تجدّد النقاش حول إقامة دولة كردية

عقاب يحيى

تقف العوائق الأمنية، والمنافسة الداخلية، والدعم الدولي غير الكافي أمام آفاق إقامة دولة كردية مستقلة.

في الوقت الذي يعزّز فيه تنظيم الدولة الإسلامية وجوده في العراق، تثير مسألة إقامة دولة كردية مستقلة من جديد نقاشاً محتدماً. فعلى الرغم من التغيير السريع في الأوضاع على الأرض من خلال الدعم الذي تقدّمه الهجمات الجوية الأميركية للمحاولات التي تبذلها قوات البشمركة من أجل التصدّي لتنظيم الدولة الإسلامية وحمله على التراجع، تبقى الوقائع المتعلقة بآفاق الاستقلال الكردي على حالها إلى حد كبير. ومن أبرز التحدّيات التي تعترض إقامة دولة كردية مستقلة العوائق الأمنية، والخلاف بين الأفرقاء الأكراد، وغياب الدعم الدولي الواسع.

فيما يزداد تطلُّع الشعب الكردي إلى دولة مستقلة وآمنة ومزدهرة اقتصادياً داخل العراق، تقف الانقسامات في صفوف الأحزاب الكردية حائلاً دون التوصّل حتى إلى اتفاق حول ما إذا كان الاستقلال خياراً قابلاً للتطبيق. فقد ظهر انقسام شديد بين الأحزاب الكردية المتنافسة حول مسألة الاستقلال، إذ يخشى كل منها خسارة مكتسباته. وغالب الظن أن السعي إلى الاستقلال سيؤجّج هذه الخصومات بدلاً من تهدئتها. فمسعود البارزاني، رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني الحاكم، يطالب بالاستقلال في حين أن الحزب الأساسي المنافس له، الاتحاد الوطني الكردستاني، لايزال غير مقتنع بفكرة الاستقلال. وعلى الرغم من دعم حركة التغيير (غوران) للاستقلال، إلا أنها تتخوّف من السيطرة المحتملة لعائلة البارزاني وغياب المؤسسات الديمقراطية والخاضعة للمساءلة التي من شأنها أن تُشكّل الأساس لبناء دولة قوية.

أما حزب العمال الكردستاني، وهو عبارة عن تنظيم كردي يعمل في تركيا ويُصنَّف حالياً على لائحة المنظمات الإرهابية، فيُبدي حذره من الحملة التي يقودها الحزب الديمقراطي الكردستاني للدفع نحو الاستقلال. لايحبّذ الحزب إقامة دولة كردية مركزية مستقلة، بل يفضّل فكرة الحصول على حكم ذاتي ديمقراطي - عبر تمكين المجتمعات المحلية بمنحها مزيداً من صلاحيات صنع القرارات. يفسّر هذا الموقف أسباب التشنّج في العلاقة بين حزب العمال الكردستاني وحكومة إقليم كردستان، والتنافس بينهما على تمثيل المصالح الكردية وتحديدها. وقد وضع حزب العمال الكردستاني اعتراضاته في إطار القلق من أن تجد الدولة الكردية المستقلة نفسها مضطرة إلى خوض قتال ضد الدولة الإسلامية بالوكالة عن إسرائيل والولايات المتحدة وتركيا.

أما خارج العراق، فقد يتسبّب إنشاء دولة كردية مستقلة بتداعيات مهمة، لاسيما في تركيا حيث ربع السكّان هم من الأكراد. على الرغم من أن تركيا لاتدعم رسمياً قيام دولة كردية مستقلة - تخشى الحكومة التركية أن يُشكّل الأمر سابقةً تدفع بالأقلية الكردية الكبيرة في البلاد إلى المطالبة أيضاً بالاستقلال - إلا أنه لم يصدر عنها أي تصريح علني مناهض لها. علاوةً على ذلك، وجد الأكراد أيضاً في تركيا بقيادة أردوغان حليفاً لهم، على الرغم من صعوبة مثل هذا الحلف. بيد أن قيام دولة كردية مستقلة قد يزيد من حدّة القومية المناهضة للأكراد. فقد تعرّض بعض الأعضاء في حزب الشعوب الديمقراطي الموالي للأكراد لهجوم من الحشود التي راحت تهتف: "عودوا إلى بلداتكم"، خلال حملة انتخابية محلية في آذار/مارس الماضي. إذا لم تعمل تركيا على تعزيز الانسجام بين الإثنيات المختلفة وترسيخ المؤسسات الديمقراطية والتوصّل إلى اتفاق مع حزب العمال الكردستاني، فمن شأن قيام دولة كردية مستقلة أن يُهدّد التماسك الداخلي التركي.

أبعد من تركيا، ليس الدعم الدولي لقيام دولة كردية مستقلة أمراً محسوماً على الإطلاق. تؤيّد الولايات المتحدة وحدة العراق، ومن المستبعد أن تقبل بإعلان أحادي للاستقلال، لاسيما منذ الخلاف الأخير حول السماح لسفينة محمّلة بالنفط الخام من كردستان العراق بتفريغ حمولتها في تكساس، واضطرارها إلى التوقّف في عرض البحر لأيام عدة. فضلاً عن ذلك، إذا لم تبدِ الحكومة المركزية في العراق استعداداً لمنح إقليم كردستان استقلاله، غالب الظن أن عدداً كبيراً من الدول الأعضاء في الجامعة العربية لن يعترف بالدولة الكردية. وكذلك تتردّد إيران التي تضم أعداداً كبيرة من الأكراد وتربطها علاقات وثيقة بحزب العمال الكردستاني، في دعم استقلال كردستان، لسببَين أساسيين: العلاقات الوطيدة بين طهران والحكومة المركزية في بغداد، والخوف من الروابط الوثيقة التي يمكن أن تنشأ بين إسرائيل ودولة كردية مستقلة. فقد أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن دعم بلاده لقيام دولة كردية مستقلة معتبراً أنه من شأنها تعزيز التحالف بين قوى الاعتدال في المنطقة. وتخشى إيران من جهتها أن تمارس إسرائيل تأثيراً واسعاً على الشؤون الداخلية لهذه الدولة المجاورة الجديدة.

فضلاً عن ذلك، مع انحسار نشوة الربيع العربي وسط صعود العنف الإثني والمذهبي في مختلف أنحاء العالم العربي، على الأرجح أن درجة الدعم لقيام دولة كردية مستقلة، لاسيما الدعم من الاتحاد الأوروبي، ستتوقّف على مدى التزام هذه الدولة بالديمقراطية. وفي هذا الإطار، ليس الموقف من الديمقراطية واضحاً على الإطلاق، لاسيما في مايختص باحترام حقوق الأقليات في كردستان. فعلى الرغم من أن حكومة إقليم كردستان أظهرت تسامحاً ونجاحاً أكبر من الحكومة المركزية في بغداد، في إدارة المجتمعات المتعدّدة الإثنيات والأديان، إلا أن ترسيخ الأسس الديمقراطية يشكّل عاملاً أساسياً من أجل إرساء سلام مجتمعي مستدام في الإقليم. عموماً، إذا أعلن الأكراد دولتهم المستقلة، لكنها لم تحظَ بالاعتراف من عدد كبير من الدول، من المستبعد أن تتمكّن من تحقيق الازدهار والسلام للأكراد أو للأقليات الإثنية والدينية الأخرى في المنطقة.

أخيراً، على الرغم من وجود قوات البشمركة المنظّمة والمدرّبة جيداً، ستستمر التحديات الأمنية الخطيرة في المنطقة الشديدة التقلبات حتى بعد التأسيس المحتمل للدولة الكردية. فاستيلاء الدولة الإسلامية مؤخراً على سد الموصل الاستراتيجي وسيطرتها على بلدة سينجار الكردية يسلّطان الضوء على حجم التحدّي الذي يطرحه ضبط حدود الدولة المستقلة. فمع استمرار التهديد الخارجي الذي يسبّبه تنظيم الدولة الإسلامية، على الأرجح أن تدفّق نحو 300000 لاجئ سني و200000 لاجئ كردي سوري مؤخراً إلى كردستان العراق سيزيد من التكاليف المترتّبة عن الحفاظ على الأمن في الداخل، لاسيما إذا لم تحظَ الدولة الجديدة بدعم دولي واسع. خلاصة القول، قد تتحوّل الدولة الكردية المستقلة إلى واقع ذات يوم، لكن يجب التمعّن أكثر في دراسة الأبعاد الداخلية والإقليمية والدولية لإعلان الاستقلال.