علاقة الدعوة الإسلامية بالنصرانية واليهودية

علاقة الدعوة الإسلامية بالنصرانية واليهودية

محمد أفقير(صهيب)

باحث في تاريخ الإسلام

[email protected]

تلصق بالدعوة شبهة تأثر النبي الأمين Mohamed peace be upon him.svg بالنصرانية واليهودية. فما حقيقة العلاقة بين الدعوة والديانتين؟ وما حقيقة استمداد النبي Mohamed peace be upon him.svg للأفكار والرؤى والقوانين والنظريات من معاصريه من اليهود والنصارى؟.

 زعم كاتب "الموسوعة العبرية" أن الإسلام منبثق من اليهودية، حين قال "أدرك محمد Mohamed peace be upon him.svg حقيقة وسبب دعوته فقط، بعد وبفضل الاتصالات التي أجراها مع ممثلي الديانات الأخرى (اليهود والنصارى)، وحتَّى الديانة الوثنية"([1]). وذكر بروكلمان/ brockelmann(ت1375ه/1956م) في كتابه "تاريخ الأدب العربي" أن الوحي غيبوبة وأن الآيات مقتطفات من التوراة، قال: "كان النبي ـ ـMohamed peace be upon him.svg ـ في أقدم مراحل دعوته الدينية يطلق ما يدور بخُلده، وهو صادق الاستغراق في الغيبوبة، في جمل مؤثرة يغلب عليها التقطيع والإيجاز وتأخذ سجع الكهان.. ثم أخذ يترقَّى بالمراد من طبيعة الغائب المستغرق، إلى طبيعة الدَّاعية الواعظ، فكان يتلو في جمل أطول من الأولى تحذيراته وتعليماته، التي حفّت كثيرا بالقصص من العهد القديم ومن الهجادة"([2]).

 وكذلك يرى الباحث أندريه/ Andre أن الإسلام تأثر باليهودية في النواحي المادية، وتأثر بالمسيحية في النواحي الرُّوحانية"([3])، وحاذاه بودلي/ R.V.C. BODLLY حذو الكتف بالكتف، وحاول أن يجعل كلامه محبوكا قدر الإمكان، ورأى أن صادق الكلام Mohamed peace be upon him.svg تأثر بالديانتين عن طريق أشخاص بعينهم، قال: "وأما حقيقة القوى النابتة في الديانتين القديمتين ظاهرة في كل وجه من وجوه الديانة الجديدة، فترجع إلى ما سمعه محمد (Mohamed peace be upon him.svg) في رحلاته، وتعودُ إلى تعاليم بحيرى وورقة ابن نوفل وقس بن ساعدة حبر نجران. وحالة محمد (Mohamed peace be upon him.svg) هي حالة وثني تحوَّل إلى التَّوحيد، وقد امتص نظرياته وتطبيقاته من حلقات العابدين والإنصات إلى الوعاظ المرشدين"([4]). وحاول منتغمري واط/watt (ت2006م) إعطاء أهمية قصوى لاتصال النبي Mohamed peace be upon him.svg بورقة بن نوفل لإثبات تأثر التَّعاليم الإسلامية اللاحقة كثيرا بأفكار ورقة، صاحب العقلية الدينية المسيحية، ولتقرير مسألة الأخذ عن التوراة والإنجيل. قال: "ومن الأسهل أن نفترض أن محمدا (Mohamed peace be upon him.svg) كان على صلة متتابعة بورقة بن نوفل، منذ فترة مبكرة سابقة على الوحى. والأفكار الإسلامية اللاحقة قد تكون اختلطت إلى حد كبير بأفكار ورقة، كعلاقة الوحي الذي نزل على محمد (Mohamed peace be upon him.svg) بالوحي الذي نزل على موسى وعيسى (عليهما السلام)"([5]). فهل ما زعمه أولئك المستشرقون من تأثر الدعوة بالشريعتين النصرانية واليهودية صحيح بالفعل؟.

 كلام واط/watt (ت2006م) عن تأثر خير خلق الله بورقة(ت حوالي 12ق.هـ/ 611م)، وبعلمه بتعاليم الديانتين المسيحية واليهودية، مبنيّ على شبهة معرفة نبي الإسلام Mohamed peace be upon him.svg بالكتابة والقراءة. وقد كان يكفينا إثبات أمية النبي ص، لأنه بانهيار شكوكه حول أميته، ينهار رأسا زعمه القائل بأخذ العلم عن ورقة، غير أننا رأينا مناقشة هذه الشبهة لأنه حاول جاهدا إثباتها باعتماد حجج إضافية أخرى، يعتقدها دامغة ومقنعة. فكيف ذلك؟.

 يذكر واط/watt (ت2006م) أن "محمدا سمع من ورقة ما يهمه بأنه مؤسس أمة ومشرِّع لها. وإذا كان محمد يبدو متردِّدا بطبعه، فإن هذا التشجيع بإقامة بناء ضخم على تجاربه يرتب أهمية عظمى في تطوره الداخلي النفسي"([6])، ويؤكد ارتباط الحبيب الهادي بورقة(ت نحو 12ق.هـ/ 611م) من خلال زوجه السيِّدة خديجة(ت3ق.هـ/ 620م) التي "من المؤكد(Certainly) أنها قد تأثرت به"([7]). هذا ومن المؤكدـ أيضا، حسبما يزعم، أنها "لعبت دورا هاما في الأوقات الحرجة من حياته؛ وذلك بتشجيعه على الاستمرار فى طريقه كنبي"([8]). ويبني حجته مرَّة أخرى على التخمين والظن حين يرى بأنه "من المحتمل أنّه تحدَّث في المسائل الدينية مع المسيحيين العرب، أو الأحباش من اليمن، والقبائل البدوية المسيحية القادمة إلى مكة للتجارة. وهناك يهود المدينة والأماكن الأخرى"([9]). فحين يتحدث عن المنابع الرئيسية للوحي، وتأثر النبي الصادق Mohamed peace be upon him.svg بأفكار ورقة ابن نوفل(ت نحو 12ق.هـ/ 611م) المسيحي، فإنما هو يؤكد على أن أفكار ورقة أثرت في التطورات الإسلامية اللاحقة وفي هجرته Mohamed peace be upon him.svg إلى المدينة، حيث أخذ ينقل عن اليهودية والمسيحية لصياغة ديانة جديدة هي الإسلام"([10]).

 فأما اتباع ورقة للدين المسيحي فأمرٌ ثابت في التاريخ لا يملك أحد إنكاره. جاء في "السيرة النبوية" لابن كثير(ت774هـ/ 1373م) في معرض الحديث عن حنيفية كل من زيد بن عمرو(ت17ق.هـ/ 606م)، وعثمان بن الحويرث(ت565ه)، وعبد الله بن جحش(ت3هـ)، وورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى(ت حوالي 12ق.هـ/ 611م) "قالوا: تصادقوا وليكتم بعضكم على بعض. فقال قائلهم: تعلمن والله ما قومكم على شيء، لقد أخطأوا دين إبراهيم وخالفوه، ما وثن يعبد لا يضر ولا ينفع؟! فابتغوا لأنفسكم، فخرجوا يطلبون ويسيرون في الأرض يلتمسون الحنيفية دين إبراهيم. فأما ورقة بن نوفل(ت نحو 12ق.هـ/ 611م) فتنصر واستحكم في النصرانية، وابتغى الكتب من أهلها حتى علم علما كثيرا من أهل الكتاب"([11]). وشواهد هذا الحدث كثيرة فقد أخبر به ابن كثير القرشي(ت774هـ/ 1373م) في "البداية والنهاية"([12])، وأبو جعفر الطبري(ت310هـ/ 923م) في "تاريخ الرسل والملوك"([13])، وابن خلدون(ت808هـ/ 1406م) في "ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر"([14])، وابن حبيب(ت245هـ/ 860م) في "المنمق في أخبار قريش"([15])، وفي "المحبر"([16])، وابن قتيبة الدِّينَوري(ت276هـ/ 889م) في "المعارف"([17])، وابن سعيد المغربي(ت685هـ/ 1286م) في "نشوة الطرب في تاريخ جاهلية العرب"([18])، وأبو الفرج ابن الجوزي(ت597هـ/ 1201م) في "المنتظم في تاريخ الأمم والملوك"([19])، وابن الأثير(ت630هـ/ 1233م) في "الكامل في التاريخ"([20])، وشمس الدين الذَهَبي(ت748هـ/ 1347م) في "تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام"([21])، وغيرهم.

 سقنا هاته الشواهد للاستدلال على مسيحية ورقة(ت حوالي 12ق.هـ/ 611م)، وللإشارة إلى وجود جماعة تعرف بالحنيفية أو الحنفاء، تعرف دين إبراهيم وتبحث عن دين التوحيد الصحيح وتنتظر خاتم الأنبياء الذي اقترب ظهوره، بالتالي إبطال ما ذهب إليه واط/watt (ت2006م) من أن العرب كانوا لا يعرفون صلتهم بإسماعيل وإبراهيم، بحيث يذكر واط/watt (ت2006م) أن المسلمين "كانوا يجهلون الصلة بين إبراهيم وإسماعيل والعرب، حتى قدموا المدينة واتصلوا باليهود فعرفوا منهم ذلك"([22]).

 إذن، حاول واط/watt (ت2006م) قدر المستطاع إثبات أخذ النبي المُتَوَكّل Mohamed peace be upon him.svg العلم عن ورقة بن نوفل(ت حوالي 12ق.هـ/ 611م)، فما حقيقة هذا الأمر؟ عن الإمام البخاري(ت256هـ) عن السيدة عائشة(ت58هـ) رضي الله عنها – تروي قصة بدء الوحي- قالت: [أوَّل ما بدئ به رسول الله Mohamed peace be upon him.svg من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلاّ جاءت مثل فلق الصُّبح، ثم حبِّب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء... فجاءه الملك فقال: Cاقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ, خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ, اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُB([23])"([24]). [الحديث]. وفي الحديث أيضا أن الحبيب المبعوث رحمة للعالمين لما حدث زوجه بالواقعة انطلقت معه، إلى ورقة ابن نوفل(ت نحو 12ق/هـ/ 611م)، فسمع منه وبشره بما سيكون، وتمنّى أن يكون من أنصاره وأتباعه، وفيه أيضا أنه اتصل به بعد الوحي، وليس قبله([25]). وفي تقديري، فإن النبي العاقب Mohamed peace be upon him.svg لم يكن يعتاد الذهاب إليه وإلاَّ لكان توجه إليه بمفرده، دون حاجة إلى مرافقة أحد. هذا وإن صح ما ورد في "الطبقات الكبرى" من أن النبي Mohamed peace be upon him.svg لم يذهب عند ورقة(ت نحو 12ق.هـ/ 611م)، إنما التي ذهبت هي خديجة وحدها فقط، وإنها أول مرة تذهب إليه، فسيكون دليلا قاطعا على بطلان ادعاء واط/watt (ت2006م). جاء في رواية ابن سعد(ت230هـ) "ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل(ت نحو12ق.هـ/ 611م). وهي أول مرة أتته. فأخبرته ما أخبرها به رسول الله - Mohamed peace be upon him.svg - فقال ورقة(ت نحو12ق.هـ/ 611م): والله إن ابن عمك لصادق. وإن هذا لبدء نبوة. وإنه ليأتيه الناموس الأكبر. فمريه أن لا يجعل في نفسه إلا خيرا"([26]).

 فحسبما ذكرت هذه الرواية، تكون أم المؤمنين قد زارت ورقة بن نوفل(ت نحو12ق.هـ/ 611م) مرة واحدة فقط، هذا علاوة على أن هذه الزيارة تمت دون حضور المصطفى Mohamed peace be upon him.svg، بهذا يكون قد انتقض ما ذهب إليه واط/watt (ت2006م) من أصله من زعم تأثير ورقة(ت نحو 12ق.هـ/ 611م) في خديجة(ت3ق.هـ/ 620م) ومن خلالها على زوجها النبي الرسول Mohamed peace be upon him.svg. زد على ذلك، أن ورقة بن نوفل(ت نحو12ق.هـ/ 611م) قد توفي في بداية الدعوة([27])، بعد 3 سنوات فقط، أي في السنة 4 من النبوة([28]). فمن الذي كان يلقنه الوحي بعد ذلك؟!

 إن واط/watt (ت2006م) يصرّ على مسألة تعلم السراج المنير Mohamed peace be upon him.svg من ورقة(ت نحو12ق.هـ/ 611م) ومن غيره دون دليل يثبت أمام النقد والاستقراء، سوى منهجه العلماني المادي (الواقعي!) الذي لا يصدِّق بالغيب وما يتَّصل به، يذكر "أن هناك العديد من القصص ذات الطابع الدِّيني يكاد يكون من المتيقِّن بأنها ليست حقيقية من وجهة نظر المؤرخ العلماني الواقعي"([29])، كما قال محمد الأمين. إن المقدمة الكبرى لديه هي تفنيد نبوة صفوة الباري، وكل جهوده إنما هي للتوفيق بين الأحداث التاريخية السَّاطعة الدالة على صدق النبوة وبين مقدمته تلك. من أجل ذلك انتهج المنهج العلماني المشكِّك في الغيب والوحي. ولنتساءل: هل التزم واط/watt (ت2006م) فعلا بما أخذه على نفسه في كتابه "محمد في مكة" من التزام بقواعد البحث التاريخي الغربية وعدم ردّ أي مبدأ من مبادئ الإسلام الأساسية؟ من أجل تحقيق التواصل الحضاري السلمي بين الشرق والغرب. بحيث قال: "فقد حاولت- مع الالتزام بالمقاييس العلمية التاريخية الغربية- ألا أقول شيئا يفهم منه رفض أي مبدأ من مبادىء الإسلام الأساسية، إذ لا يجوز أن تكون هناك هوة لا يمكن عبورها بين الثقافة الغربية والإسلام"([30]). وقال في موضع آخر من كتابه: "سأحاول- متخليا بذلك عن الكياسة- أن أتحدث بأسلوب لا ينكر أية عقيدة من عقائد المسلمين"([31]). ونحن نعلم أن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله من أركان الإيمان في الإسلام، ومن مبادئه الأساسية التي اهتمت الدعوة النبوية طيلة المرحلة المكية بترسيخها في القلوب. فوجدناه يعمل جاهدا على إنكار الوحي جملة وتفصيلا، ثم إنه أنكر الوثائق التاريخية الإسلامية الأولية وعلى رأسها القرآن الكريم. وأمام وقوف واط/watt (ت2006م) عاجزا أمام عظمة الهادي البشير وعظمة رسالته وعظمة القرآن الكريم وإعجازه، لم يجد بُدّاً من الاعتراف بصفاء وصدق هذا الرَّجل الكامل Mohamed peace be upon him.svg. حين قال عنه: "لا يمكن تأييد اتهامه (بالغدر) أو الشهوانية ـ على غرار المستشرقين . لأن معاصريه لم يجدوا فيه مطعنا أخلاقيا من هذا النوع من أي وجه، لأنه مصلح اجتماعي وأخلاقي"([32])، وهذا أقصى ما توصَّل إليه، لمَّا غيَّب الوحي، وأنكر سنَّة الله في إرسال الأنبياء والرُّسل.

 ويلاحظ القارئ لمقولات واط/watt (ت2006م) ازدواجا في الرؤية والحكم، فتارة يبجِّل من يستحق الثناء Mohamed peace be upon him.svg، وينعته بالصِّدق والخُلق والفضيلة، وينعت المستشرقين بالغباء الشديد في مجالات علم النفس والدين والصحة على سواء. حين يصفون ظاهرة الوحي عند محمد (Mohamed peace be upon him.svg) بأنها هلوسة"([33])، وفي الوقت ذاته، ينكر عن المنزّه عن الكذب Mohamed peace be upon him.svg علاقته بالسَّماء([34]). ويعلّل واط/watt (ت2006م) هذه الازدواجية بلغة فلسفية مجرَّدة إذ يرى أن "القول بأن محمدا كان صادقا لا يعني بأن القرآن وحي حق، وأنه من صنع الله، إذ يمكن أن تَعتقد بدون تناقض أن محمّدا كان مقتنعا بأن الوحي ينزل عليه من الله، وأن نؤمن في نفس الوقت بأنه كان مخطئا"([35])؟!.

 بعد أن تعرضنا لقضية أخذ النبي العظيم Mohamed peace be upon him.svg عن ورقة، واتضح، حسب رواية الإمام البخاري(ت256هـ)، أنه التقى به مرَّة وحيدة رفقة زوجه خديجة، وذلك بعد نزول الوحي، بينما تذهب رواية ابن سعد(ت230هـ) إلى أبعد من ذلك، فتنفي وقوع أي اتصال بينهما، لأن أم المؤمنين ذهبت وحدها إلى ابن عمها تستشيره وكانت تلك زيارتها الأولى والأخيرة. بعد هذه القضية، نحاول مناقشة الحجة التي اعتمدها واط/watt (ت2006م) لتأكيد اقتباس المنزه عن النّقص من المسيحية واليهودية. لقد حاول جهده، إظهار الجوانب التي تأثر فيها الإسلام باليهودية وبالمسيحية، فتحدَّث عن فرض صلاة الظهر مجاراة للعادات اليهودية، وصلاة الجمعة، والتوجه نحو القدس في الصلاة، وصيام عاشوراء، وتحليل طعام أهل الكتاب، وزواج الكتابيات"([36]).

 موقف واط/watt (ت2006م)، هذا، يفرغ الدَّعوة من بعدها الغيبي والرُّوحي، ويجعل الرسالة الخاتمة تشويها وتحريفا للديانتين، مما يوحي للباحث عن الحقيقة بضرورة الرجوع إلى المنابع الأصلية!!، أي أنه بدل اعتناق دعوة الإسلام فالأولى الرُّجوع إلى الأصل، الذي هو في نظره اليهودية والمسيحيَّة!!.

 لا مراء، في أن الإسلام واليهودية والمسيحية شرائع سماوية صدرت من مشكاة واحدة، مصدرها واحد وغايتها واحدة، يشهد على ذلك قوله عزّ من قائل: Cالم, اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ, نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ, مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَB([37]). هذا مع اعتبار أن المقصود أصل شريعة موسى عليه السلام، وأصل شريعة المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام، قبل أن يطالهما التحريف.

 إن اتحاد الشرائع في العقيدة وتشابهها في بعض أشكال العبادات جعل البعض يعتقد بفكرة انبثاق الإسلام عن المسيحية واليهودية، أو أنه انفصال عنها وتحريف لها. فهل بالضرورة إذا وجد هذا النوع من التشابه أن يكون الإسلام قد أخذ منهما؟ إذا قيل نعم. فكيف نُعلِّل القصص المذكورة في القرآن الكريم ولا أثر لها في التوراة والإنجيل؟ وكيف عرفها صاحب المعجزات وقد وقعت في زمن موغل في التاريخ؟ بل وكيف نعلل الإعجاز العلمي الوارد في القرآن والذي أثبته العلم الحديث؟.

 إن جوهر دعوة الأنبياء هو عبادة الله وحده لا شريك له، ونبذ عبادة الأغيار، قال تعالى: Cشَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُB([38]). لهذا نجد شرائع الأنبياء دعت كلّها إلى التوحيد وفعل الخير والصلاة والزكاة: Cوَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَB([39]). والصَّوم: Cيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَB([40]) ولكل أمّة شرع الله مكانا للعبادة والنسك Cوَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِB([41]). غير أن كيفية أداء هذه العبادات ووقتها، يختلف من شريعة إلى أخرى لحكمة يعلمها الله. ثم إنه على الرُّغم من اشتراك الإسلام مع غيره في هذه العبادات إلا أنه جاء بتشريع متفرِّد مستقل.

 بكلمة، "إن هذا التشابه في العقيدة وبعض العبادات والتشريعات، لا يعني بالضرورة أن المتأخر أخذ من المتقدِّم فزاد عليه أو نقص منه، وإنما مردّ ذلك إلى قوله تعالى: Cإِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُB([42])"([43]).

 وذهبت "الموسوعة العبرية" إلى أن سيد الأولين والآخرين كان ينتقي الجيِّد مما في التوراة"([44]). فهل، فعلا، كان اليهود في مستوى من العلم والإدراك بحيث يستطيعون استمالة الناس، ودعوتهم إلى التوراة والدعوة إلى اليهودية؟ يذكر ابن خلدون(ت808هـ/ 1406م) أن "أهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم، ولا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب، ومعظمهم من حمير الذين أخذوا بدين اليهودية، فلما أسلموا بقوا على ما كان عندهم مما لا تعلق له بالأحكام الشرعية التي يحتاطون لها مثل أخبار بدء الخليقة، وما يرجع إلى الحدثان والملاحم وأمثال ذلك. وهؤلاء مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام وأمثالهم"([45]). ويذكر عبد الله درَّاز(ت1958م) أمرا غاية في الأهمية، وحجة دامغة تقطع الطريق على الرأي المغرض يقول: "أنه في هذا الوقت من ظهور الدعوة المحمدية، لم تكن قد وُجدت بعدُ توراة ولا إنجيل باللغة العربية"([46]). ولا شك أن مثل هذا الدَّليل يقطع الطريق أمام من يزعم اطلاع الحبيب Mohamed peace be upon him.svg على ما جاء فيها. وقد كان رائد هذه الشبهة "القديس يوحنا الدمشقي(ت749م/ 132هـ) الذي اعتبر الإسلام منشقا عن الديانة الصحيحة، فهو بهذا المعنى ليس إلا زندقة خارجة عن المسيحية، أما النبي محمد (Mohamed peace be upon him.svg) فهو لم يكن مرسلا بل مبتدعا جاء بكتاب موضوع، مختلف ساعده فيه بعض الرهبان المنشقين عن الكنيسة"([47]).

 بكلمة، إن حديث بودلي/ R.V.C. BODLLY وواط/watt (ت2006م) وغيرهم عن الوحي والنبوة والدعوة حديثا ماديا مجرَّداً، هو نابعٌ عن عدم الإدراك الحقيقي لتلك المعاني الغيبية، وعدم ملامستهم لجوهرها وكُنهها بالقلب والعقل معاً. ولهذا تأتي النتيجة، حتى عند من أخذ على نفسه أن يلتزم بالموضوعيَّة، مزايلة للواقع والحقيقة.

 

(رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ). البقرة:201.

               

([1]) ـ موسى البسيط، رد الطعون الواردة في الموسوعة العبرية عن الإسلام ورسولهMohamed peace be upon him.svg. وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة، المملكة العربية السعودية (بدون تاريخ)، ص. 11. (بتصرف).

([2]) ـ كارل بركلمان، تاريخ الأدب العربي. 6أجزاء، ترجمة: النجار، دار المعارف، مصر (بدون تاريخ)، 1: 137.

([3]) ـ موسى البسيط، رد الطعون الواردة في الموسوعة العبرية عن الإسلام ورسولهMohamed peace be upon him.svg. مرجع سابق، ص. 12.

([4]) ـ بودلي، الرسول: حياة محمد. مرجع سابق، ص. 140.

([5]) ـ مونتجمري وات، محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكة. مرجع سابق، ص. 121. (بتصرف).

([6]) ـ نفسه، ص. 120. (بتصرف).

([7]) ـ نفسه، ص. 101.

([8]) ـ المكان نفسه.

([9]) ـ المكان نفسه.

([10]) ـ عبد الله محمد الأمين النعيم، الاستشراق في السيرة النبوية. مرجع سابق، ص. 45. (بتصرف).

([11]) ـ ابن كثير، السيرة النبوية. مصدر سابق، 1: 154 ـ 155.

([12]) ـ انظر: ابن كثير، البداية والنهاية. مصدر سابق، 2: 297.

([13]) ـ انظر: الطبري، تاريخ الرسل والملوك. مصدر سابق، 2: 302.

([14]) ـ انظر: ابن خلدون، ديوان المبتدأ والخبر. مصدر سابق، 2: 406.

([15]) ـ ابن حبيب، المنمق في أخبار قريش. مصدر سابق، 1: 153.

([16]) ـ انظر: ابن حبيب، المحبر. مصدر سابق، ص. 171.

([17]) ـ انظر: ابن قتيبة الدِّينَوري، المعارف. مصدر سابق، ص. 59.

([18]) ـ انظر: ابن سعيد المغربي، نشوة الطرب في تاريخ جاهلية العرب. مصدر سابق، ص. 352.

([19]) ـ انظر: ابن الجوزي، المنتظم في تاريخ الأمم والملوك. مصدر سابق، 2: 201.

([20]) ـ انظر: ابن الأثير، الكامل في التاريخ. مصدر سابق، 1: 648.

([21]) ـ انظر: الذَهَبي، تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام. مصدر سابق، 1: 118.

Watt, Mohammad at Medina, p.25.) ـ [22] (

 نقلا عن: عبد الله محمد الأمين النعيم، الاستشراق في السيرة النبوية. مرجع سابق، 1: 185.

([23]) ـ سورة العلق: الآيات 1 ـ 2 ـ 3.

([24]) ـ البخاري، الجامع المسند الصحيح. مصدر سابق، كتاب: الوحي، باب: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله، رقم: 3، 1: 14. (بتصرف)./ الطبري، تاريخ الرسل والملوك. 11جزءا، ط.2، دار التراث، بيروت ـ لبنان 1387هـ، 2: 302./ أبو الفداء، المختصر في أخبار البشر. 4أجزاء، ط.1، المطبعة الحسينية المصرية، مصر (بدون تاريخ)، 1: 115.

([25]) ـ المكان نفسه.

([26]) ـ ابن سعد، الطبقات الكبرى. مصدر سابق، 1: 153.

([27]) ـ ابن عساكر، تاريخ دمشق. 80 جزءا، تحقيق: عمرو بن غرامة العمروي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1995م، 64: 4.

([28]) ـ انظر: ابن الجوزي، المنتظم في تاريخ الأمم والملوك. مصدر سابق، 2: 373.

([29]) ـ عبد الله محمد الأمين النعيم، الاستشراق في السيرة النبوية. مرجع سابق، ص. 44.

([30]) ـ مونتجمري وات، محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة. مرجع سابق، ص. 41.

([31]) ـ نفسه، ص. 123.

[32])) ـ نفسه، ص. 3. (بتصرف).

[33])) ـ نفسه، ص. 26. (بتصرف).

[34])) ـ انظر: نفسه، ص. 130.

[35])) ـ Watt, Muhammad at mecca, p. 325/ نقلا عن: عبد الله محمد الأمين النعيم، الاستشراق في السيرة النبوية. مصدر سابق، ص. 46.

([36]) ـ .p196-201 Ibid,.Watt, Mohammad at medina / نقلا عن: عبد الله محمد الأمين النعيم، الاستشراق في السيرة النبوية. مصدر سابق، ص. 46.

([37]) ـ سورة آل عمران: الآيات 1 ـ 2 ـ 3.

([38]) ـ سورة الشورى: الآية 13.

([39]) ـ سورة الأنبياء: الآية 73.

([40]) ـ سورة البقرة,: الآية 183.

([41]) ـ سورة الحج: الآية 34.

([42]) ـ سورة آل عمران: الآية 19.

([43]) ـ موسى البسيط، رد الطعون الواردة في الموسوعة العبرية عن الإسلام ورسولهMohamed peace be upon him.svg. مرجع سابق، ص. 16.

([44]) ـ نفسه، ص.11.

([45]) ـ ابن خلدون، ديوان المبتدأ والخبر. مصدر سابق، 1: 555.

([46]) ـ محمد عبد الله درَّاز، مدخل إلى القرآن الكريم. مرجع سابق، ص. 141.

([47]) ـ لويس كارديه، فلسفة الفكر الديني بين الإسلام والمسيحية. 5أجزاء، ترجمة: صبحي الصالح، دار العلم للملايين، بيروت (بدون تاريخ)، 2: 32.