أهل المبادىء العظيمة

مؤثر جدا هو التقرير الذي بثته وسائل الإعلام العالمية بتنوعها عن وفاة المناضلة الإنسانية الأميركية كونسبسيون توماس التي أقامت في خيمة بلاستيك عند البيت الأبيض منذ 1979 ، واستهدفت الدفاع عن حقوق الناس في كل مكان ، ومنها حق الفلسطينيين ، وأوجزت هدفها في وضوح محدد بأنه " منع العالم من تدمير نفسه " . الغرب  أوروبيا أو أميركيا ، صاحب مظالم كثيرة في السياسة والحرب هي في الحق الخالص جرائم رهيبة ، لكن المجتمعات الغربية على مستوى الأفراد وبعض الجماعات المدنية ؛ تقدم دائما مثلا باهرة للإنسانية والرحمة وسمو الشعور الأخلاقي تجاه الآخرين . ويميز هؤلاء الأفراد وهذه الجماعات الإصرار اللامتناهي المتحدي لألوان الصعاب القاسية ثباتا صلبا على ما اقتنعوا به . ومصدر هذه النزعة في المجتمعات الغربية ثقافتها وقيمها التي تعزز ثقة الفرد في ذاته وإيمانه بدوره في حياته وفي حياة مجتمعه وفي حياة الإنسانية . إنه ليس رقما جامدا ملغى الفاعلية مثلما هي حال الفرد في لمجتمعات العربية والإسلامية . وهذه النزعة قديمة في الغرب ، وهي التي بنت مجتمعاته ، وصنعت الحقوق المدنية التي تساوي بين الناس حاكمين ومحكومين ومن كل الطبقات . والدقيق في التوصيف أنه لا وجود لمصطلح الحاكم والمحكوم والوالي والرعية في المجتمعات الغربية . كل الناس سواء في الحقوق والواجبات واحترام الذات . وبيانا لقدم هذه النزعة أو الشجاعية الفردية الأخلاقية نستعيد شيئا من سيرة الشاعر والروائي والسياسي الفرنسي فيكتور هوجو (1802 _ 1885 ) . هذا الأديب الكبير انتخب في 1848 على قائمة الاتجاه المحافظ عضوا في الجمعية الوطنية الفرنسية ، ولكن ، ومثلما يرد في سيرته في موسوعة " كاكستون الجديدة " البريطانية ، " دفعه زخم الأحداث   في تلك السنة إلى معارضة الجناح اليميني ، وأقنعه بالحاجة إلى العمل للتخفيف من بؤس الطبقات العاملة " ، ودفع موقفه الحكومة إلى نفيه في 1851 ، وقضى في منفاه في بلجيكا وجزر القنال 18 عاما ناصب فيها نابليون الثالث أشد العداء ، ورفض بأنفة وحزم قبول العفو عنه ، والسماح له بالعودة إلى بلاده إلا إذا استجيبت مطالبه في الديمقراطية والعدل ، وهاجم في منفاه نابليون في كتيب " نابليون الصغير" ، وفي قصائده الهجائية اللاذعة " القصاص " ، وكتب في المنفى رائعته رواية " البؤساء " في 15 عاما ، وديواني " التأملات " و " أسطورة القرون " ، ولم يرجع من منفاه إلا بعد سقوط حكم عدوه نابليون الثالث . شجاعة المبدأ الأخلاقية في وجه الظلم والطغاة نادرة الآن في العالم  العربي والعالم الإسلامي مع أن ديننا العظيم دين مبادىء وقيم أخلاقية معادية للظلم والطغيان في كل صورهما ، وقدوتنا في ذلك فريدة مبكرة تاريخيا يمثلها موقف رسولنا _ صلى الله عليه وسلم وقوله  في مطلع دعوته : "  والله ، ياعم ، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر أو أهلك دونه ما تركته " . نحن في عالم عربي وإسلامي متخلٍ عن قيم هذا الدين الرباني المستهدف خير الإنسان والإنسانية . لو اعتصمنا بما يأمرنا به فرضا وإلزاما ما هوينا إلى هذا القرار من الهوان والهزائم والتمزق والفقر . حروب يفجرها حكام مستبدون متفردون في بلدان عربية وإسلامية ولا يلقون من مواطنيهم إلا المناصرة الخانعة والثناء الكاذب وقلب الحق باطلا والباطل حقا بتحريف أوامر الدين ونواهيه تحريفا يوافق أهواء الحكام ومقاصدهم التي تفتك بالأبدان وتفتت العمران في ديار العرب والمسلمين وتهيئها لاستباحتها من المعتدين الطامعين من الغربيين والإسرائيليين . المناضلة الأميركية العالمية الإنسانية ربما لا تعرف شيئا عن الإسلام وجوهره من القيم الإنسانية الخيرة ، وهدتها فطرتها التي فطر الله الناس عليها ، وثقافة مجتمعها  إلى هذه القيم . يبدو أننا أضعنا فطرتنا السوية النابذة للشر والخراب والداعية بقوة للخير والبناء ؛ بعد أن أسأنا فهم جوهر ديننا ، فلم نعد من أهل المبادىء العظيمة البانين العاملين لخير الإنسان وتجنيبه ما يضره ويشقي روحه ويهلك بدنه على مثال كونسبسيون التي لبثت   36   عاما وحيدة في خيمتها تنبه المارة وساكني البيت الأبيض بأن في العالم ظلما وعدوانا ، وأن وقفهما واجب أخلاقي حتى لا يدمر العالم نفسه ، وإنه لمحزن وجالب للعار أن يكون العرب والمسلمون أكثر شعوب العالم  ابتلاء بما عاشت كونسبسيون كل تلك السنين تحذر من حدوثه وشره الماحق .

وسوم: العدد 654