الحوكمة الانتقالية في سورية... مرحلة أم حكومة؟

لو كانت الأزمة السورية بين نظام ومعارضة يقتتلان، وفي جنيف يتفاوضان على حلِّها، لكان بالإمكان وضع سيناريو محتمل لمجريات التفاوض، وللحل السياسي. ولو كانت الدول الداعمة لأطياف المعارضة، وتلك الداعمة للنظام، يمكن أن تتلاقى مصالحها في نقطة ما من حلٍّ سياسي، مهما صعُبَ الوصول إليها، لكان بالإمكان الاتكاء على حنكة دي ميستورا الأممية، وانتظار الفرج. الأبواب مغلقة، ومع ذلك نتابع، ونتأمل، و «نتشاءل» بالمفاوضات العامرة سرّاً على المستوى الإقليمي، طالما بحث جنيف- 4 في «الإجراءات والجوهر»، لعل الحل يهبط في جنيف- 5 فجأةً كجلمود صخْرٍ حطَّه السيلُ من عَلٍ! أو في أقل تقدير يُكشف عن هذا الجوهر الثمين.

عندما استقرت أطياف المعارضة السياسية والعسكرية على تشكيل الهيئة العليا للمفاوضات وفق قبول الداعمين، كان يُنتظر أن يكون مولودها منفتحاً على المناورات الضرورية في التفاوض، لكن هذا لم يتوافر في جنيف- 3. أما الطاقم الجديد المفاوض، فتبدو عليه ملامح الحنكة في حبك المناورات، لتسريب ما يحتمل شيئاً من التأويل أو أكثر من تفسير، لتوظيفه لاحقاً، إن لم يكن في المسائل الأساسية، ففي المسائل الهامشية التي يمكن أن يتسرب منها التغيير قطرة قطرة، إذا اندسّتْ مرتكزاتُه في سلال التفاوض، لتطبخ على النار «الأمنية العسكرية» الروسية الأميركية، بموافقات عربية وإقليمية، وأيّ نتائج هي حتماً من مخرجات هذا المطبخ، سلبيةً كانت أم إيجابية، وللأسف ما من نتيجة محتملة يمكن اعتبارها إيجابية. لو استمرت لغة التفاوض بالتشدّد المعلن من الطرفين، ولم تظهر عليها ملامح المناورة، فلا ضرورة لعقد المؤتمر، لكن ابتسامةً فيها قليل من التفاؤل ظهرت على محيّا «كابتن» فريق المعارضة، بدّدت بعض الظنون! ظهر نقيضها على محيّا «كابتن» فريق النظام، بدّدت ظنوناً أخرى، وهذان مؤشران يشدّان الأنظار إلى جنيف المقبل.

دي ميستورا تجنّب النطق بإحدى العبارتين: المرحلة الانتقالية أو الحكم الانتقالي، واشتقّ مصطلح «الحوكمة» للابتعاد عن المطبات، وإذا فُرضت إحداهما على طاولة الحوار، فيمكن قراءة مسار التفاوض (وجوهره) على وجوه المتفاوضين.

من طبيعة أيّ مفاوضات أن تكون مسرحاً لبالونات اختبار، إما لجس النبض، أو لإزالة العقبات، أو للعرقلة، وفي المفاوضات السورية هي دائماً لإفشالها، في غياب استناد القرارات الدولية إلى القوة، بما فيها القرار/2254/، الذي يُختلف على تفسير أهم بنوده، ما يجعل منه مجرد ورقة عمل قد تطوى في بداية جلسة التفاوض بين الطرفين. ما يؤخذ على المعارضة السياسية والعسكرية أنها تحجب وجهها الحقيقي الفاعل سياسياً وعسكرياً، وتقدّم العلمانيين إلى الواجهة الإعلامية والتفاوضية، وتدس بينهم واحداً منها لضبط إيقاع أجندتها، ولذلك تعمل روسيا على تطعيم المعارضة بمنصّتي موسكو والقاهرة.

والمشكلة أساساً ليست هنا بل في الجهات الداعمة للطرفين،التي لن تتفق على حلول إجرائية، لأنه ما من حلٍّ يؤمن انتصاراً لأيٍّ منها، ولا هي مستعدة لتخفيض سقف طموحاتها، مع أنها تدرك استحالة تحقيقه عسكرياً، وكأن مصلحة جميع الداعمين في استمرار الأزمة وليس في حلِّها، ومن الواضح الذي لا لُبس فيه أنّ الأطراف الداعمة تعلن عكس ما تضمر حول التعدُّدية، والديموقراطية، وحقوق الإنسان، وهي المسألة الأهم في كل تفاصيل المفاوضات بين الطرفين: المعارضة والنظام. الهيئة العليا للمفاوضات، في ما تمثل من أحزاب وتيارات سياسية وتكتلات وشخصيات مستقلة وفصائل مقاتلة، وتعدّد داعمي هذه الأطياف، لا يمكن أن تكون رؤيتها واحدة لسورية ما بعد المرحلة الانتقالية، من حيث النظام السياسي الديموقراطي التعدُّدي (الرئاسي أو البرلماني)، ولا يمكن الركون إلى التصريحات الإعلامية للوجوه العلمانية في المعارضة حول هذه المسألة المحورية، لأن أطيافها اللاعلمانية هي القادرة على حسم المواقف والقرارات لمصلحتها، فهي تعترض على كلمتي «ديموقراطية وعلمانية» أينما طرحتا، في جنيف وآستانة، وفي نقاشاتها داخل الغرف المغلقة، وتترك للآخرين علمانيين ومستقلين، أن يصرحوا كما يحلو لهم. 

الأمر الوحيد الذي لا خلاف عليه بينهم جميعاً هو «تغيير النظام»، وما بعد ذلك لا تعبِّرْ عنه مطلقاً تصريحات المعارضة، والقوى النافذة فيها التي تحجب رأيها عن الإعلام، وتحجب نفسها وأسرارها، ما يدل إلى أن لها أجندة خاصة، لم تَحِنْ ساعة الانقضاض بها، ليس خوفاً من النظام، ولا من بقية أطياف المعارضة، بل من تغيُّرات جذرية في رياح السياسة العربية والإقليمية والدولية، وهي تتقاذف المعارضات ذات اليمين وذات الشمال، وما ذلك بخافٍ على الحنكة الروسية الأمنية والسياسية، التي صنَّعت معارضة على قياس رؤيتها للديموقراطية والعلمانية، تحاول فرضها طرفاً في المعارضات، لكن المعارضة تعتبرها جزءاً من النظام، فتضع مفاوضيها الديموقراطيين في الواجهة لذرِّ الرماد في العيون، والدب الروسي لا تخفى عليه النوايا المضمرة، لذلك يُصِرُّ على توسيع المعارضة، قبل مناقشة المرحلة الانتقالية (وفق قراءة المعارضة)، أو الحكم الانتقالي (وفق قراءة النظام)، وإشكالاتها المعقّدة، لأن معظم الأطراف الداعمة للمعارضة، تحتضن أصحاب الأجندات المحتجبة المتطرفة، ليشتد ساعدها، ويغيب عنها كيف انقلب عليها سابقاً منْ علّمته الرماية في أفغانستان، فلما اشتد ساعده رماها. التنوع والتعدّد في مكونات أي دولة، يعتبر أمراً إيجابياً حضارياً، هكذا كانت سورية منذ بداية القرن العشرين، والآن يُراد لتنوّعها أن يتحوّل قنابل موقوتة، قد تنفجر في أي لحظة يريدها طرف من الأطراف، مهما صغُر حجمه أو كبُر.

يصعب الاقتناع بإمكانية الحل السياسي بين طرفي التفاوض، إلا بإزالة كلٍّ منهما القنابل الموقوتة في صفوفه الخلفية، المحرّكة لواجهته التفاوضية التعطيلية، وهذا مستحيل، ولا تخفى أسباب استحالته الخارجية على أحد. والوسيط الأممي وكذلك الروسي، أعياهما الضغط على الطرفين لتليين المواقف، لأن أيّاً منهما لن يقدّم هدية للطرف الآخر بالتزحزح ولو قيد أنملة ما لم تكن متوازية، متوازنة، بينهما. وهذه العقدة مستعصية يصعب حلها، مع أنها من سقط المتاع، وبانتظار الجولة الخامسة للكشف عن- الجوهر- الذي صرَّح به دي ميستورا، سيبقى التشاؤم سيد الموقف بمقدرة المؤتمر على صنع المعجزات.

وسوم: العدد 713