قضية وطن لا قضية جماعة!

يمكن القول إن الأذرع الإعلامية وفقا لنظرية جوبلز نجحت في حصر المشكلة المصرية بين طرفين هما: النظام العسكري الانقلابي الدموي الفاشي، وجماعة الإخوان المسلمين، واستطاعت أن تقنع قطاعا كبيرا من الشعب المصري أن الانقلاب جاء لينقذه من الإخوان الذين فشلوا في قيادته وعملوا على تقسيمه وسعوا إلى تطبيق الشريعة الإسلامية بالقوة واستعادة دولة الخلافة التي أسقطها مصطفى كمال أتاتورك رسميا قبل قرن من الزمان بعد أن قام الصليبيون بتمزيقها جغرافيا!

ثم صار الإخوان شماعة يلقي عليها النظام العسكري فشله العظيم وخيبته الكبرى في المجالات المختلفة لدرجة أن الناس يتندرون بأن ثقب الأوزون من اختراع جماعة الإخوان وأن الأعاصير التي تدمر المساكن وتهدم الجسور وتغرق العمران في دول العالم هي صناعة إخوانية. وصار طبيعيا أن كل من ينتقد الانقلاب العسكري إخواني بالضرورة، وقد وصفت الأذرع الإعلامية مؤخرا صحيفة النيويورك تايمز وصحيفة هافنجتون بوست وقنوات أجنبية شهيرة بالإخوانية!

 وكان أطرف ما قرأته لمثقف كبير أن إسقاط الإخوان جاء نتيجة لرغبتهم في إذابة الحدود! يقصد فتح الحدود مع البلاد العربية واستعادة الخلافة الإسلامية؟ هذا المثقف ينسى أن أوربة على اختلاف أعراقها ومذاهبها وعاداتها وتقاليدها ومستوياتها أذابت الحدود فيما بينها، واعتمدت سياسة موحدة في التعامل مع الآخر، والإنتاج، والاقتصاد، والقوة العسكرية، وسمحت بما يعرف بالشينجن، والانتقال السلس بين عواصمها لأي مواطن داخل الاتحاد الأوربي، عدا تركيا المسلمة!

في عصر الرئيس مرسي – فك الله أسره - ذهبت إلى غزة مع المشاركين في مؤتمر عمداء البحث العلمي الذي أقامته جامعة الأقصى، حجَزَنا العسكرُ في المعبر الذي وصلناه ظهرا ولم يفرجوا عنا ويسمحوا لنا بالدخول إلا مع العشاء، بعد اتصالات مع القيادات النافذة في الإخوان مع أن المشاركين حصلوا سلفا على تصريح من الأجهزة الأمنية قبل أن يتحركوا من القاهرة. ثبت أن ما يسمى الحكم الإخواني لا وجود له على أرض الواقع لأن من كان يحكم فعلا هو العسكر الذين لا يستريحون للإسلام ولا الخلافة، فكيف للإخوان أن يذيبوا الحدود وهم لا يقدرون على دخول غزة؟

لإنعاش ذاكرة المثقف الكبير فإن انقلاب العسكر عام 1952 لم يحافظ على حجم الدولة التي كان يحكمها سنة الانقلاب فاروق الأول ملك مصر والسودان، وكانت تضم السودان وأجزاء من إريتريا وإثيوبيا وأوغندة، بالإضافة إلى قطاع غزة، وكانت مساحة الدولة آنئذ تقرب من ثلاثة ملايين كيلو متر مربع، وتركها البكباشي الأرحل وهي أقل من مليون كيلو متر مربع، فالانقلاب الأول لم يذب الحدود فقط، ولكنه تنازل عن ثلثي مصر، أما الانقلاب الحالي؛ فهو يتنازل عن تيران وصنافير، وعلى الطريق حلايب وشلاتين، ولا أحد يدري ماذا سيجري في صفقة القرن التي أعلن عنها، دون معرفة تفاصيلها.

إذابة الحدود أمر غريب لم نسمع به في مصر الإخوانية إذا صح التعبير، ولكن الذي سمعنا به في مصر الانقلابية هو التفريط في الجزيرتين المرويّتين بدماء شعبنا والموجودتين داخل مياهنا الإقليمية، والمهمتين عسكريا واستراتيجيا لدفاعاتنا إلى من لا يعرف أنهما ينتميان إليه بسبب.

هل سمع المثقف الكبير عن النظام الديمقراطي الذي انتخب رئيسا بأغلبية الأصوات في انتخابات نزيهة وشفافة اعترف بها العالم كله؟ هذا النظام هدمته مجموعة من العسكر بمواسير الدبابات حيث اختطفوا الرئيس المنتخب، وألغوا الدستور، والمجلس النيابي، وقبضوا حتى الآن على أكثر من ستين ألفا من أفضل عناصر الشعب علما وفكرا وثقافة وخلقا ولا نزكيهم على الله، عدا من قتلوهم بالآلاف ومن حكموا عليهم بالإعدام والسجن المؤبد المشدد وعددهم لا يحصى .. فهل هذا في عرف المثقف الكبير يكافئ إذابة الحدود المزعومة؟

إذا التمسنا العذر للأميين وأشباههم الذين يصدقون ما يصدر عن الأذرع الإعلامية، فأي عذر نلتمسه لمن تربوا في أكسفورد ولندن وتعلموا على أيدي كبار علمائها وأدبائها ومستشرقيها، وعرفوا أن الحكم للأغلبية التي تأتي بها صناديق الاقتراع, وليس صناديق الذخيرة؟

للأسف فإن إلحاح الأذرع الإعلامية على أن الإخوان هم مشكلة مصر، وليس   جريمة الانقلاب العسكري الذي حول مصر إلى سجن كبير، هذ الإلحاح لم يؤثر في العامة ومحدودي الثقافة وحسب، ولكنه أثر في أعداد لا يستهان بها من أساتذة الجامعات، ومن يسمونهم بالمثقفين الكبار، وأصحاب الرؤى الأوسع والأعمق، وتلك مصيبة كبيرة من مصائب الوطن التعيس!

حين تتحول محنة الوطن إلى مجرد صراع بين ما يسمى حاكم الضرورة وجماعة من الجماعات، فهذا اختزال مخل! محنة الوطن أكبر من ذلك، لأنها تتلخص في الحرمان من ضرورات الحياة والعيش المشترك والإرادة الشعبية التي سحقتها الدبابات وصناديق الذخيرة، لقد فقد الشعب المصري الحرية والكرامة وحق المشاركة في صنع مستقبله واختيار حكامه، ويعلم الذين عاشوا في لندن أو باريس أو روما أن صناديق الانتخابات هي التي تغير الحكام والمسئولين، وأن أصوات الناخبين هي التي تقرر الرغبة في اختيار من يذيبون الحدود أو رفضهم. ولا ريب أن صناديق الانتخابات تفرض خضوع كل من يعيش على أرض الوطن للإرادة الشعبية لأنها هي التي تمنح الطعام واللباس والامتيازات. أما صناديق الذخيرة ومواسير الدبابات فينبغي أن تتفرغ لمهمتها الأساسية وهي تأمين الحدود، والحفاظ على الموارد الطبيعية من مياه ومعادن وثروات وممتلكات الوطن. الشعب يملك الكفاءات التي يختارها المواطنون لتتخذ القرارات الملائمة لمصالح الناس وعلى المعنيين تنفيذها في السياسة والاقتصاد والعسكرية والتعليم والصحة والزراعة والصناعة والإنتاج والخدمات.. ولذا فإن تسويغ سيادة الدبابة والذخيرة بحجة إذابة الحدود أمر مضحك مبك في آن!

لنفترض جدلا أن أية جماعة تحكم مصر تسعى للخلافة الإسلامية، فهل يمكن تحقيق ذلك عمليا الآن؟ إن أغلبية الحكام الطغاة الذين يحكمون العرب والمسلمين لا يمكن أن يتنازلوا عن كراسيهم لصالح الخلافة الإسلامية المفترضة، ولا يوجد واحد منهم يؤمن أن قوة المسلمين تكمن في وحدتهم وتماسكهم، لسبب بسيط وهو أنه يتلقى وحيه من الخلافة الصليبية في أوربة وأميركا التي تمنحه قبلة الحياة والاستمرار وترفض أي تقارب عربي ما لم يكن لخدمتها وازدهارها. من المؤسف أن يصل المثقف إلى مشارف الآخرة ويدلس على الأمة، ولا يقول الحقيقة المرة التي تصيح عاليا أن الرئيس المنتخب لم يكن يملك الدفاع ولا الأجهزة الأمنية ولا القضاء ولا الإعلام ولا الكنيسة ولا الأزهر، فاختطفه المتآمرون وأدخلونا في متاهة الخيبة والفشل والديون والدماء. القضية قضية وطن يريد الحرية لا قضية جماعة قُتل الكثير منها، ووضعت في السجون والمنافي، فحظيت بشرف الدفاع عن الحرية، وقيادة الأحرار من كل الاتجاهات!

الله مولانا. اللهم فرّج كرب المظلومين. اللهم عليك بالظالمين وأعوانهم!

وسوم: العدد 721