معركة الوعي : الحرية مطلب أول

يخطئ من ينظر للمشهد العالمي بصورة جزئية فيعتبر أن مشكلة ما يطلق عليه الشرق الأوسط بمنأى عما يحدث في تركيا أو في أوروبا أو أمريكا  فيذكر المشكلة المصرية أو السورية أو اليمنية  أو حتى الشرق الإسلامي ككل دون إلقاء نظرة علي الوضع العالمي كله .

 ومخطئ من يحاول البحث عن حل للمشكلات القائمة في قطر دون آخر ، أو مشكلة دون غيرها

إن الأحداث المتلاحقة اليوم ـــ  والتي في ظاهرها تصب في اتجاه يخالف مصلحة الشعوب قاطبة ـــ ، تصير وكأن يد واحدة تعبث بمصالح العالم كله وتتلاعب بها لصالحها وحدها ــــ  تلك اليد يمكن أن نصل إليها إذا بحثنا عن المستفيد الوحيد من كل الأحداث العالمية ـــ ، تقول تلك الأحداث أن الخريطة العالمية تدار علي منضدة واحدة تحت مسمي العولمة التي لم تقف عند الجانب الاقتصادي لصالح ميزان القوي الكبرى وعلي رأسها النظام الأمريكي الموظف لدي الإرادة الصهيونية في تل أبيب وإنما امتدت للجوانب الدينية و الاجتماعية والثقافية والسياسية والفنية وغيرها لتصير الهيمنة الغربية علي العالم الثاني والثالث أمر واقع لا يستطيع أحد منه فكاكا ، ولا يبقي أمام الضعفاء إلا الاستسلام والبحث عن إمكانية استمرارية الحياة لا أكثر ، بعدما أصبحت لقمة العيش لا تتأتي إلا بالانحناء والصمت والذل والعمالة

وعلي سبيل المثال دعونا نضع أيدينا علي الخريطة العربية ، تلك المرحلة المشتعلة منذ ما يقرب من قرنين ، منذ بداية القرن التاسع عشر وحتى اليوم حين احتلت أوروبا بلاد المسلمين ، وكعادة المهيمن علي الأوضاع دائما يحاول فرض ثقافته قدر استطاعته علي الشعوب التي تقع تحت سيطرته ، وذلك لضمان ولائه وضمان استمرارية وجوده حتى لو خرج منها عسكريا ، وبما أن الأمة العربية والإسلامية كانت بطبيعة الحال تمر بحالة من الضعف وفقدان الهوية فقد صارت نهبة سهلة في يد المحتل إلا من بعض الحركات الإسلامية التي ظلت تنادي بالحفاظ علي الأصالة وإحياء روح الجهاد للتخلص من الاستعمار حتى استطاعت الشعوب أن تتخلص منه ظاهرا بعدما ضمن المحتلون أن الأنظمة التي تركوها تحكم بلاد المسلمين أشد عداءا للدين وللشعوب أكثر من الاحتلال ذاته ، وأشد ولاءا له من بعض أبنائه ، وظهر في عصرنا مصطلح جديد ألا وهو العولمة ، كان المقصود منه دمج الاقتصاد العالمي ليصب كله في مصلحة الهيمنة الأمريكية ، وإنما تطور العمل به لتصير بلاد العرب جزءا من النظام العالمي الجديد ، يتم التلاعب بحاضره ومستقبله علي طاولة الغرب الأمريكي تحت راية صليبية معلنة .

وفي هذه النقطة يجب أن ندرك أمرا هاما وهو أن الاستعمار الغربي لبلاد المسلمين لم يكن قدرا مقدرا عليها ، ولم يكن لمجرد تفوق الغرب المسيحي علي الشرق المسلم ماديا وعلميا ، بقدر ما كان لضعف الشرق وهوانه ووهنه ، إن كل مساحة يتركها المسلمون أو يغفلون عنها تكون بمثابة تنازل عنها للغير ، ولست أقول أن الأمر تنافس وصراع علي أهداف مادية ، وإنما هو صراع حضاري طبيعي يخضع للسن الإلهية التي سنها الله  لخلقه ،تلك السنن التي تنازل عنها المسلمون فضلوا رغم وجود القرآن بأيديهم ، أهملوا العلم وأول كلمة لديهم " اقرأ " ، أهملوا البحث في حين حث الله عز وجل عليه " قل سيروا في الأرض فانظروا ... " ، أهملوا القوة وقد أمرهم الله بها " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة " ، أهملوا مهمتهم الحضارية التي اختارهم الله لها " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله " ، " وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء علي الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا " ، إنه التدافع الحضاري الطبيعي والدورة الطبيعية للتاريخ ، يمكن الله الأمم حتى إذا بدلت استبدلها بغيرها حتى تستفيق ، أو تذوب بين الحضارات

فالاستعمار إذن لم يكن لقوة الغرب ، بل كان لضعف الشرق وتخليه عن مهمته الحضارية وإهماله أسباب قوته

وبما أن العالم العربي اليوم ما زال يدور في نفس الفلك ، فسيظل جزءا من تلك اللعبة الدامية علي موائد الآخر ، ولعبة العولمة الدائرة لها قواعد وأصول وضعها الغرب بما أنه صاحبها وراعيها ، القاعدة الأولي فيها هي ضمانة أن تستمر أسباب تفوقه ، وبما أن السبب الأول في تفوقه هو ضعف الآخر ــ الذي هو نحن ــ  فسوف يظل حريصا علي إضعافنا ما أمكن له ذلك ، فكلما هدأت الحروب أشعلوها ، وكلما انتفضت الشعوب أخمدوها ، وكلما ظهر عالم قتلوه ، وكلما ولدت فتنة غذوها ، هكذا هو حرصهم علي بقاءنا علي نفس الحالة التي سمحت لهم من البداية علي الاحتلال والقنص ووضع قوانين القوي الذي لا يرحم .

ولمن أراد أن يعي فليمعن النظر في الخريطة العربية والإسلامية ، بدءا من مصر وصناعة الانقلاب ، ثم اليمن وصناعة الحوثي ، ثم سوريا وصناعة داعش  ، وليبيا وكل بقاع المسلمين ، يصنعون العدو ليلصقوا به ما يفعلون ، حتى إذا انفلتت الأمور من بين أيديهم حاربوه بشراسة ليقضوا عليه ويأتوا بعدو غيره يكون لهم أكثر طاعة واستسلاما وهكذا دواليك .

وبما أن سنة الله باقية إلي يوم الدين فسوف يذوق الغرب جزاء ما صنعت يداه ، ومن يشعل النار ليحرق بها العالم حتما سيحترق بها وعلي الباغي تدور الدوائر ، إن من يريد أن يعرف من وراء التفجيرات المتلاحقة التي تحدث في تركيا فليبحث عن المستفيد ، ومن يريد أن يعرف من وراء صمود الانقلاب في مصر رغم السقوط المدوي له والفشل الذريع في إدارة البلاد يبحث عن المستفيد ، ومن يريد أن يعرف من وراء سحق الجيش العراقي وكل جيوش المسلمين في حروب بينية داخلية فليبحث عن المستفيد ، لكن ليعلم هذا المستفيد أنه قد آن أوان دفعه الثمن فالانفجار الكبير قد أوشك ، انفجار الشعوب التي جوعتها حكامها المستبدين العملاء العاملين تحت إمرة المحركين للمشهد العالمي.

لن تحل مشكلة مصر بمنأى عن اليمن ولا عن سوريا ولا عن القدس ولا عن ليبيا ولا عن تركيا المسلمة ، إن الحل في معركة وعي لا معركة سلاح ، معركة وعي تعيد المسلم إلي ذاته وهويته ، تعرفه أن عدوه ضعفه ، وأنه ليس جزءا من حضارة الآخر إنما هو شاهد علي تلك الحضارات ، وحتى يكون كذلك يجب عليه أن يتصدر المشهد بعلم ومعرفة واقعية تلاءم حجم دوره وحجم المنهج الذي يحمله وعطله

إن المعركة هي معركة وعي بتاريخ أمة لم تخلق لتموت ، وإنما جعلها الله لتكون مشروع هداية العالمين وجعل بيدها أسباب إسعاد البشرية ، أمة ليس لها ثأر مع الآخر ، إنما لها مسئولية ودور ضعفت حين تخلت عنه ولا عودة لها إلا باستعادته

إن الحل ليس في إسقاط الانقلاب وحده ، إنما الحل في إسقاط الجهل والتخلف والتبعية والشعور بالنقص أمام الآخر ، الحل في بناء الإنسان الواهن ونزع الخوف  من قلبه ، وتربيته علي حسن الخلق والعطاء ، الحل في الحرية التي تصنع المعجزات ، فما جاء الإسلام إلا لتحرير إرادة الناس ، وما قامت الفتوحات إلا لتحرير إرادة الناس ليسمعوا لهذا الدين فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، فقط يسمع ويقرر بكامل حريته ما يريد ، الحل مع الناس وللناس وبالناس ، فيا من شغلتم أنفسكم بقضية الأوطان ، اغرسوا الحرية في قلوب الخلق ، حرروا الإنسان العربي المسلم ثم دعوه ، وهو يصنع المعجزات .

وسوم: العدد 660