للمُنقلبين على النص ..

ممن وصفونا بالنازيين حينا ، وبالضالّين كلّ قليل..

ممن أمطرت جدّاتهم ( عبثا ) - على جبهاتهم آياتٌ تُتلى وأوْرِدةٌ تُراقُ ، كُلّما أصابتهم الحُمّى والتهبت مفاصلهم-  قبل اختراع التحاميل ..!! 

ممن يظنّون أنهم يُنقذون جيلا بالتشويه ، وينهضون بوطنٍ بالإنسلاخ عن هويّة المُجتمع وثقافته الأم ،  وما يعنيهم من المركبة إلا شبه ابتسامة في غُرفة القُبطان ، وهُتاف فوق سفينة أكلت ألسنةُ أهلها قطّة القُرصان .. 

الى مسوخ العلمانية والليبرالية وبقيّة المفصومين اليساريين واللادينيين والمُلحدين في كل بلاد المسلمين و العرب.. 

قال الإمام مالك وغيره عن الرافضة: “هؤلاء قوم أرادوا الطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يمكنهم ذلك، فطعنوا في الصحابة ليقول القائل: رجل سوء كان له أصحاب سوء، ولو كان رجلا صالحا لكان الصحابة صالحين”.

هي آفة قديمة للالتفاف على ما هو مُقدّس؛ للطعن فيه وتجريف حقيقته، لا تزال تنخر في المجتمعات الإسلامية، كدابة الأرض تأكل مِنْسأَة سليمان.

المعركة الحقيقية ليست مع نابذي النص وأصحاب العداء الصريح لنصوص الوحيين، وإنما في أولئك الذي يزحفون كالأفاعي الناعمة لتطويق النص الشرعي وتفريغه من محتواه، ليوافق أهواءهم وتوجهاتهم المصادمة في أصلها لتلك النصوص وأصول الدين.

يقول الباحث الأستاذ فهد العجلان في كتابه الماتع “معركة النص”: “علم خصوم النص أن قواهم الفكرية والإعلامية عاجزة عن تمزيق سياق النص للنفوذ إلى قلب الشعوب المسلمة، فكان لا بد من حيلة تكون موصلة إلى هذه الغاية من غير الاصطدام بهذا السياج المحكم، فتحركت بوصلة المعركة من مواجهة مع النص، إلى تخطّ للنص عن طريق مسايرة النص الشرعي، بجعل كل الرؤى والمفاهيم المنحرفة داخلة في مفهوم النص”.

انقلبوا على النص بالعدول عن فهم الصحابة لهذه النصوص، فتجاذبتهم الأهواء في تأويل النص الشرعي، ولذا ما من فرقة أو اتجاه فكري وعَقَديّ منحرف، إلا ويستدل أهله بالقرآن والسنة، ويتكئون عليهما في تقرير منهاجهم، لكنهم نأوْا بأنفسهم عن فهم النبي صلى الله عليه وسلم لتلك النصوص، فوقعوا فيما يصادمها.

انقلبوا على النص بمحاولة إقصاء السنة النبوية والاكتفاء بالقرآن الكريم، بزخرف القول، وسمّوا أنفسهم بالقرآنيين، بحجة أن القرآن منزه عن التحريف، وتكفل الله بحفظه، بينما السنة القولية والعملية قد يَرِد منها الضعيف والموضوع.

ولو رجع هؤلاء إلى القرآن لأدركوا ضلالهم بنصه، إذ يقول الله تعالى: “وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا”.

ولو أنهم أفنوا أعمارهم في النظر بين دفَّتيِّ المصحف، لما وجدوا في القرآن نصوصا صريحة في عدد ركعات الصلاة، ولا شروطها وأركانها وواجباتها وحركاتها، ولا في أنصبة الزكاة بالتحديد، ولا في معظم مسائل الجنايات وأحكام القضاء، فمعظم الأحكام الشرعية عُرفت بطريق السنة النبوية سواء كانت قولية أو فعلية أو تقريرية، بينما يبين القرآن الخطوط العامة والقواعد الكلية، وتأتي السنة التي هي وحي من عند الله، لتفسر أحكامه، وتبسط ما أجمل منه، فهؤلاء إنما أرادوا نسف الدين تحت مبرر قد يكون مقبولا لدى البسطاء.

انقلبوا على النص عندما بحثوا عن كل شاردة من الأقوال الشاذة لأهل العلم ولو خالفت الإجماع، واعتمدوا عليها في التحلل من الانقياد للنصوص الشرعية، بحجة عدم التضييق على الناس، فعطلوا العمل بالأحكام الصريحة لقول شاذ، أو حكم منسوخ، كحال أولئك الذين لا يزالون حتى اليوم يستحلُّون نكاح المتعة، فجاءت أجيال بأكملها من سفاح.

يقول فهد العجلان: “إن خلاف الفقهاء في القضايا الفقهية كان لاختلافهم في تأويل النص، فهو من النص يبدأ وإليه يعود، ومن خالف حكم النص، فإنما خالفه لاجتهاد يُثاب فيه على جهده وصدق نيته، ولم يكن حالهم حال المعرض تماما عن النص، وبعد أن حسم خياراته وحدد موقفه بحسب المفاهيم والقيم التي يؤمن بها، رجع للنص الشرعي”.

وانقلبوا على النص حينما اختزلوا تعاليمه في بضع شعائر تعبدية أو علاقة روحية بين العبد وربه، فقبلوا بعضه وأعرضوا عن بعض، تكريسا لعلمنة المجتمعات الإسلامية، بفصل الدين عن شؤون الحياة، غير عابئين بحقيقة الإسلام الذي هو منهج شامل متكامل للحياة بجميع مناحيها.

ولذلك كانت العلمانية في مجتمعاتنا الإسلامية لا تأخذ شكل العلمانية الماركسية أو المتطرفة التي تنبذ الدين كلية، لكنها في حقيقة الأمر أشد خطرا منها، فأهلها قد يصلّون ويحجون ويزكون، لكنهم يرفضون تعميم المنهج الرباني على واقع المجتمع، فيقع الكثيرون فريسة هذه الأفكار الدخيلة على الأمة.

وقد امتد تأثير هذا التطرف الفكري بالفعل إلى عامة الناس، حيث صارت أركان الإسلام الخمس (مع علو مكانتها) هي كل الدين لديهم.

وقريبا من هؤلاء انقلب البعض على النص بعد حصر إسقاط الأدلة على واقع المجتمع الأول والوقت والظرف الذي نزلت فيه الآية أو ورد فيه الحديث، ولم يكترثوا لكون الإسلام هو الرسالة الخالدة، المهيمنة على جميع الشرائع، الصالحة لكل زمان ومكان، حتى أنها بيّنت أحكاما شرعية مستقبلية بين يدي الساعة لم يَجْر العمل بها بعد.

انقلبوا على النص حين عمدوا إلى إخفاء نصوص شرعية صحيحة بأحكام واضحة، من أجل التقارب مع الآخر وإظهار التسامح الديني، فوقعوا في فتنة مسايرة الواقع، وتواروا بالأحكام المنزلة خاصة التي تتناول حقيقة أن الإسلام دين ودولة وعقيدة وشريعة، وأخلاق وقيم.

انقلبوا على النص عندما جعلوا العقل حاكما عليها، فما قبله العقل فهو مقبول وما نبذه فهو مرفوض بزعمهم، مع أن النص الصحيح لا يتصادم مع العقل السليم، وإنما جعل الله للإنسان عقلا ليدرك ويفهم به الحق، ويتوصل به إليه، لا ليحكم على صحته أو بطلانه.

وكما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب “لو كان الدين يؤخذ بالرأي، لكان المسح على باطن الخفين أولى من ظاهرهما”، وتلك مناجزة للشارع.

وهل يعقل أن يكون العقل الذي يخضع للتربية والنشأة والثقافة والتجربة على تباين مستوياتها، حاكما على نص منزل من قبل الله تعالى الحكيم الحميد؟

صور الانقلاب على النص كثيرة، وربما فاتني الكثير لأقوله، وقد يضيف قارئي إليّ منها، لكني أردت التطرق إلى هذه المعركة لأهميتها، فهي المعركة الحقيقية التي تواجهها الأمة في هذا العصر.

ولئن كنت لا أزعم لنفسي أنني من طلبة العلم ولا طويْلِبَته، غير أن الأمر جدُّ خطير يستدعي تنشيط الوعي الجماهيري لمواجهته، وليت العلماء والدعاة يركزون على تلك المعركة، فأول الطريق فهمٌ صافٍ، ووعي مدرك.

وسوم: العدد 689