضر والمستقبل ، لن يكون مثقفا عضويا ، ومعذرة لجرامشي الشيوعي!

الله مولانا . اللهم فرج كرب المظلومين . اللهم عليك بالظالمين وأعوانهم !