كيف نصدّق العلمانيين ؟

العلمانية العربية مصابة بتُخَمة  من الشعارات البراقة ، ولا تصمد أمام اوّل امتحان ميداني حيث يبرز الزيف الذي يغطيها ، فكيف نصدق شعارات الحرية وهم دعاة الانقلابات العسكرية الداعمون لها ؟ ينحازون للجنرالات والانقلابات والدبابات ضدّ الشعوب كما ثبت هنا وهناك وهنالك في العالم العربي وحتى في تركيا  ، ويريدون أن نصدق ادعاءاتهم.

كيف نصدق أنهم مع الحرية وهم يحتكرونها لانحرافاتهم الفكرية والسلوكية ويمنعونها عن مخالفيهم وحتى عن العلمانيين المعتدلين ؟ ألم يناصبوا منصف المرزوقي – وهو علماني قحّ -  العداء لمجرد أنه قَبِل باللعبة الديمقراطية في تونس وجلس إلى جانب الاسلاميين الذين فازوا في الانتخابات الشفافة ؟

كيف نصدق أنهم دعاة حقوق الانسان وهم يؤيدون الطغاة المستبدين ويباركون فتح السجون والمعتقلات رغم ما تحويه من انتهاكات صارخة لتلك الحقوق كما لا يخفى على أحد ؟ فجأة ينقلبون إلى مبرّرين لأفعال الجلادين ، ينتقدون المنظمات الحقوقية الدولية ويلعنون الضحايا .

كيف نصدق أنهم مع حرية الرأي وهم يمنعون الكلمة عن خصومهم السياسيين ويضيّقون عليهم المجال الاعلامي تضييقا شديدا سواء كان هؤلاء العلمانيون في السلطة أو في " المعارضة " ، يرفعون ضمنيا شعارهم العتيد " لا حرية لأعداء الحرية " ؟ فهُم الخصم والقاضي والجلاد ، هم رموز الأحادية والإرهاب الفكري وإنكار الآخر خاصة إذا كان إسلاميا تلتفّ أغلبية الأمة حول برنامجه السياسي والثقافي والحضاري.

كيف نصدق أنهم حماة البلاد واستقلالها المتفانون في خدمتها و وَلاؤهم للبلاد الغربية الاستعمارية وايديولوجيتها ليس سرا على أحد ؟ نموذجهم الحضاري الأسمى ومثلُهم الأعلى في أسلوب الحياة وحتى في الجانب الروحي يدور بين فرنسا وأمريكا ، ينكرون تراثهم ويتنصّلون من انتمائهم للفضاء الاسلامي من أجل الفكرة الغربية و " التراث الانساني " ، ويقصدون به التراث الغربي بأبعاده اليونانية الرومانية من جهة واليهودية النصرانية من جهة أخرى ، هو عندهم المرجع الأوحد بألوانه الليبرالية واليسارية والوجودية والحداثية.

كيف نصدق أنهم أصحاب أسلوب العيش المتحضّر الراقي وسعيُهم كله خروجٌ عن هذا الأسلوب و مناقضٌ له ؟ الخمور وأجساد النساء العارية المباحة والمثلية الجنسية

هي الجوّ المحبّب عندهم ، وانتقاد ذلك يعدّونه جمودا وتحجرا وإيمانا بالتقاليد البالية ودليلا على البدائية ، بل هو الإرهاب الذي أطبق العالم على إدانته ومحاربته ، ويكفي أن تتابع ردودهم على خصومهم لتقف على بضاعتهم التي تتلخص في السباب والشتائم والبذاءة والقذف مهما كان أسلوب هؤلاء الخصوم في الكلام أو الكتابة على درجة عالية من التهذيب والأدب الرفيع ، فأين تحضّرهم المزعوم ؟

كيف نصدق أنهم يؤمنون بالجمال وها هو أدب الحداثة يمجّد القبح وبؤر الفساد والحيوانية ، كلّه إلحاد وكفر وزندقة وثورة على الجمال الانساني ودعوة إلى الاباحية والفوضى والعبث ؟ هذا ما ينضح به " أدب " عباقرتهم من أمثال أدونيس ونزار قباني والبياتي وعلاء حامد وحيدر حيدر والطاهر وطار ومعين بسيسو ونجيب محفوظ .

كيف نصدّق أنهم يرغبون في بروز خطاب إسلامي معتدل وهم لا يرفضون " الاسلام السياسي " بل يرفضون الاسلام ذاته ، وأبغضُ شيء إليهم هو كل ما يمثل الاعتدال من مؤسسات وعلماء ودعاة وكتب ومجلات ؟ الاعتدال الذي يريدون هو في أحسن الأحوال إسلام كنسي لا وجود له إلا في الضمائر الفردية ، مطارَد من الحياة العامة على جميع مستوياتها ، ليس فيه أحكام ولا شرائع ولا محرّمات ولا أبعاد اجتماعية ، ولا بأس عندهم من الإسلام " الفلكلوري " المقترن بالبدع والخرافات والرقص والدعوة إلى وحدة الأديان ، هم يشجعون هذا اللون من الدين ويقرّبون أهله ويرفعون من شأنه على حساب الاسلام الثابت بالقرآن والسنة.

كيف نصدق أنهم ضدّ التطرف الديني وهم أعلام التطرف العلماني ، والنوعان من التطرف يلتقيان في المآلات والغايات ، كلاهما يخرج على الأمة وثوابتها ويجلب لها أنواع الفساد المادي والمعنوي ؟ وقد ثبت بالأدلة تورط غلاة العلمانيين العرب – من أفراد وأنظمة ومؤسسات - في تضليل الشباب والتغرير بهم والدفع بهم كوقود في جرائم بشعة الهدف منها الإساءة إلى الاسلام وتقديم صورة منفرّة عنه وإلهاء الشعوب بدوامة من القلاقل حتى لا يبقى مجال للكلام عن مشروع إسلامي ولا تحرّري ولا تنموي ، وقد رأينا العلمانيّين يُبدعون في تفجير الأوضاع في البلاد الأكثر أمنا مثل الجزائر في 1992 لتصبح مسرحا للخراب والدماء والفساد ، ثم جرّبوا ذلك في أكثر من بلد آخر ما يزال يعاني إلى الآن من الفتن المتنوّعة .

كيف نصدق أنهم محايدون تجاه الدين ويقفون على مسافة واحدة من جميع الأديان ، لا يقحمونها في المعترك السياسي والاجتماعي لكنهم لا يعادونها بل يحترمونها ؟ يقولون هذا في دعايتهم لكنهم بقدر ما يتسامحون مع دين الكنيسة  وبقدر ما يغضون الطرف عن تزايد العامل الديني في الكيان الصهيوني فهم يتحيّزون ضدّ الاسلام ، يتخذون عقائده وأخلاقه وأنظمته سخريا ، يسخرون من أعمال الحج والعمرة ، ويتهكّمون بحجاب المرأة ولحية الرجل ، وكلّ أدبياتهم لمز وغمز للأحكام الشرعية ، فهم رغم " إسلامهم " لا يمتّون إليه بصلة ، ولا يكتفون بذلك بل يتضايقون من تمسك المسلمين بدينهم ، فأين حيادهم ؟ ولا أقول أين إسلامهم ؟

كيف نصدق أنهم ضد الطائفية الدينية والسياسية ودعاة وحدة الصف العربي وقد اصطفّ غلاتُهم بوضوح مع الشيعة ضدّ أهل السنة في البؤر المتوترة ووصفوا هؤلاء بأبشع النعوت بينما كالوا المديح لأولئك وانحازوا إلى طروحاتهم  ؟ لا نصدقهم لأن الذي يمثل الاسلام والمسلمين حقا هم أهل السنة ، فهم الأغلبية الساحقة وهم الأصل وهم الأمة ، أما غيرهم – كالشيعة – فهم ملل ونِحَل وطوائف خرجت على الأصل كلّيا أو جزئيا ،  ثم أهل السنة هم المظلومون في العراق وسورية ولبنان واليمن.

سنصدق العلمانيين يوم نلمس فيهم الصدق في الأقوال والأفعال.

وسوم: العدد 677