فذلكة شرعية

د. عبد السلام البسيوني

• هل تعلم قارئي الكريم أن الله تعالى نفى عن نبيه صلى الله عليه وسلم الفظاظة ووصفه باللين: (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك) (وإنك لعلى خلق عظيم)!؟

• وهل تعلم أن أصحابه رضوان الله عليهم كانوا يعرفون مزحه وسروره من طلاقة وجهه: "كان صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه كأنه قطعة قمر"؟!

• وهل تعلم أن أحد أصحابه وصفه صلى الله عليه وسلم :" ما رأيت أحدا أكثر تبسماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم " وأنه كان يقول: "تبسمك في وجه أخيك صدقة" ؟! وكان يقول صلى الله عليه وسلم: "إنكم لا تسعون الناس بأموالكم ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق"؟

• وهل تعلم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفوه بأنه "كان من أفكه الناس" كما ورد في كنز العمال!

• وهل تعلم أن هناك مواقف كثيرة مثبتة في كتب السنة ضحك فيها النبي صلى الله عليه وسلم "حتى بدت نواجذه" جمعها أخونا الشيخ أكرم عبد الستار في كتاب عن ضحكه صلى الله عليه وسلم؟

• وهل قرأت رد في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إني لأعلم آخر أهل النار خروجاً منها، وآخر أهل الجنة دخولاً، رجل يخرج من النار حبواً، فيقول الله : اذهب فادخل الجنة، فيأتيها، فيُخيل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا رب وجدتُها ملأى، فيقول: اذهب فادخل الجنة، فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها، فيقول: تضحك مني وأنت الملك" ؟ فلقد رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك حتى بدت نواجذه، وكان يُقال: ذلك أدنى أهل الجنة منزلةً!

• وهل تعلم أن في بيته صلى الله عليه وسلم ساد الحب والمرح والضحك، تقول أمنا عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم عندي وكذا سودة بنت زمعة فصنعت حريرة وجئت به، فقلت لسَودَة: كلي ، فقالت: لا أحبه ، فقلت: والله لتأكلن أو لألطخن به وجهك، فقالت: ما أنا بذائقته، فأخذت بيدي من الصحفة شيئاً منه فلطخت به وجهها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس بيني وبينها، فخفض لها صلى الله عليه وسلم ركبتيه - محرشاً بينهما، منتهزاً الفرصة لمساحة من الضحك - لتستقيد منها، فتناولت من الصحفة شيئاً فمسحت به وجهي وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك .. متفق عليه!

• وهل قرأت أن أمنا عائشة رضي الله عنها اشتكت ذات يوم صداعاً، وقالت: وا رأساه، فداعبها صلى الله عليه وسلم قائلاً: بل أنا وارأساه - وكان في مرضه الأخير صلى الله عليه وسلم – ثم قال لها صلى الله عليه وسلم ممازحاً: وما ضرك لو مت قبلي فغسلتك وكفنتك ثم صليت عليك ودفنتك ، فقالت – كما تقول نساؤنا: آه منكم يا رجالة.. لو دا حصل هاتروح تتجوز على طووووول (لكأني بك والله - لو فعلت ذلك - لقد رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك) . قالت فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم!

• وهل تعلم أنه صلى الله عليه وسلم يمازح زوجاته ويسابقهن، ويداعبهن، ويستمع إلى أقاصيصهن، كما في حديث أم زرع البخاري؟

• وهل تعلم أنه صلى الله عليه وسلم (نكّت) مع عجوز سألته الدعاء، فقال لها (وهو الصادق المصدوق) مازحاً: يا أم فلان، أما علمتِ أن الجنة لا يدخلها عجوز؟! فجزعت الحرمة، وارتاعت، فأفهمها أنه ليس في الجنة عجائز، بل كل من فيها من النساء شواب عُرُب حسناوات! وتلا عليها قوله عز من قائل: (إِنَآ أَنشَأُنَاهنَ إِنشَآءَ، فَجَعَلُنَاهنَ أَبُكَاراً، عرباً أَتُرَابَا، لأصحاب اليمين) الشمائل للترمذي والبيهقي، وحسنه الألباني.

• وهل تعلم أنه صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة تقول: إن زوجي يدعوك يا رسول الله ، فقال عليه الصلاة والسلام: أهو الذي بعينه بياض؟ فردت متسرعة: جوزي أنا؟ معقول؟ والله ما بعينه بياض! فقال صلى الله عليه وسلم : بلى إن بعينه بياضاً! فرددت مصممة على رأيها: لا والله، فقال صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: "ما من أحد إلا بعينه بياض " أو كما نقول في عاميتنا: هو فيه حد في الدنيا عينه ما فيهاش بياض؟ ابن أبي الدنيا والعراقي .

• وهل تعلم أن ابني ابنته ركبا ظهره (كأنه حصان) ودخل عليه أحد الصحابة فرأي هذا المشهد فقال سعيدا بما يرى: نعم المركب ركبتما، فقال عليه الصلاة و السلام مدللا إياهما، مباهيا بهما: "ونعم الفارسان هما"!

• وهل تعلم أنه صلى الله عليه وسلم مازح رجلاً جاء يستحمله (يطلب منه أن يهبه جملاً يركبه) فقال له عليه الصلاة السلام: لا أحملك إلا على ولد الناقة! – وكل الإبل أولاد نوق ؛ لولا أن الرجل فهم أنه يريد بولد الناقة الفصيل (الجمل حديث الولادة) - فقال : يا رسول الله؛ وما أصنع بولد الناقة؟! فقال صلى الله عليه وسلم باسماً: وهل تلد الإبل إلا النوق؟ الترمذي وأبو داود.

• وهل تعلم أن رجلاً من أهل البادية كان اسمه زاهراً، وكان يُهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم هدايا من طرف البادية، فيكافئه عليه الصلاة والسلام بأن يجهزه النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج (يعطيه من طرائف المدينة) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن زاهراً باديتنا (ممثل البادية وجالب خيرها) ونحن حاضروه " .

• وكان زاهر هذا رجلاً دميما مثلي، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وهو يبيع متاعه، فاحتضنه من خلفه - وهو لا يبصر النبي صلى الله عليه وسلم – فقال: مَن هذا؟ أرسِلني، ثم التفت فعرف أنه النبي صلى الله عليه وسلم .. فجعل لا يألو ما ألصق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "مَن يشتري العبد؟" . فقال: يا رسول الله إذاً والله تجدني كاسداً. قال صلى الله عليه وسلم: "لكن عند الله لستَ بكاسدٍ" أو " أنت عند الله غالٍ ". أحمد والبيهقي .

هل تعلم أن أصحاب النبي صلى الله عليه آل وسلم وتابعيه وسلف الأمة وعلماءها الكبار قوم يضحكون ويمزحون اقتداءً بنبيهم، واهتداءً بهديه وليسوا عبوسين كما يصورهم الإعلام المضلل؟

• هل قرأت ما نقل عن عمر بن الخطاب من أنه مازح جارية له ، فقال لها : خلقني خالق الكرام، وخلقك خالق اللئام! فلما أحس انزعاجها بين لها قصده: وهل خالق الكرام واللئام إلا الله عز وجل؟

• ومن روايات أسلافنا رضي الله عنهم ، وكلها مجموعة في نزهة الفضلاء: كان الحافظ الفقيه صالح بن محمد رجلاً مرحاً خفيف الدم حاضر البديهة ، وكان يلقب بصالح جزرة ، فقال في سبب هذه التسمية : كنت أساير الجملَ الشاعرَ بمصر ، فاستقبلنا جمل عليه جزر، فقال : ما هذا يا أبا علي ؟ قلت: أنا عليك .

• وقال ابن أبي حاتم : سمعت أبي يقول لأبي زرعة : حفظ الله أخانا صالح بن محمد (الملقب جزرة) لا يزال يضحكنا شاهداً وغائباً، كتب إليّ يذكر أنه مات محمد بن يحيى الذهليّ، وجلس للتحديث شيخ يعرف بمحمد بن يزيد محمش، فحدّث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:( يا أبا عمير، ما فعل البعير)، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:( لا تصحب الملائكة رفقة فيها خرس)، فأحسن الله عزاءكم في الماضي، وأعظم أجركم في الباقي.(الصواب النغير بدل البعير، والجرس بدل الخرس)!

• وقال بكر بن محمد الصيرفي: سمعت صالحاً (الملقب جزرة) يقول: إن عبد الله بن عمر بن أبان يمتحن أصحاب الحديث، وكان غالياً في التشيع، فقال لي: من حفر بئر زمزم ؟ قلت: معاوية، قال: فمن نقل ترابها؟ قلت: عمرو بن العاص، فصاح فيّ وقام.

• وقال أيضاً صالح بن محمد: الأحول في البيت مبارك، يرى الشيء شيئين.

• وعن بكر الصيرفي، سمعت أبا علي صالح بن محمد (الملقب جزرة) قال: دخلت مصر فإذا حلقة ضخمة، فقلت: من هذا؟ قالوا: صاحب نحو. فقربت منه، فسمعته يقول: ما كان بصاد جاز بالسين. فدخلت بين الناس، وقلت: صلام عليكم يا أبا سالح، سليتم بعد؟ فقال لي: يا رقيع! أي كلام هذا؟ قلت: هذا من قولك الآن. قال: أظنك من عياري بغداد؟!

• ومن الطرائف ما روي عن أبي الطيب الطبري أنه - مع علمه الواسع – كان ضحوك السن، محباً لأهل الفضل. وذات يوم وضع حذاءه عند الإسكافي ليصلحه، فتأخر عليه الحذاء.. وكان أبو الطيب يمر عليه، فكلما رآه الحذّاء، وضع الحذاء في الماء ليوهمه أنه يريد أن يصلحه فقال الطبري: أعطيناك الحذاء لتصلحه لا لتعلمه السباحة‏.

• وسأل رجل الإمام أبا حنيفة: إذا نزعت ثيابي ودخلت النهر لأغتسل، فإلى أي جهة أتوجه؟ إلى القبلة أم غيرها ؟ فقال له أبو حنيفة: الأفضل أن تتوجه وجهك إلى ثيابك لئلا تسرق‏!

• وروى أحد العلماء: تشفعنا بامرأة عبد الرزاق بن همام الصنعاني، عالم اليمن، الحافظ الثقة – عليه، فدخلنا، فقلنا: هاتوا، تشفعتم إلي بمن ينقلب معي على فراشي. ثم قال:  ليس الشفيع الذي يأتيك متزراً مثل الشفيع الذي يأتيك عرياناً.

• وقال بعضهم: سمعت أبا بكر النيسابوري (الحافظ شيخ الإسلام) يقول: تعرف من أقام أربعين سنة لم ينم الليل، ويتقوت كل يوم بخمس حبات، ويصلي صلاة الغداة على طهارة عشاء الآخرة؟ ثم قال: أنا هو، وهذا كله قبل أن أعرف أم عبدالرحمن، إيش أقول لمن زوجني؟ ثم قال: ما أراد إلا الخير.

• وكانت عمامة الإمام الشوكاني تسقط فيرفعها، وكان بعض علماء الزيدية يقولون ببطلان صلاته، فقال: أيهما أثقل: العمامة أم أمامه، يقصد بنت الرسول صلى الله عليه وسلم التي كان يحملها.

• وقال طالب علم: توجهت إلى أبي إسحاق [الشـيرازي الشافعي صاحـب كتاب المهذب] ، فلما حضرت عنده رحب بي ، وقال : من أين أنت ؟ فقلت : من الموصل ، قال : مرحباً أنت بلدييّ ، قلت : يا سيدنا أنت من فيروز آباد ، قال : أما جمعتنا سفينة نوح .

• قال أحمد بن محمد ابن الحريري - المتوفى سنة 757هـ - لغلامه يوماً وقد عثرت به بغلة : لا تعلق عليها ثلاثة أيام عقوبة لها ، فقال : إذا لم نعلق عليا تحمّر- أي تعاند - ، فقال : علق عليها ولا تقل لها أني أذنت .

• ودخل إلى المدرسة فرأى الشيخ نجم الدين القحفازي خارجاً من الطهارة فقال : يا مولانا آنستم محلكم ، فقال له الشيخ نجم الدين : قبحك الله .

• وكان القاضي حسام الدين البغدادي الحنفي يكثر من السخف ، إذا تحاكم إليه رجل وامرأة نصر المرأة ، وتكلم بما لا يليق ، حتى قال لامرأة : اكشفي عن وجهك ، فكشفت وجهها ، فقال لأبيها : مثل هذه تزوجها بهذا المهر ، والله إن مبيتها ليلة يساوي أكثر من ذلك .

• وأرجو أن يكون في هذا المقدار كفاية.. للتمهيد لموضوعي.

وسوم: العدد 681