التدخل الروسي، قبل إعلان الانسحاب وبعده

رغم أنّ أصدقاء النظام السوري وداعميه كثيرون على مستوى العالم، ورغم أنّ أسباب ذلك الدعم تختلف من دولة لأخرى إلا أنّ النتيجة الأكيدة اليوم هي بقاء النظام صامداً رغم خسارته الهائلة من الأموال والأرواح والعتاد ولو كان الصمود بمربعات أمنية ضيقة، واختلاف أسباب الدعم رافقه أيضاً اختلاف طريقة ذلك الدعم الذي تنوع بين الدعم المعنوي إلى الدعم العسكري، وصولاً إلى التدخل المباشر في محاولة لكسر توازن القوى هناك لصالح النظام وإنهاء الثورة وتركيع الشعب..

والتدخل الإيراني ربما كان الأكثر ذكاء منذ بداية الأحداث، فرغم أهمية سورية الاستراتيجية بالنسبة لهم إلا أنّ تدخلهم هناك لم يكن بإعلان رسمي واضح، فكل القوات الإيرانية والميليشيات الطائفية التابعة لهم تقاتل إلى جانب النظام ويسقط منهم القتلى والجرحى يومياً إلا أنّ ذلك كله يجري دون إعلان واضح، ومن يسقط من الإيرانيين يسمونهم بالمستشارين العسكريين حتى ولو سقط منهم العشرات في معركة واحدة كمعركة خان طومان الأخيرة بريف حلب الجنوبي...

وعلى العكس من ذلك فإن التدخل الروسي المباشر في سورية منذ أواخر أيلول الماضي كان بإعلان واضح وبمراسم واستعراضات عسكرية، وكل ذلك تحت حجة محاربة التنظيمات الإرهابية وتنظيمي داعش والنصرة بالتحديد، وهي الحجة ذاتها التي يستخدمها كل أعداء الشعب السوري، وحتى بعض من يزعمون صداقته..

وبمقارنة التدخلين الإيراني والروسي، نجد أن الفاتورة التي يدفعها الروس أكبر، والتبعات السياسية والعسكرية لهذا التدخل أوسع، في حين أنّ الوجود الإيراني على أرض المعركة سيعطيهم حصة أكبر من الكعكة السورية كما يتمنون، وهذا ما جعل روسيا تعيد حساباتها من جديد، وتغير من آلية ذلك التدخل، بما يضمن أكبر النتائج بأقل الخسائر...

في 14 آذار الحالي أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سحب معظم قواته من سورية، في خطوة فاجأت الجميع، ودون سابق إنذار، فارتبكت صفوف المؤيدين للنظام خوفاً من كسر توازن القوى في البلاد، ما قد يؤدي إلى تراجع النظام عسكرياً على الأرض، وقد حار المحللون في تفسير تلك الخطوة، ولم يكن هناك من تبرير واضح فكان الأفضل ترك تفسير ذلك للأيام، فهي وحدها من يحل ذلك اللغز..

وقد كانت المبالغة الروسية في التعاطي مع ذلك القرار مثار استغراب وشك، وتأكيداً بوجود لغز في ذلك الإعلان، فلم يكتف الروس بالإعلان الرسمي لرئيسهم بل أتبعوا ذلك بمجموعة كبيرة من الإجراءات العملية والاستعراضات الإعلامية وحفلات الاستقبال والتكريم للجنود والضباط العائدين من سورية لتثبيت فكرة الانسحاب في أذهان المتابعين ومن يهمهم الأمر سواء في الداخل السوري أو خارجه...

والآن ومع مرور أكثر من شهرين على ذلك الإعلان نجد أن التدخل الروسي ما زال بنفس المستوى القديم، بل ربما ازداد شراسة وخِسّة، فقد كانت للطائرات الروسية الحصة الكبرى في تدمير حلب وما حولها، بل واستهداف المدنيين، والمستشفيات والمدارس ومخيمات اللاجئين في إدلب وسواها، وكل المرافق المدنية التي يمكن لهم أن يصلوا إليها بما في ذلك الدفاع المدني وغيرها من المرافق والمؤسسات، وكل ذلك بعد الانسحاب المزعوم لهم..

وبذلك نجد أنّ الفرق الوحيد بين التدخل الروسي قبل إعلان الانسحاب وبعده هو في التعاطي الإعلامي مع ذلك التدخل، وهو ما خفف من الضغوط على النظام الروسي، فلم يعد الحديث عن القوات الروسية كقوات احتلال، فالوجود الروسي هو في أدنى مستوياته والعمليات هناك ليست أكثر من إسناد لطائرات النظام كما يروجون، رغم أنّ دقة الأهداف المدنية التي أصابتها الصواريخ تشير إلى أنّ الفاعل روسي وليست طائرات النظام التي لا تملك إلا براميل غبية لا يمكنها ضرب أهداف محددة بدقة..

ويبدو أنّ "التقيّة" التي يتقنها الإيرانيون كجزء مهم جداً من عقيدتهم الدينية باتت عقيدة سياسية استفاد منها الروس، فالأفعال تخالف الأقوال، وهو ما أبعد عنهم تبعات وصفهم كقوة احتلال وما يترتب على ذلك الوصف من خسائر سياسية ومادية، فضلاً عن الخسارة على المستوى الأخلاقي وما يسمى بحقوق الإنسان..

وخلاصة القول أنّ التدخل الروسي في سوريا لم يتغير منذ اليوم الأول للثورة السورية، وما إعلانهم عن الانسحاب إلا حركة إعلامية خبيثة لتعزيز المكاسب وتخفيف الخسائر، خاصة بعد أن أيقن الروس بعد قرابة الستة أشهر من التدخل المعلن المباشر أنّ كسر إرادة الثوار ليس بالأمر اليسير، وأنّ القضية السورية لا ينهيها تدخل روسي أو إيراني أو عراقي أو لبناني أو أفغاني، فسورية أكبر منهم جميعاً، وستنتصر رغم تخاذل القريب والبعيد، قريباً كان ذلك اليوم أو بعيداً...

وسوم: العدد 669