جماعة الاخوان المسلمون بين الحل والتجذر

هيئة التأصيل الشرعي

مدخل:

بين الحين والآخر  تتكرر دعوات لحل جماعة الإخوان المسلمين ، وتصدر نداءات على ألسنة مختلفة وأصحاب توجهات متنوعة، منهم القريب من الجماعة ومنهم البعيد، منهم العدو، ومنهم الصديق المشفق، بل ربما صدرت أحياناً من بعض أبناء الجماعة المنتسبين إليها.

وبغض النظر عن الدوافع لهؤلاء جميعاً؛ لا بد من طرح المسألة على بساط البحث العلمي المنصف للوصول الى نتيجة علمية صحيحة تقوم على الإنصاف والحق، وترك الجدال والمراء والبعد عن الأغراض الخاصة.

 العمل الجماعي؛ ضرورة وفريضة:

من المسلَّم به أن القوة في الاجتماع والكثرة، حتى الباطل لو تجمع وتكاثر قد يغلب الحق ولو إلى حين، فما بال هؤلاء يدعون إلى تفريق المجمع، وتقسيم الموحد؟!!...علماً بأن ديننا في أسسه يدعو الى الوحدة وعدم التفرق، ومعظم خطاباته للمؤمنين بصيغة الجمع لا بصيغة الأفراد، وهذا من المسلمات البدهيات التي لا تحتاج إلى كثير بيان.

علماً بأن تكوين الجماعة إبان نشأتها كان فريضة الوقت وضرورة المرحلة الملحة، نظراً لتمزق الأمة وزوال الخلافة، وسقوط معظم بقاع العالم الإسلامي تحت نير الاستعمار؛ الذي أدى بالأمة الى ضعفها وتخلفها عن ركب الحضارة علمياً واقتصادياً. ومن المعروف أنه لا يفل الحديد إلا الحديد، ولا يقف في وجه حشود الباطل إلا أن يحشد أهل الحق قواهم؛ فكانت نشأة جماعة الإخوان المسلمين، وقد أثبتت وجوداً وقدرة في خوض الصراع مع الاستعمار والعدو المحتل، كما أنها صدت الهجمات الإلحادية والغزو الفكري الغريب عن هوية الأمة، واستطاعت إيقافه أوتحجيمه، وكان لها أثرها العظيم في تربية أجيال من الأمة، واستعاد الإسلام بريقه ومكانته، ولا أظن أحداً يماري فيما ذكرت، والأمثلة والشواهد على ذلك كثيرة.

لماذا حلّ الجماعة:

وإذ كان كل ماسبق من المسلمات والبديهيات....فلماذا تطرح، وبإلحاح، ومن جهات شتى مسألة حل الجماعة؟ ألِخلل في فكرها ومنهاجها؟... أم لفساد أوسوء في رجالها ورموزها؟

ماذا عن فكر الجماعة ومنهاجها:

أما فكرها ومنهاجها، فهي:

v        دعوةٌ وسطيةٌ، تدعو إلى  الإسلام الحق.

v      شموليةٌ شمول الاسلام في كل مناحي الحياة، تسعى إلى تهذيب الروح لدى الفرد، وتكوين الأسرة الصالحة، والمجتمع الفاضل.

v      كما تدعو إلى السلم الدولي والعالمي وفق منطق الحق والعدل، لتسهم في الحركة العلمية والثقافية للأمة، فتلزم أتباعها بمنهج علمي شرعي، إلى جانب دراسته وتخصصه.

v      جماعة عملية منتجة تسهم في تحسين اقتصاد الدولة والمجتمع.

 كل هذا يجعل المنصف أن يقول فيها: جمعت الخيرمن كل جوانبه، فلم تهمل الروح على حساب العلم، ولا العلم الشرعي على حساب التخصص، ولم تهمل الفرد على حساب الجماعة، ولا التربية على حساب السياسة، ولا السياسة على حساب المبادئ، وذلك دون إفراط أو تفريط أو غلو أو عنف، ولعل هذا ماجعل الأعداء بكل أشكالهم أن يقفوا منها موقفاً حاداً ومجانباً للحق والصواب، ولولا صلابة قواعدها ومتانة أسسها لما بقي لها وجود أو أثر بعد هذه الهجمات الشرسة عليها على مر السنين.

وأظن أن لا حاجة إلى الإطالة في قضية الفكر، ففكر الجماعة منشور، وأدبياتها تملأ المكتبات، علماً بأنها لم ولن تتوقف عن عطائها الفكري على مر الأيام والسنين حسب النوازل والأحداث والضرورات والأولويات، فهي تجدد في فكرها، وتصد وترد على كل من أراد الإسلام بسوء في فكره ومبادئه.

وماذا عن رجالات الجماعة ورموزها؟

أما رجالاتها ورموزها، فنحن لا ندعي العصمة لأحد، يصيب رجالاتها ويخطئون، ويتخلى البعض في هذا الطريق المليئة بالأشواك والعوائق، ولكن العبرة بالكثرة والغالبية.

ومن زمن بعيد أي في الخمسينات، أرسل عبد الناصر إلى شيخ الأزهر في حينه الشيخ محمد خضر حسين يستفتيه في وصف جماعة الإخوان المسلمين وهل هي من الخوارج؟ فما كان من الشيخ إلا أن صعد منبر الأزهر وخطب في الناس قائلاً: لقد عشت خادماً لديني لا مستخدماً له، ويكفي العبد الفقير كسرة خبز وشربة ماء، وإني أشهد الله أن الإخوان المسلمين دعوة ربانية عرفتهم ميادين البذل والعطاء والجهاد والتضحية، لم يخونوا ولم يغدروا بما علمت عنهم، وها أنا ذا أعلن استقالتي من كل منصب يحول بيني وبين إرضاء ربي.

فالإخوان منذ نشأتهم لم يغيروا ولم يبدلوا، ماضون على العهد ثابتون على الحق مهما تكالب عليهم الأعداء، وتآمر عليهم طلاب الدنيا بزخارفها ومتاعها، فقد شهد لهم الكثير الكثير من المنصفين؛ ممن لا يمكن إحصاؤهم في ورقة موجزة.

فلماذا الإصرار على حلّ الجماعة؟

واذا لم يكن في مناهج الجماعة ولا في رجالتها ما يدعو إلى حل الجماعة،  فما هو المسوغ لهذه الدعوات، وتلكم الصيحات؟!!...

 

هل البديل  تكوين حزب جديد

ثم من يدعو الى حل الجماعة يدعو غالباً إلى تكوين جديد، وحزب ذي صبغة سياسية، وخاصة أننا في زمن الأحزاب والتكتلات, فما الذي يريد أن يجدده ويغيره ,أفي الشكل؟ أم في المضمون؟ أيسعى إلى تغير المبادئ والقيم والأهداف والمناهج التى قام عليها الإخوان؟ ولو فرضنا إمكان ذلك، ثم جيئ بالأشخاص والرموز ذاتها أوقريباً منها؛  أيظن أنه حل مشكلة، وهل الخصوم على درجة من الغباء أن يقبلوا أو يسلموا بذلك، حتى لو انسلخ هؤلاء من جلدهم ,(ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم)

ولو فرضنا أن التغيير في حدود الرجال والأشخاص ,أما المبادئ والمناهج و الأهداف فلا تغيير فيها، سوى إعادة الصياغة و تقديم وتأخير دون تجديد ,فهل يمكن لهذا الحزب الحياة ؟ والمعروف أن الصراع صراع عقدي وليس شخصياً،  ثم كم من الوقت نحتاج لتكوين وصياغة رجال وكوادر يحملون عبء هذه المبادئ والمناهج، ويؤدون دورا فاعلأ في المجتمع, وإذا كانت كوادر هذا الحزب ورجالته خليطاً من الرموز القديمة والجديدة  فهل يضمن له القبول لدى الغير, وهل يضمن سلامة السير واستمراره, وحسن الإيمان بالمبادئ والتفاعل معها، أم أن المقصود أصلا إيجاد صراع بين القديم والجديد، ليتفرج أعداء الإسلام على هذا  الصراع.

واذا كانت الاجابات على كل هذه الاسئلة واضحة ومتفق عليها, لم لايؤسس من شاء ما شاء من الأحزاب دون أن يهدم غيره ويقوم على أنقاضه، ويشغل الأمة بأمرين جللين الهدم والبناء , لم لا يشتغل بالبناء وحده , وإذا كان صافي الموراد نظيف المنابت, فلن يحدث اختلاف، وكما يقولون الأنوار لا تتزاحم, والميدان يتسع لكل العاملين ,والبقاء للأنفع والأصلاح .

أسباب خفية وراء دعوات حلّ الجماعة:

اذا لم يكن في مناهج الجماعة ولا في رموزها من الخلل  ما يدعو إلى حلها, فما هي المبررات الحقيقية لهذه الدعوات والصيحات؟

والجواب قد يكون قاسياً وصعباً، ولكن لابد منه قدر المتاح:

فهناك من يدّعي أن وجود الجماعة معوّق لحرية العمل السياسي والدعوي، وهناك من يتهم بأن الجماعة رضيت لنفسها المهادنة فأعاقت إنطلاقة الجهاد في بعض البلدان، والواقع أن كل ذلك لا يخرج عن جملة الاتهامات، أو الرأي الذي لا يسنده واقع منصف.

ولعلَّ السرّ وراء هذه الدعوات لحل الجماعة أن النظام السياسي العالمي لم يعد يتقبل تنظيماً جامعاً بين السياسية والدعوة، والعلم والعمل، والتربية والإعداد، كما لم يعد يتقبل تنظيماً يحمل على عاتقه مشروعاً متكاملاً، يتواصل أفراده عبر العالم، يحمل هموم الأمة كلها بدءاً من تحرير فلسطين إلى تحكيم شرع الله؛ فتتوالى الضغوط على أبناء الجماعة في كل مكان؛ قائلة: إنه لا بدَّ إذا أردتم مكاناً في عالم السياسية من أن تحلوا أنفسكم وأن تتشظى الجماعة تنظيمياً وفكرياً، وأن يفصل فصلٌ تامٌ بين الدعوة والسياسة، وأن تكونوا كأي حزبٍ سياسي عامٍ، يقوم على مبادئ أقرب ما تكون إلى العلمانية الغربية، وهنا تتعالى الأصوات من مشفقٍ محبٍ تارةً، ومن مغرضٍ معادٍ تارةً أخرى أن لا بدَّ من الحل.

فأما المشفق فظناً منه أنه بذلك يضمن للمصلحين المخلصين دوراً و وجوداً وتأثيراً في عالم السياسة.

أما المغرض ففرصةٌ تلوح له لتحقيق مآربه.

فما هو الموقف والحال هذه، ولو من باب الحرص على استمرار أبناء الجماعة وحملة فكرها بأداء أدوارهم في ميادين السياسة والدعوة والتربية والعمل الاجتماعي والثقافي، تحت مسميات عدة، ورايات متفرقة لا يعترضها معترض؛ خاصةً إذا وجدَ حالٌ يمنع وجود الجماعة قانونياً إلّا إذا فصلت بين هذه الأعمال واتخذت مسميات أخرى، فما هو الموقف إذن؟!

الموقف التأصيلي الشرعي:

نستطيع أن نضع جملة من القواعد والأصول في التعامل مع هذه القضية:

أولاً: نعلم جميعاً أن تكوين الأحزاب والهيئات والمنظمات أمر اجتهادي, دعت إليه المصلحة، وهو مرتبط بها وجوداً وعدماً, يدور معها حيث دارت, ومتى رأت الجماعة من خلال مؤسساتها الشورية المتكاملة أن المصلحة تقتضي حلَّ نفسها فلن تتردد في ذلك.

ثانياً: إن جماعة الإخوان المسلمين جماعة من المسلمين، وليست جماعة المسلمين، ومادام الأمر كذلك فهذا يؤكد أن العبرة بالمضمون والفكرة، لا بالشكليات والهيئات لذاتها، إلا بما يحقق المصلحة.

ثالثاً: نفرّق بين الفكرة والوسيلة، فالفكرة الصحيحة نؤمن بها، ونعمل لأجلها بكل سبيلٍ متاحٍ شرعيٍ، أمّ الوسائل فمتغيرة حسب الحاجة والمصلحة والإمكان.

رابعاً: لكل مسلم الحق في أن ينتظم في جماعة الإخوان أو غيرها أو لا ينتظم... لكن أن يعارضها في فكرها وأن يحاربها في مبادئها_ التي تعبر عن الإسلام_ فهو خطأ بل خطيئة، مالم يكن في مسألة اجتهادية مبنية على اختلاف الرؤى.

خامساً: وأي تكوينٍ أو هيئة أو حزب في نظرنا الإسلامي إنما هو وسيلة لتحقيق مرضاة الله، والقيام بحق هذا الدين فمتى كانت هذه الوسائل مطلوبة وناجحة اعتمدت، وإلّا فلا.

سادساً: وعليه فإننا لا نتعبد الله بالهيئات ولا بالأحزاب ولا بالمنظمات لذاتها، ولكن نسعى لمرضاته سبحانه وتعالى.

سابعاً: ونعتقد في الوقت نفسه أن هذه الوسيلة القائمة عبر تكوين جماعة الإخوان المسلمين، وقد قامت بدوافع وأسباب مشروعة وضرورية، واستمرت على ذلك عشرات السنين، وهي تجاهد من أجل دين الله ورفعة الأمة؛ فإن هذه الدوافع والأسباب ما زالت قائمة، بل وغدت في هذا الزمن أكثر إلحاحاً، ومازالت الجماعة تؤتي ثمارها إن شاء الله.

وبناءً عليه نؤكد أننا على مستوى سورية، وإذ نحن في مرحلة ثورة وجهاد ولم توطد أركان دولة الحق والعدل والحرية والكرامة؛ فلا يجوز لنا أن نفكر في حلّ  الجماعة إذ في ذلك هدمٌ لبناءٍ عظيمٍ، من غير ضمانةٍ لإيجاد البديل.

والى ذلك الحين نقول : نحن جماعة إسلامية داعية إلى الله، عاملة على تمكين شريعته، وتحكيم كتابه، و سنة نبيه، بالطرق المتاحة والوسائل المشروعة، فإن أصبنا فمن الله وهو المبتغى, وأن أخطأنا فمن أنفسنا، ونستغفر الله.

وإذ كنا جماعة من المسلمين فلا نتخذ موقفاً سلبياً في حق من يخالفنا أو يلتزم بغيرنا، بل نمد يدنا إلى كل العاملين المخلصين, و نتعاون معهم فيما اتفقنا عليه, ونعذر غيرنا فيما اختلفنا فيه.                 والله اكبر ولله الحمد .

                                              د. محمود بن حسين الحريري

                                    1\7\1436 ه الموافق 20\4\2015

وسوم: العدد 686