زلزال متوقع وخطر داهم على العرب!

محمد عبد الحكم دياب

‪أغلبنا يتذكر الفرح الذي عم الأوساط الغربية وكان له تأثيره البالغ على الرأي العام المحلي والإقليمي والعالمي، وكان ذلك بسبب سقوط حائط برلين وتوحيد ألمانيا.. وعند هذا الحد كان الأمر طبيعيا، وجاءت تداعيات  انهيار الاتحاد السوفييتي السابق واختفاء كتلة أوروبا الشرقية وتفكك حلف وارسو؛ جاءت كلها لتصب في قناة الانتصار الساحق للرأسمالية، فزادتها توحشا وأفلتت عقالها.. وانقلبت موازين عالم بدا مستسلما للواقع الجديد، وقابلا بتنصيب الولايات المتحدة الأمريكية سيدا لا ينازع للعالم.. وجاءت تصرفات السيد منفلتة وسياساته غير منضبطة، وأضحى نموذجا للبلطجة في مجالات السياسة والثقافة والإعلام والاقتصاد والحرب.. واتسعت تدخلاته المباشرة، وانتشرت قواعده العسكرية؛ البرية والبحرية والجوية والصاروخية، وجابت أساطيله وحاملات طائراته البحار والمحيطات على مدار الساعة.. 

وضل العالم الطريق إلى التحرر والسلام والديمقراطية والتقدم.. وتخلت كثير من قوى المعارضة عن نشاطها السلمي، وعسكرت كوادرها ومنتسبيها اعتمادا على ما تقدمه لها الولايات المتحدة وحلفاؤها من مال وسلاح.. وبتدفق المال والسلاح جرت أنهار دم بدأت من وسط أوروبا وتخوم الاتحاد السوفييتي السابق، ووصلت القارة العربية والعالم الإسلامي، ولم يسلم أحد من الزحف الأمريكي الدموي. ولا من الخضوع لنمط حياة فرض عليه وعلى غيره من الأمم والشعوب، وبذلك صار القرن الواحد والعشرين قرنا أمريكيا، وقبلت به قوى عالمية كثيرة. ومنها ما اعتبر الخضوع له من سنن العصر، وشرط من شروط الحياة فيه، وقانون من قوانين النظام العالمي الجديد.. 

وليس الأمر بهذه البساطة، فالنظم الجديدة لا تقام على أنقاض نظم تحتضر وتنتظر رصاصة الرحمة. والأنقاض لا تصلح لبناء جديد وقوي.. وصلاحيتها فقط للمتاريس والسواتر.. أما الأشلاء لا تحيي عظاما وهي رميم، وحتى لو بقيت منها خلايا تُستنسخ على طريقة «النعجة دوللي»، فالكائن المستنسخ يولد شائخا؛ قصير العمر.. فعمر خلاياه من عمر الخلايا القديمة التي ماتت، وإن بقي فيها رمق ينتظر مصيره المحتوم.

وما تبقى من النظام القديم مآله الزوال.. فضلا عن طبيعته غير التاريخية، فقد نشأ بالعنف والنهب والتطهير العرقي والإفراط في استخدام القوة؛ ولم يحمل رسالة إنسانية وحضارية؛ تخلصه من عقدة «اللاتاريخ».. وبدلا من العلاج بالاندماج في تيار الحياة المتدفق صاغ لنفسه عالما على هيئته وصورته، وصارت المهمة هي أمركة العالم.. وأضحت الأمركة الأساس النظري للعولمة ولما بعد العولمة، فتأمركت الثقافات، وعملت واشنطن على إفقادها تعددها وخصوبتها وتنوعها.. ونفس الشيء يحدث بالنسبة لأساليب الحياة وطرق التفكير وعادات المشرب والمأكل والملبس، وكل ذلك من أجل الاستمرار في أَسْر اللاتاريخ، فيصبح الكل سواء!! 

ومشروع الشرق الأوسط الكبير أو الجديد إفراز لهذه العقدة.. وتسليم بالصهيونية كأيديولوجية تمزج الأساطير التوراتية بفتاوى الأحبار وتراث ملوك بني إسرائيل.. وتمنح القدسية للبُنى اللاتاريخية أينما كانت، وعليه تطابقت البنى الصهيونية مع البنى الأمريكية، وصارت شيئا واحدا رغم بعد المسافة.. 

وحين وقع الاختيار على القارة العربية؛ الأفرو آسيوية؛ الواقعة على تخوم أوروبا؛ كان ذلك لتصفيتها والقضاء على ما تملك من مخزون تاريخي وتراث ثقافي وحضاري؛ وعوملت على قواعد المكان والجغرافيا؛ دون الاعتماد على معايير الأنثربولوجيا والتراكم التاريخي والاستقرار الاجتماعي والروابط السياسية، وحملت الصفة المكانية والجغرافية باسم الشرق الأوسط الكبير أو الجديد، واتُّخِذ مجالا حيويا للقرن الأمريكي الحالي!!.. 

وذكرنا من سنوات أن «الدولة الصهيونية» هي «أمريكا الصغرى».. وأمريكا يجب وصفها بـ «إسرائيل الكبرى»، التي أقامت دولتها على أراضي وأنقاض وأشلاء سكان العالم الجديد الأصليين؛ في الأمريكيتين.. وهو نفس النهج الذي اتبع في تأسيس وإعلان «الدولة الصهيونية» على أرض عربية مغتصبة.. ولما تمددت وتضخمت انتقلت «أمريكا الصغرى» وطورت طموحها من دولة تقع بين الفرات والنيل إلى إمبراطورية كبرى، وعاصمة أكبر هي تل أبيب؛ تتنافس مع واشنطن، وتتجاوز طموحها السابق (من الفرات إلى النيل) إلى إمبراطورية ممتدة من المحيط إلى الخليج.. وسيتولى الأحبار صياغة الجانب اللاهوتي، بما لا يمنع من تطوير وعد الرب ليكون «أرض إسرائيل من المحيط إلى الخليج!!».

تغيرت تركيبة القارة العربية.. وبعد أن كانت كتلة بشرية وتاريخية وحضارية كبرى؛ اقتصرت على المشاريع الشرق أوسطية فيما بعد الحرب العالمية الثانية.. حين كانت تلك المشاريع من أجل توفير أعلى مستويات الأمان والاستقرار للدولة الصهيونية الوليدة.. وتهيئة أفضل الظروف لنموها المستقبلي.. ومنيت مشروعات خمسينات وستينات القرن الماضي بالهزائم، لأنها كانت هدفا من أهداف معارك التحرير الكبرى في مرحلة المد القومي، وكانت ذروتها معركة السويس في 1956.

ومخططات التقسيم أعلنت عن نفسها من جديد في العقدين الأخيرين من القرن العشرين.. ونشر مشروع برنارد لويس عام 1983، مع ما قيل عن موقف الكونغرس الأمريكي، الذي وافق على المشروع بالاجماع في جلسة سرية، ولمن لا يعرف فبرنارد لويس صهيوني أمريكى من أصل بريطانى؛ واستهدف تغيير تقسيمات اتفاقية سايكس بيكو المبرمة عام 1916؛ بتفاهم سري فرنسي بريطاني، ومصادقة قيصرية روسية؛ بمقتضاه قُسمت منطقة الهلال الخصيب بين فرنسا وبريطانيا، وتحددت مناطق نفوذهما في غرب آسيا مع التداعي الذي صاحب ضعف الامبراطورية العثمانية وانتهاء بسقوطها.

ويعتمد مشروع برنارد لويس على تفكيك الدول العربية والإسلامية وإعادة تركيبها على أسس دينية وطائفية ومذهبية وعرقية وعشائرية ومناطقية؛ وفي سبيل أزهق أرواح ملايين الأبرياء.. وشرد ملايين أخرى في كانتونات ودويلات وجماعات وقبائل وطوائف متناحرة، وهجر آخرون في معسكرات ومخيمات متناثرة؛ في فلسطين وخارجها. وهذا بجانب خرائط تقسيم أخرى كانت قد أعدت من زمن، وظهرت تباعا من نهاية سبعينيات القرن الماضي؛ وقطعت شوطا كبيرا، إلى أن أشرفت على مراحلها الأخيرة.

وجاء في مقال أخير لأستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة د. أحمد يوسف أحمد في صحيفة «الاتحاد الإماراتية «؛ جاء فيه وصف للحال الراهن؛ «أن المناخ الدولي في أعقاب تفكك الاتحاد السوفييتي بدا أكثر تقبلاً بل وتشجيعاً لفكرة التفكيك، فقد كان انفراط عقد جمهورياته الفيدرالية الخمس عشرة حدثاً هائلاً سرعان ما امتدت تداعياته إلى تشيكوسلوفاكيا التي انقسمت إلى دولتين، ويوغوسلافيا التي انقسمت إلى خمس دول. «وبالنسبة للوطن العربي كانت البذور موجودة والتشجيع واضحاً من قوى خارجية يهمها أن تتواضع فسيفساء سايكس ـ بيكو أمام فسيفساء القرن الحادي والعشرين. فالحرب الأهلية بين الشمال والجنوب في السودان مشتعلة تقريباً منذ استقلاله، ومحاولات التمرد الكردية على السلطة المركزية في العراق قائمة منذ نهاية خمسينيات القرن الماضي، وتفكك الصومال أمر واقع منذ تسعينيات القرن نفسه. غير أن النقلة النوعية في عملية التجزئة الجديدة جاءت مع الغزو الأمريكي للعراق إذ عزف هذا الغزو على الوتر النشاز للطائفية».

وأشار إلى أن أخطر ما في الموضوع أننا لم نعد بانتظار موجة تجزئة جديدة إنما زلزال تليه توابع لا يُعرف الحد الذي ستتوقف عنده‫.. وتوقع مزيدا من التجزئة. وضرب أمثلة عديدة على ذلك، وانتهى إلى أن المستقبل يبدو مخيفاً إذا تحقق السيناريو الأسوأ، وهو ما يحتاج منا تفكيراً وحسن تدبير وخاصة أن هذا السيناريو لا يخص دولاً بعينها وإنما خطره داهم على الجميع؛ حسب رأيه. ومن جانبنا نسأل؛ من هو المؤهل لتحمل مسؤولية المشروع البديل في مواجهة مشروع صهيو أمريكي معروف بـ«الشرق الأوسط الكبير» أو الجديد؟ ويستهدف الأخضر واليابس، على من يراهن المرء في هذه الظروف الاستثنائية والصعبة؟‫!

وسوم: العدد 683