الرعونة التي تحكم مصر الآن!

وكما مات وزيرالخارجية الأمريكي الأسبق «وارن كريستوفر»، دون أن يفهم مغزى السؤال الذي وجهه له محرر في إحدى الصحف المصرية «مستر كريستوفر يو سبيك إنجليش؟»، سيموت وزير الخارجية الحالي «جون كيري» دون أن يعرف المغزى من وراء سؤال أحد حراس عبد الفتاح السيسي، إن كان معه هاتف بكاميرا؟!

«كيري» أكثر حظاً من «كريستوفر»، ففي زمن السماوات المفتوحة، أمكنه أن يشاهد قناة «صدى البلد» ليستمع إلى «أحمد موسى»، وهو يرجع السؤال إلى أن الأمريكان أساتذة في التسجيل والتنصت، كما أمكنه أن يشاهد قناة «العاصمة» ومقدم فيها هو «محمد الغيطي» يرجع السؤال إلى الخوف المصري من الصور الفاضحة. وسواء صدق «كيري» هذه التأويلات أو لم يصدقها، فالمؤكد أنه محظوظ بالمقارنة بالراحل «وارن كريستوفر»، الذي لم يجد أحد يوضح له الموقف، فلم يكن «أحمد موسى» و»محمد الغيطي» قد اشتغلوا بعد مقدمي برامج بالفضائيات!

«كريستوفر» كان في زيارة للقاهرة في منتصف التسعينيات، وفي ولاية الرئيس كلينتون، وهو يستعد لمغادرة مصر، عقد في مطار القاهرة مؤتمراً صحافياً وانتهى منه، ثم صعد للحافلة التي ستنقله للطائرة التي ستقله إلى واشنطن، وكان أحد المحررين بإحدى الصحف المصرية، قد نجح في أن يصعد الحافلة مع رجال الأمن والمودعين المصريين والأمريكيين من رجال السفارة الأمريكية في القاهرة، واندفع ليصل إلى حيث يجلس الوزير الأمريكي، وحاولوا منعه دون جدوى، سألوه ماذا يريد؟ فقال إنه صحافي ويريد أن يطرح سؤالاً على الوزير. وقالوا له: لقد عقد مؤتمراً صحافيا وكنت حاضراً فلماذا لم توجه له سؤالك؟.. فقال إنه سؤال لا يحتمل طرحه في مؤتمر عام!

ولأن الوزير بدأ يشعر بهرج ومرج، فقد تم ترك هذا المحرر لينتهي من طرح سؤاله، منعاً للصخب! تركوه فاندفع إلى مؤخرة «الباص»، حيث يجلس وزير الخارجية الأمريكي، فلما صار أمامه، وجه له سؤاله الخاص: «مستر كريستوفر يو سبيك إنجيلش؟»، ونظر مستر كريستوفر إلى هذا الكائن الفضائي، قبل أن يقول بصوت خفيض مندهش: «يس»، عندئذ قال له صاحبنا: «آي سبيك أربيك». وتعطلت بعد هذه الإفادة لغة الكلام، وإن عادت من جديد علامات الدهشة ترتسم على وجه مستر كريستوفر، عندئذ قال أحد المرافقين لصاحبنا: «والآن وبعد أن طرحت عليه سؤالك الخاص اذهب بعيداً»، فذهب طائعاً

صورة بديلة

من المؤكد أن «كريستوفر» ظل إلى أن داهمه مفرق الجماعات، وهازم اللذات، مشغولاً بما جرى ولا يعرف الهدف من هذا السؤال: «مستر كريستوفر يو سبيك إنجيلش»، فما هو ظن السائل به: هل وصل إلى علمه أن وزير الخارجية الأمريكي لا يتحدث الانجليزية؟، ومن الذي أخبره بذلك؟ وما هو المبرر لأن يخبره الفتى أنه يتحدث العربية؟ فهل سأله هو مثلاً عن لغته المفضلة، لكي يجيبه بأنه يتحدث العربية؟!

لو كان «كريستوفر» في زمن السماوات المفتوحة، فربما وجد أحمد موسى أو شبيهاً له ينبئه بما لم يحط به علماً، فمن الواضح أن الفتى لم يزاحم من أجل أن يعرف إن كان الوزير الأمريكي يتحدث اللغة الانجليزية ولم تستورده واشنطن من الغابات الاستوائية، فالموضوع ببساطة، أن الشاب كان ينتظر بعد أن يعرف مستر «كريستوفر» أنه يتكلم العربية، سيرفق بحاله، ويستدعي مترجمه الخاص، ويختص صاحبنا ببعض المعلومات التي يعلنها في المؤتمر الصحافي، ليمكنه بعد ذلك من أن يتباهى بين أقرانه بأن الوزير الأمريكي اختصه دونهم بهذه المعاملة الفريدة، وهو المتهم بأن جهة أمنية هي التي دفعت به للعمل في الصحافة، وعملت على مساندته، وهذا ليس موضوعنا، فما يعنينا التأكيد عليه هنا أن المصريين أصحاب سوابق في إرباك وزراء الخارجية الأمريكيين!

وقطعا فإن «جون كيري»، لم يستوعب سؤال حارس السيسي إن كان يحمل «هاتفاً بكاميرا»؟، وهو السؤال الذي أضحك الثكالى بعد تسريب الفيديو، ولا نعرف إن كان السؤال قد وجه لغير «كيري» أم لا؟ كما لم نفهم ما هي الغاية من هذا السؤال، قبل التفسير الذي قيل عبر قناتي «العاصمة» و»صدى البلد»، وهو تفسير يبرر أن من قام بتسريب هذا الفيديو، هي جهات مصرية، لستر العورات التي تبدت للناظرين من جراء الموقف المزري لعبد الفتاح السيسي!

كان أوباما يقف في قمة العشرين في الصين ومعه رئيس وزراء الهند، وأحد الزعماء المشاركين في القمة، بينما وقف السيسي خلفهما في انتظار أن يتعرف عليه الرئيس الأمريكي أوباما ويصافحه، في مشهد ذليل لا يليق فقط بدولة بحجم مصر، ولكن لا يليق بأصغر مسؤول في أصغر دولة على الكرة الأرضية، إن شئت فقل إنه موقف أقرب ما يكون من وقفة متسول في انتهاء أن ينتهي القوم من حوارهم فيعلن بأن «حسنة قليلة تمنع بلاوي كثيرة»! كان أوباما قد أخذ الزعيمين بالأحضان، وكان على السيسي أن يفعل ما فعله رئيس الوزراء الكندي، الذي جاء لأوباما من أمامه وصافحه، وعندما وجده مشغولا بحديثه بعد المصافحة انصرف، في حين أن السيسي وقف في مكانه في انتظار اللحظة التاريخية التي ينتبه لوجوده الرئيس الأمريكي!

على كل لسان

نظر رئيس وزراء الهند لهذا الواقف خلفه باستياء، يوشك أن يطلب منه الانصراف، لأنه ربما وجد أن هذه الوقفة لا تليق بالكبار، وهي وقفة «مخبر أمني» ينتظر أن يعرف ماذا يقولون!

هذه النظرة المشمئزة لا تتسق مع كون السيسي كان ضيفاً على الهند قبل أيام وقد جاء من هناك إلى الصين، كما أنها لا تتسق مع إعلان السيسي من الهند أنه والسلطات الهندية سيعملان على تصحيح صورة الدين. ولم يحدد هذا الدين، فمصر دينها الرسمي الإسلام، والهند أغلبيتها من الهندوس!

لمس رئيس وزراء الهند ذراع أوباما وكأنه يقول له هيا بنا من هنا بعيداً عن هذا المتطفل، وهم الرئيس الأمريكي بالانصراف قبل أن ينشغل بالحديث، ووضع المسؤول الهندي يده على خده، وفي إشارة معينة جاءت مساعدته لتسحب الثلاثي هذا بعيداً عن المتطفل، وبحركة من يدها بدت كما لو كانت تبعده، لكنه استغل الفراغ الذي بينها وبين رئيس وزراء الهند، فظهر لأوباما في الكادر فصافحه بشكل عادي وكان قبل قليل قد أخذ الآخرين بالأحضان!

مشهد بائس تحول إلى حديث لوسائل الإعلام حديثها وقديمها، ويكفي أن نعلم أن التقرير الذي أعده «وليد العطار» وقدمه بصوته عبر قناة «الجزيرة» عن هذه الحادثة قد لاقى رواجاً، عند عرضه على «اليوتيوب»، حتى تجاوز أعداد من شاهدوا النسخة الأصلية منه الستة ملايين مشاهد، وهناك نسخ أخرى جرى بثها لهذا التقرير لاقت رواجاً كاشفاً عن أن الفضيحة صارت على كل لسان!

بعد يومين، كان فيديو الحارس وهو يسأل كيري: «هل معك هاتف بكاميرا»؟، وفي ظني أنه جرى بثه للتغطية على هذه الفضيحة، قبل أن يتحول هو بدوره إلى فضيحة جديدة!

ظهر أن الخطة تستهدف التأكيد على أن مصر قادرة على أن تفتش وزير الخارجية الأمريكية رأساً، فيسأل مجرد حارس للسيسي الرجل القوي هذا السؤال، لكن السيوشال ميديا قطعت عليهم الطريق، ووجدت السلطات المصرية نفسها أمام فضيحة جديدة، فقد كان أداء الحارس ينم عن غباء انتقل إليه بالعدوى، فكيف لمن يجري اختيارهم «على الفرازة» أو هكذا ينبغي، أن يسأل أحدهم هذا السؤال غير المفهوم، ومعاملة الزعماء تكون مهمة المراسم، فهل لا يزال وجود للمراسم في القصر الرئاسي، في ظل هذه الرعونة التي تحكم مصر الآن؟!

«هل معك هاتف بكاميرا؟»، فهل يخشى حارس السيسي من أن يضيع «كيري» وقت السيسي «الثمين» في التقاط صورة «سيلفي» له مع القائد المصري الهمام؟!

أسئلة كثيرة وساخرة طرحها هذا المشهد الفكاهي، قبل أن يكشف «الغيطي» و»موسى» سبب ذلك، فالأول قال: خوفاً من الصور الفاضحة، والثاني قال: «الأمريكان أساتذة في التسجيل والتنصت».

تحت اللحاف

لقد أوضح «الغيطي» أن المخابرات الألمانية حذرت «ميركل» من تغيير ملابسها في غرفتها في الفندق، وحذرت المخابرات البريطانية رئيسة وزراء بريطانيا من الأمر نفسه، ونصحتها بأن تغير «هدومها» أي ملابس تحت اللحاف، والتحذير نفسه صدر من المخابرات الروسية للرئيس بوتين ولك أن تتخيل رئيسة الحكومة البريطانية وهي تناضل تحت «اللحاف» في مهمة تغيير ملابسها!

في حين أوضح «موسى» أن الأمريكان يتجسسون على «كل حاجة»، واعتبر أن عملية تفتيش الوزير الأمريكي عادية، فمصر أحسن بلد، ومن حقها أن تسأل وتفتش، ولو الأمريكان أنفسهم!

لا أعرف حقيقة ما يرمي إليه الكلام عن الصور الفاضحة والتنصت، فمبلغ علمي أن «كيري» لم يكن سيلتقي السيسي في «غرفة نومه»، كما أن السيسي لم يكن في لقاء خاص ليروي مغامراته العاطفية التي يخشى أن يسجلها الوزير الأمريكي!

اللقاء كان مع عدد من الحاضرين في القمة، ويبدو أن الهدف منه هو التغطية على الشكل المزري مع أوباماً، فكان ظهور السيسي في المواجهة والقوم من أمامه هو لتقديم صورة بديلة، ولم يكن بينهم أي من زعماء الدول، ولم نتعرف سوى على «كيري»، لكنه الإعلام المصري الذي سعى ليداري سوءات قائده، إلى درجة أن التلفزيون المصري نشر صورة لزعماء قمة العشرين وبخبر على الشاشة يقول «الرئيس السيسي يتقدم زعماء العالم» بينما رئيسهم لم يُر بالعين المجردة، ويقال إن رأسه فقط ظهرت في الخلف ولم أتمكن من رؤيتها، فالعتب على النظر!

لا بأس فيبدو أن سؤال السائل لكيري إن كان يحمل هاتفاً بكاميرا دليل دامغ على أن مصر دخلت حروب الجيل الرابع بقوة، وهي التي قال عنها المتحدث العسكري أنها تعتمد على كيف تجعل عدوك يستيقظ ميتاً، وقد استيقظ عدوهم ميتاً. وكان هذا العدو هو المنطق، فلم يكن شيء منطقي فيما جرى، وإن كان «كيري» محظوظ بالمقارنة بكريستوفر، الذي مات دون أن يعرف المغزى من سؤال السائل: مستر كريستوفر يو سبيك إنجيلش»؟!

بلا أدنى شك فإن «جون كيري» محظوظ بالستلايت وزمن السماوات المفتوحة!

وسوم: العدد 685