قراءة في القرار الدولي

بغض النظر عن الجدل الدائر حول امكانية تطبيق القرار الدولي رقم ٢٢٥٤ ، الذي اصدره مجلس الامن يوم ١٨/١٢/٢٠١٥ ، فإن اصداره يعتبر بحد ذاته نتاج حدثين مهمين هما : اولا : التفاهم الأميركي / الروسي حول المسالة الأوكرانية ، الذي قام على رفع العقوبات الدولية عن روسيا ، وقبول ضم شبه جزيرة القرم إلى أراضيها ، في حال قبل سكان شبه الجزيرة الامر في استفتاء يجري تحت اشراف الأمم المتحدة ، ووافقت الحكومة الأوكرانية على الضم . وثانيا: قبول الطرفين المتحكمين بالصراع في سورية بتسوية تقوم على تنازلات وتوافقات متبادلة بينهما ، تبدت في بنود رئيسة تعتبر مفتاحية لاتفاق الطرفين السوريين المنخرطين في الحرب الدائرة في بلادهما منذ نيف واربعة اعوام. هذه التسوية بين الجبارين لم تكن قائمة بعد في مفاوضات جنيف ٢ ففشلت ، فهل يعني توفرها اليوم أن المفاوضات المباشرة بين السوريين ستفضي حكما إلى حل في المدد الزمنية التي حددها القرار الدولي ، وتتراوح بين ستة واثني عشر شهرا ؟. اعتقد ان في تحليل القرار ، ومتابعة علاقات الدولتين الكبريين ومسارات صراعاتهما وتوافقاتهما الإجابة هذا السؤال الصعب ، الذي تحول دونه اليوم انزياحات مهمة في القرار الدولي عن بيان جنيف واحد، وزئبقية علاقات الجبارين وما يشوبها من غموض ، وتخضع له من مفاجآت .

   لنبدأ بالجانب الإنساني من القرار ، الذي يغطي معظم ما يحتاج إليه الشعب السوري ، في حال اريد له الانتقال من حال التمزق والتشتت الراهنة إلى حال يمكن التعايش معها. يدعو القرار ٢٢٥٤ الى" وصول الوكالات الانسانية السريع والآمن غير المعرقل إلى جميع انحاء سورية ، وخاصة في المناطق المحاصرة ، وإلى الإفراج عن المحتجزين بشكل تعسفي لا سيما النساء والاطفال "، وإلى التنفيذ الفوري لقرارات دولية سبق أن صدرت عن مجلس الامن بخصوص رفع حصار النظام عن المناطق التي يجوعها ويقصفها بالبراميل ... الخ ، كما يدعو الى "وقف الهجمات ضد المدنيين والاهداف المدنية بحد ذاتها . وضد المرافق الطبية والعاملين فيها ، ووقف الاستخدام العشوائي للاسلحة بما في ذلك القصف المدفعي والجوي ". ويقرر" عودة اللاجئين والنازحين داخليا الى مناطقهم الاصلية ،وتأهيل المناطق المتضررة وفقا للقانون الدولي" .

  هذا الجانب يجب ان يكون جوهر اجراءات بناء الثقة ، ولا بد من أن يحظى بدعم مطلق من المعارضة والجيش الحر ، وان يكون نقطة جوهرية واولوية في المفاوضات والحل يعتبر الالتزام بها وتحقيقها معيار اي انخراط جدي في التفاوض ، على ان يشمل وقف قصف المدنيين القصف الروسي/ الايراني ، ويلتزم الطرف الآخر بموعد الشهرين الزمني، الذي حدده القرار الدولي لتنفيذه ، ويقدم امين عام الامم المتحدة بعده تقريرا تفصيليا عن التنفيذ يحدد فيه الجهات التي التزمت به وتلك التي خالفته. ومن الضروري ان يعلن وفد المعارضة الى المفاوضات منذ اليوم أن  تلاعب النظام والجانب الروسي/ الايراني بتطبيق الجوانب الانسانية من القرار ٢٢٥٤ سيوقف مشاركته في المفاوضات ، وأنه لن يعود إليها قبل تنفيذ جميع ما نص عليه حول هذا الجانب . ثمة نقطة اخرى ، مختلفة، تتعلق بالاجتماعات التي عقدت في القاهرة وموسكو ، وحضرها سوريون بدعوة من العاصمتين ، ويساوي القرار بينها وبين ما يسميه " جدوى اجتماع الرياض، الذي تسهم نتائجه في التمهيد لعقد مفاوضات تحت رعاية الامم المتحدة بشأن التوصل إلي حل للنزاع وفقا لبيان جنيف وبياني فيينا ، في اطار السعي الى كفالة التنفيذ الكامل لبيان جنيف كاساس لانتقال سياسي ". لاي سوري الحق في حضور ما يريده من اجتماعات ، والقيام بما يطيب له من زيارات ، وللقرار ذكر القاهرة وموسكو في سحبة واحدة ، لكن هذا لا يجوز أن يجعلنا نتعامى عن الفارق بين من اجتمعوا تعبيرا عن موقف سوري، واولئك الذين عبرت اجتماعتم عن قبولهم بمواقف الدول التي دعتهم ، ولم تكن في اي وقت متفقة مع مصالح الشعب أو معبرة عنها ، بل لعبت الدور الرئيس في انزياح القرار رقم ٢٢٥٤ عن بيان جنيف ، وان مساواة جميع الاجتماعات لا بد ان يكون مرفوضا ، وان من يمكن ان يدعى للانضمام إلى الوفد المفاوض يجب ان يكون موافقا على برنامج العمل الوطني الذي بلوره الائتلاف كشرط لقبوله في الصف الوطني المعارض.

   اعتقد أن تحقيق متطلبات الجانب الانساني يجب آن يكون الهدف الرئيس الذي يمكن ويجب تحقيقه في المفاوضات ، بالنظر إلى صعوبة تحقيق الاهداف الأخرى ، المتصلة بالتسوية والحل السياسي ، والتي اجمل ملاحظاتي عليها على النحو التالي :

 ـ فيما يتعلق بوقف اطلاق النار : نص القرار على قبول وقف اطلاق النار كمبدأ عام ، لكنه "جعل دخوله حيز التنفيذ ممكنا بمجرد أن يخطو ممثلو الحكومة والمعارضة الخطوات الأولى نحو انتقال سياسي برعاية الامم المتحدة استنادا إلى بيان جنيف ". بكلام واضح : لن يطبق وقف اطلاق النار قبل المفاوضات ، بل بعد تحقيق نجاح فيها ، وسيكون تنفيذه مرهونا بالخطوات المطلوبة نحو الانتقال السياسي ، فإذا لم تتوفر هذه الخطوات لاي سبب استمر اطلاق النار ، الأمر الذي يتعارض مع الموافقة على مبدآ وقفه من جهة ، ويضع مصيره في يد من لا يريد حلا سياسيا من جهة اخرى ، مع التذكير بأن النظام علن رفضه الالتزام به في اكثر من مناسبة . هذه مشكلة يجب ان يجد الوفد المفاوض حلا لها مع ممثلي الامم المتحدة او عبر مذكرة خاصة ترسل الى أمينها العام ، تلفت نظره إلى ان فصل تنفيذ وقف اطلاق النار عن قبول الأطراف المتصارعة به كمبدأ يقوض اجراءات بناء الثقة، ويحول دون تطبيق الجانب الانساني من القرار الدولي ، قبل ان تطالبه بجعل التنفيذ سابقا للتفاوض ، باعتباره جزءا من حماية المدنيين السوريين . مثلما يجب لفت نظره إلى ان "تحديد طرائق وشروط وقف اطلاق النار من قبل الامم المتحدة ووضع الية لرصد الوقف يوافق عليها مجلس الامن في موعد لا يتجاوز شهرا من تاريخ اتخاذ القرار" لا يجوز ان يخضع لقرار طرف مفاوض بالامتناع عن تحقيق خطوات أولى نحو الانتقال السياسي ، الذي يقول القرار: " إنه يجب ان يكون جامعا وبقيادة سورية تتبني التطلعات المشروعة للشعب السوري" .

 ـ فيما يتصل بالهيئة الحاكمة الانتقالية : يقول القرار إن الحل الدئم "للازمة" من خلال عملية سياسية جامعة يستهدف التنفيذ الكامل لبيان جنيف واحد والقرار ٢١١٨ بسبل منها إنشاء هيئة حكم انتقالية جامعة تخول سلطات تنفيذية كاملة، تعتمد في تشكيلها على الموافقة المتبادلة مع كفالة استمرارية المؤسسات الحكومية ".  

 يجعل نص القرار ٢١١٨ ، الذي يقول القرار ٢٢٥٤ :"ان تطبيقه يتيح الحل الدائم للازمة" ، تشكيل الهيئة الحاكمة الانتقالية "بداية الحل السياسي" ، ويعينها كاداة وحيدة لانجاز الانتقال الى النظام الديمقراطي . اما في القرار ٢٢٥٤، فهي تصير "احد سبل الحل" ، ويصير هناك من "يخولها" سلطاتها التنفيذية الكاملة ، بعد أن كانت في وثيقة جنيف واحد مرجعية نفسها وليس هناك أية مرجعية خارجها اومخولة بتشكيلها . في الوقت نفسه ، انقلبت المحافظة على مؤسسات الدولة في جنيف إلى " كفالة استمرارية المؤسسات الحكومية " في القرار ٢٢٥٤. كيف يكون بيان جنيف مرجعية الحل اذا كان يتم التخلي عن الهيئة الحاكمة الانتقالية ويتم تحويل مؤسسات الدولة إلى مؤسسات الحكومة؟ . هذان التراجعان الخطيران لا يجوز القبول بهما تحت اي ظرف ، لانهما يجعلان الحل اسديا بكل معنى الكلمة ، ولا مفر من ان تبقى الهيئة اداة وحيدة لانجاز حل سياسي هي مرجعيته التي لا مرجعية لها من خارجها، وتشكل نفسها بنفسها دون ان يشكلها احد. عندما يقال انها احد سبل الحل وانه هناك من يخولها سلطاتها ، فهذا يعني عمليا الابقاء على  بشار الاسد او من يماثله في السلطة . كما أن استمرارية مؤسسات الدولة شيء واستمرارية المؤسسات الحكومية شيء آخر ، هو نقيضه في حالتنا السورية . أن المحافظة على الجيش كمؤسسة دولة تختلف اختلافا جذريا عن المحافظة عليه كمؤسسة حكومية . انه يكون في الحالة الأولى مؤسسة توجد الدولة بها ، وفي الثانية مؤسسة حزبية تلغي الدولة وترتبط بسلطة حكومية استبدادية مجرمة فتكت بالشعب بامر من رئيسها ، يعني استمرارها استمرار نظامه ورئاسته ، علما بآن جيش الدولة لن يقوم إن بقي في بلادنا الجيش الحكومي الحالي، الذي اباد شعبنا باكثر الصور وحشية ، وحاكت همجيته ما فعلته جيوش الاستعمار في مستعمراتها . نعم لاستمرار مؤسسات الدولة ، ولا صارخة للمؤسسات الحكومية الحالية ، التي يعني استمرارها بقاء النظام وفشل الثورة ورفض مطالب الشعب ، ويناقض استمرارها مع ما يطالب به القرار في احدى فقرة تجعل بحدفية نصها "تبني هذه المطالب هدف التنفيذ الكامل لبيان جنيف" . هنا ايضا ، لا بد من موقف واضح لصالح الهيئة كاداة وحيدة يعني الحل السياسي تشكيلها وقيامها بانجاز الانتقال الديمقراطي ، فان استبدلت بغيرها غاب الحل واستحال بلوغه . ولا بد ايضا من موقف صريح لصالح مؤسسات الدولة باعتبارها نقيض المؤسسات الحكومية الحالية ، التي لا يجوز ان تستمر ، بل ولا بد من القضاء التام والناجز عليها في اي حل سياسي.

ـ   وصف القرار ٢٢٥٤ " الحكم" السوري المنشود بأنه " ذي مصداقية يشمل الجميع ولا يقوم على الطائفية"، وكان جنيف قد جعل للمفاوضات هدفا وحيدا هو نقل سورية إلى الديمقراطية . هل "الحكم" الذي يذكره القرار ٢٢٥٤ يساوي في طبيعته ووظائفه النظام الديمقراطي ؟. الا يمكن ان يقوم في سورية حكم ـ لماذا تخلوا عن النظام لصالح الحكم؟-ـ له مصداقية وشامل ولا يقوم على الطائفية، دون أن يكون ديمقراطيا ؟. اعتقد شخصيا ان هذا ممكن ، ومرفوض ، وانه لا بد المطالبة بتصحيح هذه النقطة في رسالة المعارضة الى امين عام الامم المتحدة .    

 ـ ليس بشار الاسد موجودا باسمه في القرار ٢٢٥٤ ، رغم انه موجود بصلاحياته ومؤسساته .هذا مرفوض ويعد انتهاكا خطيرا لبيان جنيف ، الذي يتكرر ذكره مرات كثير، مع انه يفرغ من مضمونه في كل مرة . لا بد ان يصحح هذا الوضع ايضا ، وان نلح على تعريف معنى الصلاحيات التنفيذية الكاملة للهيئة الحاكمة الانتقالية ، التي اعطاها لها بيان جنيف ، وفسرها مجلس الامن بقرار خاص ، ويقتل الخروج عليه فرص الحل و السلام ، ويخرج الامور عن نصابها الصحيح ، ويبقي النظام حيث هو ويضع المعارضة في جيبه ، حسب ما يقترحه الروس في حلهم الذي يمكن الاسد من احتوائها واخضاعها بعد تحويل بعضها إلى موظفين في مؤسساته الحكومية ، التي يريد القرار ٢٢٥٤ استمرارها. لا داعي للقول: إن هذا يجب أن يكون مرفوضا جملة وتفصيلا .

ـ لا أثر لكلمة واحدة في القرار ٢٢٥٤ حول الاحتلالين الروسي والايراني لبلادنا ، فكأنهما ليسا عامل إفشال للحل السياسي ، لمجرد آن اولهما وافق على القرار ٢٢٥٤ ، وثانيهما احتمى بها .  لا بد من معرفة مصير الاحتلالين قبل الذهاب إلى للتفاوض ، ولا مفر من وجود ضمانات بانهما ستوقفان قصف المدنيين ، وستجمدان انشطتهما العسكرية ضد الجيش الحر وتلتزمان بوقف اطلاق النار ، وانهما ستنسحبان من بلادنا قبل انجاز الحل ، وان هذا كله يجب ان يسجل في قرار يصدر عن مجلس الامن تحت الفصل السابع .

ـ ما هي منظمات الارهاب ، واين توجد ، وهل سيكون للمعارضة دور في تحديد تنظيماتها ، أم أننا سنقبل ما يصنفونه في البلدان الاخرى ، وفق معايير لا نقر معظمها لكونها تراعي امنها ولا تراعي اوضاعنا ؟. كان علينا كمعارضة ان نحدد هوية هذه المنظمات ، ونعلن رفض اية تصنيفات لا تراعي تحديداتنا او تنطلق منها . وكان علينا التدخل كي لا يصنفوا تسعين بالمائة من الجيش الحر والتنظيمات التي تدافع عن شعبنا كارهابيين ، مثلما فعلوا مع تنظيم "نور الدين زنكي" على سبيل المثال لا الحصر. لم يفت الوقت ، وعلينا ان ننجز هذا التصنيف ونعتمده رسميا ، وان نلتزم به ، ونعلن للدول أنه تصنيفنا الذي لن نتخلى عنه، وان كنا على استعداد لمناقشة ما يقترحونه .

  هناك ثغرات كثيرة في القرار رقم ٢٢٥٤ ، وهناك تراجعات خطيرة عن بيان جنيف ، وهناك تناقضات بين فقراته ومسوغاته ، وهناك اخيرا ضرورة لتكليف هيئة خبراء بدراسته بالتفصيل ، واصدار موقف رسمي ومعلن منه ، يكون مرجعية الوفد المفاوض والحركة الوطنية السورية ، ودليلا نلتزم به امام شعبنا . 

وسوم: العدد 647