الكلّ منهمك في إبادة المدنيين!

قُتل عشرات العراقيين في هجوم بشاحنة مفخخة لتنظيم «الدولة الإسلامية» على سوق في منطقة ذات غالبية شيعية في بغداد، وفي المقابل قُتل عشرة عراقيين في قصف جوي للجيش العراقي على مستشفى للأمراض النسائية في الفلوجة ذات الغالبية السنية، فيما ذكرت وزارة الدفاع الألمانية أن هجوما بالسلاح الكيميائي استهدف قبل أيام مقاتلين أكراداً في العراق.

وفي سوريا قتل العشرات من المدنيين في غارات للنظام السوري على ريفي دمشق وحماه، وهي مناطق معارضة تسكنها غالبية سنّية، أول أمس، فيما سقطت صواريخ للمعارضة السورية على مدينة اللاذقية الساحلية، والمعقل الرئيسي للطائفة العلوية، فقتلت اثنين، ولم نذكر الجرحى في كل هذه الحوادث وعددهم بالمئات.

في حمّى صراع الرايات السوداء والصفراء (والألوان الأخرى) والمذاهب والايديولوجيات والمصالح والأجندات العالمية والإقليمية والمحلية، على المدن ومصافي الغاز والنفط ومعابر الحدود والنقاط «الاستراتيجية»، يكاد الجميع يشتركون في تبني «استراتيجية» واحدة: احتقار الحياة البشرية للمدنيين الذين لا يملكون فرق حراسة مثل الزعماء والقادة والضباط والمسؤولين ولا تحميهم قوات «سوات» الخاصة ذات البذّات والمعدات التقنية الأمريكية العالية، وليسوا قادرين على بيع قوّة عملهم للميليشيات والأحزاب.

وكانت طائرات التحالف ضد تنظيم «الدولة» قد قصفت قبل أيام مخيم أطمة للاجئين وأصابت الكثيرين منهم، وهو ما أثار دهشة السوريين واحتجاج «الائتلاف» المعارض، وأضاف إلى المئات من المدنيين الذين قتلهم التحالف خلال غاراته في سوريا والعراق.

حساب المدنيين في الصراعات العسكرية والسياسية الجارية على الأرض العربية يحسب ضمن خانتين: الأولى هي تصنيفهم كـ»طاقة بشرية» للاستهلاك الحربيّ، كما عرّفهم الرئيس السوري بشار الأسد في خطابه الأخير، أو كحاضنات اجتماعية للجيوش والأحزاب والفصائل والمليشيات، وهو ما يعني تبويبهم، إجبارياً، في قائمة الخصوم المحتملين الذين من الحلال الانتقام منهم والتنكيل بهم، وفي الحالة المثلى، إبادتهم عن وجه الأرض.

تتبارى هذه الأطراف في أساليب التطهير الديني الطائفي أو القومي (أو الديني والقومي معا كما حصل للأكراد الإيزيديين مع «الدولة الإسلامية»، وحصل مع عرب سنّة سيطر حزب العمال الكردستاني على مناطقهم)، وتتنافس جميعها في الانتساب إلى الله، الرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء، في العقيدة الإسلامية، والمحبّ للإنسانية الذي أرسل المسيح لإنقاذ البشرية، في العقيدة المسيحية، ولكنّ الأديان، في منطق قادة هذه الأطراف، ومنتسبيها للأسف، تعرّف بالسلب، الذي يقوم على نفي الطرف الآخر وعلى الكره الذي يفضي إلى طرق القتل والانتقام.

وإذا كانت التبريرات الدينية للتمييز والإقصاء والتهميش وصولاً إلى البطش والتطهير والابادة لا تكفي فإن خبراء أمريكا وأوروبا في شؤون «الشرق الأوسط» يقدّمون مبررات ناجعة «لتسوية النزاع الطائفي»، كما يقترح رئيس الأركان الأمريكي المنتهية ولايته الجنرال ريموند اودييرنو أول أمس، باعتباره «الحل الوحيد»، وهو ما يعني تقنين وتشريع التطهير العرقي بين السنّة والشيعة والأكراد، وإعطائه المصداقية والمشروعية دولية.

رغم أن الحروب تجري باسمهم، وتدّعي الدفاع عنهم كمواطنين في دول، كما تقول الحكومات، أو عن مقدساتهم الدينية، كما تزعم الأحزاب والميليشيات، فإن المدنيين، رجالا ونساء وأطفالا، هم آخر من يستشارون في مصائر بلدانهم وحقوقهم وممتلكاتهم وأرواحهم وأبنائهم الذين يُقتلون كل يوم.

كل ما ذكرناه، لا يعني بالتأكيد اعتبار كل ما يجري على الأرض العربية صراعاً بين أشرار، فعلى جانبي المقتلة ترتسم خطوط سياسية بين طغاة عالميين وإقليميين ومحليين ساهموا، بعنفهم الذي يفوق التصوّر، وفي إطلاقهم للمجرمين والمتطرفين من السجون، في خلق هذه الفوضى الإجرامية الكبيرة ليقولوا إنهم لا يختلفون عن خصومهم في شيء.

كما أن انجرار أطراف سياسية تدافع عن المصالح العامة للشعوب إلى العنف، لا يعني مساواتها بأولئك الدكتاتوريين الكبار ولكنه لا يعني أيضاً الدفاع عن جرائم تقام باسم الثورات بل يحمل مطالبة شديدة لمن يحملون رايات تمثيل المظلومين ألا ينساقوا إلى أساليب الطغاة المجرمين الذين ثار الناس على ممارساتهم ومظالمهم.

كرامة البشر واحدة ولا يمكن قصرها على طوائف وإثنيات وأيديولوجيات، وهي «الفريضة الغائبة» عن الأنظمة المستبدة، وقد جاراها في ذلك الكثير من خصومها، إلا من رحم ربك.

وسوم: العدد 629