خماسيات الأميري .. هدية الأدب الإسلامي للأدب العالمي(1)

خماسيات الأميري

هدية الأدب الإسلامي للأدب العالمي

بقلم: محمد الحسناوي  

 

[email protected]

لئن فخر الأدب الفارسي برباعيات عمر الخيام، إن الأدب العربي ليفخر أيضاً بخماسيات عمر بهاء الدين الأميري، ولئن بطلت نسبة الخمريات الرباعية إلى الخيام -وهي باطلة في تقديرنا- لتصطفنّ رباعيات الخيام مــع خماسيات الأميري مع شعر إقبال وأمثالهم من شعراء الإسلام لتجعل من (الشعر الإلهي) الإسلامي ذروة الأدب العالمي والإنساني. هذه خلاصة البحث الذي نحن بصدده، وقد وصلنا إليها بعد الدرس والفحص والتحليل، كما سوف نرى.

الرباعيات: جمع رباعية، وهي مقطوعة شعرية مؤلفة من أربعة أشطر (بَيْتَيْ شعر في العروض العربي)، اعتمدها عدد من الشعراء الفرس في التعبير عن أحاسيسهم وخواطرهم. تطلق هذه اللفظة على مجموعة من المقطوعات الشعرية التي نظمها عمر الخيام، وتفوق فيها على كل من تقدمه بأسلوبه الموجز، وبعاطفته العميقة الرقيقة. وقد اختلف عدد هذه الرباعيات باختلاف النساخين(1).

أما الخماسيات: فهي جمع خُماسية، وهي مقطع أو قطعة شعرية تتألف من خمسة أبيات، ترتبط بمعان متقاربة، منطلقة من فكرة أساسية، لم يعدها النقاد القدامى قصيدة في عداد القصائد، لأن القصيدة في عرفهم لا تقل أبياتها عن سبعة أبيات أو تسعة(2). وسوف نلحظ أن إبداع الأميري أو عنايته بهذا النوع من الشعر سوف تزحزح العرف النقدي القديم، أو تحل الخماسية محلها اللائق بين القصائد.

أشار الأميري -رحمه الله- في مقدمة ديوانه "ألوان طيف" إلى ديوان له من عشرين ديواناً، سماه "الخماسيات". لم ينشر حتى الآن، ويبدو أنه -كما سوف نرى- قد وزّع أقساماً كبيرة منه في دواوينه المنشورة، فاستغنى عن نشره، وقد سكت عن الإشارة إليه في المخطوطات بعد ذلك، يقول: "من طريقتي في الصوم: أن أقلل من الطعام، وأن أستعمل العسل بدلاً من السكر، وأن يمتد سحوري إلى دقيقة الإمساك، وأن لا أنام بعد صلاة الفجر، حتى يزداد توهج الشمس، أقضي الوقت متمشياً متأملاً، ما وجدت إلى ذلك سبيلاً ، وكثيراً ما تنساب من نفسي خلال ذلك، مقطوعات من الشعر، بعضها قصائد طويلة، وأغلبها خماسيات، لعلها شكّلت جلّ ديواني المطبوع "مع الله". ومنها في ديوانيّ الإلهيين غير المطبوعين: "إشراق" و"قلب.. ورب" عدد كبير". (انظر ديوانه: صفحات ونفحات ص: 25) أما ديوانه "قلب ورب" فقد نشرته دار القلم والدار الشامية (1410 هـ: 1990)، والثاني لم ينشر بعد. ولدفع الالتباس نوضح أن "أشواق وإشراق" عنوان آخر لقصيدة تعدّ واحداً وعشرين بيتاً نشرت في ديوانه "نجاوى محمدية" ثم نشرت مستقلة بالعنوان نفسه مضافاً إليها (قصيدة المسلم وقصيدة رؤيا صدق)، وهي غير ديوان "إشراق" كما نقدر.

عدد خماسيات الأميري التي وصلتنا منشورة (94) أربع وتسعون خماسية، توزعت في دواوينه ومجموعاته الشعرية على الشكل التالي:

تاريخ نشرت الديوان

المجموع

غير الخماسيات

عدد الخماسيات

اسم الديوان

(ط2) 1971م

65

14

52

مع الله

1965م

50

49

1

ألوان طيف

1976

10

7

1+2 نشرتا في غيره

أب

1980

34

30

3+1 نشرت في غيره

أمي

1984

40

25

3+12 نشرت في غيره

صفحات ونفحات

1985

37

31

4+1 نشرت في غيره

أذان القرآن

1988

50

46

3+1 نشرت في غيره

نجاوى محمدية

1990

54

30

24

قلب.. ورب

1992

25

24

1

رياحين الجنة

 

17

16

1

سبحات ونفحات

1953

1

0

1

(مجلة المسلمون)

مع العلم أن للشاعر قصائد طوالاً مثل"في قرنايل: في ديوان "مع الله"  تعدّ (109) تسعة أبيات ومئة، وأن لديه أيضاً مقطوعات شعرية دون الخماسية وفوقها، مثل "مغزى": بيتان في ديوان: "مع الله"، أما في ديوان "قلب ورب" فنقع على "الحب والطب" ثم "المشيئة" ثنائيتين، و"نلوذ بالله" ثم "دروب وخطوب" سداسيتين، و "عزة التذلل" سباعية. على أن نسبة هذه المقطعات قليلة جداً.

من هذا الباب قصيدته "في العشر الأواخر: "مع الله" مؤلفة من خمسة عشر بيتاً، مقسمة إلى ثلاثة مقاطع، كل مقطع خمسة أبيات يبدأ كل منها بشطر مكرر:

حَذارِ يا شيطانَ جسمي حَذارْ (ص: 127)

ويمكن أن تعد كل مقطع خماسية، لما يتمتع به من استقلالية، حيث يختم كل منها ببيت خاتمة، تنطوي على قفزة محلّقة متألقة على شاكلة الخواتيم في كثير من الخماسيات.

من المفيد أن نذكر أن هذه الخماسيات تمتعت بسيرورة طاغية، فقد ترنم بعدد منها المغنون مثل: "صلة، عمرة، صلاة، دعاء" وغيرها مما أذيع مغنى في عدد من الإذاعات العربية، كما عارضها عدد من الشعراء المجيدين معجبين ومتأثرين على شكل خماسيات، منهم الشاعران اليمانيان أحمد محمد الشامي(3) ومحمد محمود الزبيري الذي يقول مخاطباً الأميري:

أنـا طـيرٌ محلّقٌ في سمائـِكْ    وصدىَ يستمدُّ مـن أصدائِـكْ

بَهَرتْنيْ آفاقُكَ الطُهرُ فارتعْـ    ـتُ وَخِفتُ الضَلالَ في أضوائِكْ

لستُ أدريْ، وقد قرأتُ قوافيـْ    ـكَ، وأمعنتُ في سَماعِ بُكائِكْ

أم نبيٌّ يَئـنُّ فـي أحـشائِـكْ    أشعوبٌ مقتولةٌ فيـكِ تَبكـيْ

ليتَني كنتُ دمعةً ضِمنَ عينيـ    ـكَ أرى منهما مدى عَليائِكْ

ليتنـي زفـرة بِقلبـك أحيـا    طاهراً وسط شعلةٍ من دِمائِكْ

(مع الله: ط2 - 246)

كما أن إعجاب عدد من المستشرقين بديوان "مع الله" وترجمة بعض قصائده إنما يشمل الخماسيات التي تغطي ثلاثة أرباع الديوان(4).

تاريخ المقطعات في الشعر العربي

إن جودة الشعر لا تقاس بطول قصيده ولا بتعداد أبياته، بل في جوهره الذي يتجلى بقيمه التعبيرية والشعورية، وبما تحقق فيها من جمالية وبيان، وقد لحظ النقاد ومؤرخو الأدب "أن ظاهرة المقطعات الشعرية قديمة قدم الشعر، وأن هناك أسباباً كثيرة دعت إليها وإلى الإكثار منها، أو الاختصاص بها، وأن الشعراء عامة قد نظموا فيها، وكان بعضهم أكثر ميلاً إليها، وأقدر عليها من سواه"(5)، كما لحظوا "أن ما ورد في الشعر العباسي من هذه المقطعات يفوق كثيراً -كماً ونوعاً- ما ورد في شعر سواه من العصور الأدبية التي سبقته"(6). والحكم نفسه يندرج على شعرنا العربي الحديث، وممن أكثروا من هذه المقطعات الشعراء: إسماعيل صبري وحليم دموس وأحمد الصافي النجفي ومحمد سعيد العامودي صاحب مجموعة الرباعيات المشهورة (أي أربعة أبيات لا أربعة شطور كالخيام)(7).

المقطعات في الشعر الفارسي

سوف نرى أن الموضوع الإلهي هو الغالب على خماسيات الأميري، مما يذكرنا بشعر محمد إقبال وبشعراء الفرس.

وعلى الرغم من استمداد الشعر الفارسي عروضه (بحوراً وتفعيلات) من الشعر العربي، وموضوعاته من شعر الزهد والتصوف العربيين إلى حد كبير، وعلى الرغم من استقلال الأميري بخماسياته شكلاً ومضموناً، وإعجابه بالشاعر إقبال، فإن الأمانة تقتضينا الإشارة إلى شيوع المقطعات في الشعر الفارسي بأنواعه : (المثنوي المصرع - الترجيع بند الغنائي المؤلف من مقطعات - الرباعي المنظوم من أربعة أشطر - الدوبيت وهو نوع من الرباعيات، المندرج في بحر آخر أقرب ما يكون إلى الشعر المقطعي)(8).

مما يلفت النظر أن الصاوي علي شعلان ترجم قصيدتين للشاعر إقبال "شكوى" (24 مقطعاً) كل مقطع منها خمسة أبيات على بحر الكامل، و"جواب شكوى " (27 مقطعاً) كل مقطع كذلك خمسة أبيات(9) من بحر الوافر. أما ترجمة الصاوي لقصيدة إقبال الأخرى "في أسرار الشريعة" فكانت (16 مقطعاً) كل مقطع منها في أربعة أبيات من بحر الخفيف(10).

سبب اختيار الأميري للخماسيات

قال أحد الشعراء: إن القصيدة هي التي تفرغ مني، ولست أنا الذي أفرغ منها. مما يدل على أن علاقة الشاعر بشعره عميقة، أسهم علم النفس التحليلي في الكشف عن طبيعتها، وتفسير بعض أسرارها(11).

ترجح لدينا أن هناك في الأقل سببين نفسيين لاختيار الأميري نظام الخماسيات أو المقطعات، أحدهما ذو طابع  ديني، والآخر ذو طابع فني. أما السبب الأول، فهو البعد الروحي لتجربته الشعرية، التي تمتح من معين (الموضوع الإلهي) أي التوجه إلى الله تعالى، والتماس رحمته والقرب منه، وطلب الصلة الروحية بمصدر الروح البشرية، بالتسامي والتأمل والمجاهدة وما شاكل ذلك من رياضات روحية. هذا النزوع البشري العلوي لا يتحقق باستمرار، إنما يتأتى موجات موجات، ولحظات التجلي أو الإشراق، تكاد تكون خاطفة عابرة أو نادرة. جاء في حديث شريف رواه الإمام مسلم في صحيحه أن الصحابي حنظلة قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوعظنا، وذكرنا النار. قال: ثم جئت إلى البيت، فضاحكت الصبيان، ولاعبت المرأة.قال : فخرجت، فلقيت أبا بكر، فذكرت ذلك له، فقال: وأنا قد فعلت مثل ما تذكر، فلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت : يا رسول الله نافق حنظلة، فقال: مَهْ، فحدثته بالحديث. قال أبو بكر: وأنا قد فعلت مثل ما فعل. فقال: يا حنظلة ساعة وساعة. ولو كانت تكون قلوبكم، كما تكون عند الذكر لصافحتكم الملائكة حتى تٌسلِّم عليكم في الطرقات" عبر عن ذلك شاعرنا الأميري بخماسية في ديوانه "قلب ورب":

أهواكَ.. وأغفلُ عن مُثُلٍ    عـليا لهـواكَ.. وأهـواكا

لانَكصاً في الدربِ، ونَقصاً    في الحبِّ، ونقضاً لِرِضاكا

لكنْ شرداتُ العيـن وقـد    أعشاها إشـراقُ سـناكـا

ويـقينيْ أنـكَ رحمـانٌ    بالـرّأفةِ عـمَّ الأفـلاكـا

وشعـوريْ أنّـي إنسـان    هلْ أُذنبُ لو كنتُ مَلاكـا

 (ص: 77 - 78)

السبب الثاني لاختياره الخماسيات هو طبيعة الإبداع الشعري القائمة على وثبة نفسية أو مجموعة وثبات، تُفرغ شحنة التوتر النفسي لدى الشاعر نتيجة التقاء التجربة الجديدة المثيرة بتجربة الشاعر القديمة المختزنة، وتنتظمان شيئاً فشيئاً، فيكون من انتظامهما القصيدة التي نتلقاها، مما يجعل الحركة كلها متجهة إلى إعادة تنظيم المجال. و"تمضي حركة الشاعر في شكل وثبات، تصل بينها لحظات كفاح. والصورة الخارجية للوثبة عدة أبيات، تكوِّن كلاً متكاملاً هو الوحدة الدينامية للقصيدة، بحيث يمكن أن يقال: إن القصيدة من حيث هي كل متكامل، تتألف من عدة وثبات لا من عدة أبيات"(12) يقول الأميري في "قلب ورب: كنه فذّ":

لستُ بالهـمِّ أحترقْ    بـل أُجلّي وأنْبثِقْ

مُصعِداً في معارجٍ    كلُُّ من أمَّها عَشِقْ

أنا كُــنهٌ مميَّزٌ..    للجَدا والنَّدى خُلِقْ

أنـا فـذٌّ، فطِينَتيْ    بِـسنا الرُّوح تَأْتلِقْ

إنـه رُوحُ خـالقٍ    وأنـا مِنه أنطلِقْ

 (ص: 262)

ولما كانت طبيعة الإنسان كالأميري ذات طاقة تتوهج لحظات أو وثبات روحية أو شعرية، وكانت الوثبة أو الموجة الواحدة تستوعب فكرة واحدة أو تجربة واحدة استراح الأميري لذلك، وهو امرؤ يترك النفس على سجيتها، وهو كذلك ذو مشاغل وأسفار متصلة في الوقت نفسه، لا يتسع وقته للتطويل.

بقي أن نشير إلى انصراف الناس في زماننا عن المطولات وعن الشعر نفسه، ورواج النصوص القصيرة الخفيفة مع رواج الصحافة وما سمي "بأدب الساندويتش". الخماسية قصيرة، لكنها ليست خفيفة الوزن.

الخماسيات.. إلهيات

أشار المرحوم الأميري إلى أربعة من دواوينه (الإلهية) : "مع الله" و "قلب ورب" و"إشراق" و"في هوى النور" وصلنا منها الأولان، والثالث تحت الطبع في دار القلم بالكويت، والرابع مخطوط، كما أشار إلى أن ديوانه النبوي الأثير لديه "نجاوى محمدية" هو إلهي أيضاً: "فهو وإن كان ديواناً نبوياً فهو إلهي في الوقت ذاته" (قلب ورب : 23)، ومعظم هذه الخماسيات جاء في ديوانه "مع الله" و"قلب ورب" وبعضها في "نجاوى محمدية" و "أذان القرآن"(13)، ونتوقع أن يرد كثير منها في ديوانيه الإلهيين اللذين لم يصدرا بعد، مع العلم أن الشاعر صرح بأن في ديوانه "في هوى النور" حجماً ليس بالقليل منها، وهي "قصائد من شعري في هذا الباب " (قلب ورب: 14 و 15).

ما الشعر الإلهي؟

أول ما يخطر على البال هو شعر الزهد أو التصوف، والحقيقة هو شعر يوازي شعر الزهد والتصوف وليس من مفرداتهما، كما سوف نرى، وهو أقرب ما يكون لمصطلح الذكر، ذكر الله تعالى: من تحميد وتسبيح واستغفار، كما أن الصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم نوع من أنواع الذكر أيضاً.

خماسيات الأميري الإلهية تختلف عن الزهد الذي ذكره صاحب "التعريفات - الجرجاني" الذي هو بغض الدنيا والإعراض عنها، كالاعتزال عن الناس والتقشف والخلاص الفردي. يقول في خماسية "دعاء":

أدعوكَ يا ربّ، من روحيْ ووجدانـي

أدعوكَ مـن قلبِ آلاميْ وأشجانـي

أدعوكَ مـن غور إسلاميْ وإيمـاني

أدعـوكَ يـا ذا المَــنِّ والـشّـانِ

مُستعِجلاً كشفَ ضرٍّ مسَّ "إخوانـي"

(مع الله: 120)

فهو جزء من إخوانه الذين يدعون إلى الله ويواجهون الضراء، يؤكد ذلك في خماسية أخرى تدعو إلى الإسلام القوي، وتندد بنزع السلاح أمام العدوان:

"نزعُ السِّلاح" .. وما الذي ُتجدي له الخُطبُ الجميلـةْ

في ظـلِّ "مـنتظمِ" التـهاتُر والمتـاهاتِ الـطويلـةْ

مـا دامَ "إنسـانُ الحضـارةِ" لا سـلامَ ولا فَضيلـةْ

فـالأمنُ في نـزع الشُّرور من الـصُدورِ، ولا وسيلة

إلاّ الـرجوعُ إلى هدىً رسـمَ الإلـهُ لـنا سبـيلَـهْ

(أذان القرآن: 121)

كما تختلف الخماسيات الإلهية عن التصوف الذي تحدث عنه الجرجاني في تعريفاته بأكثر من تعريف مثل: ترك الاختيار أو التفرغ عن الدنيا، أو مثل: الوقوف مع الآداب الشرعية ظاهراً فيرى حكمها من الظاهر في الباطن، وباطناً فيرى حكمها من الباطن في الظاهر، فيحصل للمتأدب بالحكمين كمال. يضاف إلى ذلك ما غلب على كثير من المتصوفة من مذاهب مبتدعة، كنظريات الحلول والفيض وغير ذلك، أما الأميري فلم يشطح عما في الكتاب والسنة من تصور لله تعالى وأسمائه الحسنى وعلاقة خلقه به، لا سيما الإنسان المستخلف الذي يهتدي إلى خالقه وجماله ورحمته وعظمته وصفاته من تأمل مخلوقاته وحكمه في خلقه. أسمعه يقول في خماسية:

كيـفَ لا أُومـنُ باللهِ، وهـل    لِذوي الألبابِ فيـه مُلتَبَـسْ

كيفَ لا أُبصرهُ في خلقهِ في الضُحى، في الفجر، في جُنح الغلسْ

كيـف لا أحيا بهِ والروحُ من    أمرهِ، في غورِ ذراتيْ انبَجَسْ

كيـف لا تَسـعَدُ نفسيْ بِسَنـا    نورِهِ في كل ترديـدِ نفـسْ

وأنـا، في سـرِّ كُنْهيْ من أنا؟    أنا من إبداعهِ الساميْ قَبَس!

 (مع الله: 61)

وقد فطن إلى ذلك الدكتور محمد الصباغ في مقالة له نشرتها مجلة الحسنى المغربية حين قال:"إنه (مع الله) في كل لمسة من اللمسات، وخاطرة من الخواطر، ونفحة من النفحات، إنه اتحاد مع الكون، وكل ما في الكون، وما يحوم عليه، ويدور فيه، مبتعداً كل البعد عن مزالق "الحلولية" التي يقع فيها كثير من الشعراء الحالمين الذي يستهويهم جمال الطبيعة الخلاب."(14).

وإذا حاولنا تصنيف هذه الإلهيات في مفردات وجدنا معظمها في التجليات من إشراق وسمو (13 خماسية) أوفي أدعية (20)، وبعضها الآخر تأملات (8)، أو إيمان بالقضاء والقدر وتسليم وتوكل (7)، أو وعظ (6)، أو تربية وصقل للنفس (7)، أو تسبيح لله وتحميد (4)، أو استغراق في حب الله عز وجل(2)، أو حبٍّ فيه (1)، ومتفرقات أخرى في إعجاز النبوة والاستفتاح باسم الله  أو الدعوة إلى الإسلام أو البذل في سبيل الله أو وسواس الشيطان وراحة القلب...

شرف الخماسيات

درج كثير من نقاد الأدب على إخراج الموضوع أو الغرض من دائرة التقويم الفني لنصوص الأدب والشعر، وذلك من باب احترام حرية الأديب أو الشاعر وعدم الحجر عليه، وفي تقديري أن حرية الأديب لا تتعارض مع تقدير الموضوعات التي يتناولها ومدى التفاوت بينها في تعبيرها عن حاجات البشر أو مدى صلاحيتها لفن من الفنون كالشعر. فإذا أضفنا إلى ذلك انتشار الظل المادي الحسي للمدنية الغربية، أو انتعاش الوثنيات القديمة أدركنا مدى انحسار الشعر أو الشعور الإلهي في الآداب الحديثة ، وبات تمجيد رباعيات الخيام لما فيها من معاقره للخمرة لا لما فيها من إشراقات روحية!

عباس محمود العقاد بحسّه الفني الرفيع وكعادته يخالف العرف النقدي الدارج، ويطري ديوان الأميري "مع الله" الذي هو أول دواوينه الإلهية يقول: "ديوانكم مع الله آيات من التنزيل والصلاة، يطالعها القارئ، فيسعد بسحر البيان، كما يسعد بصدق الإيمان. وقد قرأت طائفة صالحة من قصائده، وسأقرأ بقيتها، وأعيد قراءة ما قرأته، لأنه دعاء يتكرر  ويتجدد ولا يتغير..." "مع الله : 241"

ولا نذهب بعيداً إذا قلنا: إن سبباً من أسباب اهتمام المستشرقين بشعر الأميري إن لم يكن السبب الأول هو الجانب الإلهي فيه، يقول مثلاً المستشرق الألماني ألبرت ديتريش عن ديوان "مع الله": "وتعجبت مما فيه من حسن الألفاظ ولطف المعاني، ودقة التفهم للإنسانية ومطالبها، وهمومها، وشدائدها، وسلواها.. " (مع الله: 351)

أما المستشرق الإيطالي "مورينو" فيقول بعد أن تعمق في الدراسة: "مع الله" ملحمة إلهية.". "مع الله: 355"

إذا رأى الشاعر المرهف منظراً طبيعياً جميلاً انفعل به، ولا يستقر انفعاله حتى يعبر عن تجربته، وإذا أحسن إليه صديق أو حبيب لم يجد بداً من شكره على جميله وإحسانه، فكيف يكون شأنه مع الله الذي خلق له جمال الطبيعة، وخلق الإنسان الذي أحسن إليه، كما خلق العواطف والمشاعر المرهفة التي تذوقت هذه الأفاويق؟ أليس جديراً به أن ينفعل بهذا الإحسان الذي لا حدود لأنواعه وأبعاده وأعماقه وأطايبه؟ وإذا عبر عن هذه المشاعر السامية أجمل تعبير وأبدعه، ألا يكون تعبيره أو شعره هذا من أعظم أنواع الشعر والتعبير؟!

لكَ الحمدُ طوعاً.. لك الحمدُ فَرضاً    وثيقاً عميقـاً.. سماءً وأرضـا

لكَ الحمدُ صَمتاً.. لكَ الحمدُ ذِكراً    لكَ الحمدُ خَفْقاً حثيثاً.. ونبضـا

لكَ الحمدُ مـلءَ خلايـا جَنانـيْ    وكلّ كيانـيْ.. رُنوُّاً وغَمضـاً

إلهـي وجـاهيْ، إليـكَ اتجاهيْ    وطيداً مـديداً.. لترضى فأرضى

فأنتَ قِوامي.. وأنتَ انسجامـي    مع الكونِ، والأمرُ لولاكَ فوضى

 (قلب ورب: 197)

يتبـــــــع

الهوامش:

(1) المعجم الأدبي - جبور عبد النور - دار العلم للملايين - ط1 - ص: 552.

(2) المرجع السابق: تعريف المقطع ص: 261.

(3) ديوان قلب.. ورب - عمر بهاء الدين الأميري - دار القلم - الدار الشامية - ط1 - ص: 5.

(4) من المستشرقين: البرت ديتريش وفون دايتمان وكورالي نولينوس (ألمانيا)، ومحمد أسد (سويسرا)، ومارتينو ماريو مورينو (إيطاليا) - ديوان مع الله ط2 - ص: 351-357.

(5) ظاهرة المقطعات في الشعر العباسي - د. يونس السامرائي - مجلة آداب المستنصرية - العدد: 8 - 1404هـ: 1984م - ص: 337.

(6) المرجع السابق: 337.

(7) النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين - د. محمد رجب البيومي - دار القلم - الدار الشامية. ج2 - العامودي الشاعر - ص: 517 - 524.

(8) المعجم الأدبي - ص: 518.

(9) الأعلام الخمسة للشعر الإسلامي: ترجمة: محمد حسن الأعظمي- الصاوي علي شعلان- تحقيق: مصطفى غالب - مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر - بيروت: ط: 1402هـ: 1982 - ص: 112 - 117 و 124 - 130.

(10) في أسرار  الشريعة - العلامة محمد إقبال - ترجمه نثراً: محمود أحمد غازي - شعراً: صاوي شعلان - دار الفكر - دمشق - ط: 1408هـ: 1988 - ص: 90 - 93.

(11) الأسس النفسية للإبداع الفني في الشعر خاصة - د. مصطفى سويف - دار المعارف بمصر - ط3 - ص: 305.

(12) المرجع السابق - ص: 305 - 308.

(13) عدد الخماسيات التي وصلتنا حتى الآن، كما ذكرنا (94) أربع وتسعون: ثلاث منها في الأمومة وواحدة في الأبوة وأخرى ذاتية واثنتان في الهم العام، وما تبقى أي (89) تسع وثمانون كلها في الشعر الإلهي.

(14) مجلة "الحسنى" 14 رمضان - الرباط وديوان مع الله ط2 - ص: 365.