الباطنية السياسية

عبد السلام السلامة

 الدولة العميقة أصبح على كل لسان. الدولة العميقة هي ذلك الكيان الباطني المحكوم بأنظمة وقوانين وقواعد غير معلنة. لا يقتات ذلك الكيان إلا من دماء الناس، ولا ينمو إلا على آلامهم، ولا يخيفه سوى وعي الناس بأسباب مآسيهم وحرصهم على إزالة تلك الأسباب. هيكليه الدولة العميقة هي هيكلية نظام المافيا؛ هرميّ في ظاهره ، ولكنه شبكي في قاعدته الواسعة وعنقودي في قمّته . زعماء مافيا الدولة العميقة معدودون على الأصابع، وما دونهم منفّذو أوامر يحتلون مناصب رسمية ظاهرة ولكنهم موظفون مأجورون للحفاظ على النظام الباطني وليس على الدولة الرسمية دولة الناس البسطاء الذين يطلق عليهم اسم الشعب. لا يهدّد الدولة الباطنية سوى وعي ضحاياها. تماماً مثل أي شبكة لصوصية أو شبكة دعارة أو أو شبكة تهريب مخدرات أو طباعة عملات مزورة. تعيش وتنمو على حساب الجاهلين والغافلين والبائسين . 

في واقعنا العربي حقيقتان مريرتان كبيرتان لا مجال للشعوب أن تتخلص ممّا هي فيه من قهر وفقر وجهل وتخلف إلاّ إذا عرفتهما وبذلت كل ما يمكنها من تضحيات في سبيل التخلص منهما:

الحقيقة الأولى هي تماهي الدولة الباطنية مع الدولة العربية الرسمية، تماهياً شبه كامل. وهذا يكاد ينطبق على جميع الدول العربية.

والحقيقة الثانية وهي ألعن من الأولى أن النظام المافيوي لم يعد يسيطر على الدولة وحدها في البلاد العربية، وإنما هناك الكيانات العميقة التي تسيطر حتى على الكثير من التنظيمات التي ترفع شعارات القضاء على الدولة العميقة، فيما هي تعمل على تحقيق التماهي بين المؤسسات الرسمية في التنظيم وبين النظام المافيوي الذي يسعى للهيمنة على التنظيم .

لم تعد الكيانات العميقة نهجاً لمن يسيطرون على حكم البلاد وحسب، ولكنه يكاد يصبح سلوكاً مضطرداً في كل تجمّع في بلادنا المنكوبة. 

هنا ندرك عمق المأساة التي تواجه الشعوب العربية، وحجم التضحيات التي يجب عليها أن تبذلها لتتخلص من حياة التعاسة والعبودية التي تعيشها. 

أختم بنصيحتين: الأولى مشاهدة فيلم )الاستهلال) -  Inception الذي يتحدث عن الغوص في أعماق العقل الباطن لتغيير قناعات الإنسان، ومعرفة حجم الإنفاق على تلك العملية، وحجم الإمكانات التي يمتلكها من يقفون وراءها، ودرجة الرعب من احتمال فشلهم ، وطموحاتهم الإجرامية التي يسعون لتحقيقها. والثاني أن يدرك الواعون المثقّفون المخلصون أن عليهم وحدهم تقع المسؤولية كاملة. وليس لهم لقاء ذلك إلا التضحية بالدنيا وانتظار ماعند الله في الآخرة. وهذا ما أجده في قول الله سبحانه في القرآن الكريم :" إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ ". خشية الله أن تخشاه أيها العالم الواعي المثقّف فيما سيسألك عنه من تسخير وعيك وفكرك وعلمك لإنقاذ عباد الله من أغلال الباطنية.

وسوم: العدد 629