أَهْلُ ألحَلِّ والعَقدِ

د. حامد بن أحمد الرفاعي

الجزءُ الأولُ

في عام 2003م زارني في جدة وفد أمريكي رفيع المستوى منهم السفير الأمريكي في السعودية إذاك المستر/روبرت جوردان(Mr. Robert Joran).. وكان الوفد برئاسة المِستر/ لورين كرنر(Mr. Lawren Craner)مساعد المِستر/ كولن باول(Mr. Colin Powell) وَزيرُ خَارجيِّةِ امريكا الأسّبَق..بقصد التعرف على الفرق بين البيعة في الإسلام والديمقراطية في الليبرالية..فسألني المستر لورين قائلاً:مَا مَعَنَى مُصطَلحُ أَهْلِ الحَلِّ والعَقدِ عِندَ المُسلمين ..؟قُلتُ:هُم المُؤهلُون للمُساهَمةِ في اتِخاذِ القَرارِ..قال:ماذا تعني بالمؤهلين..؟قلت:هُم أهلُ الاختصاصِ في شَتى مَنَاحي الحَياةِ..قَالَ:مَا هي مَيزاتُهُم ..؟قُلتُ:العِلمُ والكفاءةُ والخِبرةُ والمَهارةُ والتخصص الدقيق..قَالَ:كيفَ تُحَدِدونَهم وتختارونهم ..؟قُلتُ:في عَهدِ الرسولِ محمد صلى الله عليه وسلم كان الأمرُ سهلاً..حيثُ كان عَددُهم قَليِلاً وَمَعروفُين من قبل أبناء المجتمع..فَكان الرَسُول يختَارُهم مُباشرةً..فَقَالَ:وَمَاذَا عَنْ اختياركم لهم اليومَ..؟قُلتُ:الإسلامُ لمْ يُحدِد طريقةً مَا لاختِيَارِهم..وَتَرَكَ الأمرَ لإرادة الأمةِ وحريتها في اختيارهم وفق طريقة تناسب ظروفها ومصالحها..والأمةُ اليومَ تَختارُهم إمَّا بِالتعيينِ وإمَّا بالانتخابِ أو بكلاهما معاً..قَالَ:ألا تَرى أنَّ التَعيينَ مَطعنٌ في سَلامةِ الاختيارِ..؟قُلتُ:لَيسَ عَلَى الإطلاقِ..مِثلَما أنَّ الانتخابَ لَيسَ الخيار الأسّلَمَ عَلَى الإطلاقِ..قَالَ:فَمَا هُو الأمثَلُ والأسلم بِنَظرِكمُ..؟قُلتُ:إنَّني مُهتَّمٌ بِهذِه المسألَةِ مُنذُ أمدٍ طويل وًبَعدَ تَأمُلٍ..وَجَدتُ أنَّ الأسْلَمَ يُمكنُ أن يَكونَ عَلَى النَحو التَالي:

تُحَدَدُ شرائُحُ الاختِصاصِ مِنْ كُلِّ مَنَاحي الحيَاةِ في المُجتَمَعِ. تُحَدَدُ مُواصفاتُ الكفاءةِ المناسبةِ مِنْ كُلِّ أهلِ اختصاص. يُحدَدُ العَدَدُ المَطلوبُ مِنْ كُلَّ تَخصُصٍ. يَختارُ أهلُ كُلِّ تَخصُصٍ مِنْ بَينِهم العَدَدَ المَطلوبَ.  المَجموعُ الكُلِّي يُشكِلُ مَجلسَ أهلِ الحَلِّ والعَقدِ.

قَالَ : وَهلْ قراراتُ أهلِ الحَلِّ والعَقدِ مُلزِمةٌ ..؟

الجواب في الرسالة القادمة إن شاء اللهُ تعالى.

******************

أَهْلُ ألحَلِّ والعَقدِ (الجزءُ الثاني(                  

في الرسالة السابقة..سأل المستر لورين كرنر/مساعد وزيرة خارجية أمريكا الأسبق:هلْ قراراتُ أهلِ الحَلِّ والعَقدِ مُلزِمةٌ ..؟ قُلتُ:القراراتُ في نِظامِ الإسْلامِ نَوعان:

قَراراتٌ تَتَعلَقُ بِثوابِت الشَريِعَةِ الإسْلاميِّةِ..وَهَذَا النُوعُ مُلْزِمٌ لِلأمَةِ بِكَامِلِها (وليُّ الأمرِ والشعبُ). قَراراتٌ تَتَعلقُ بِالمَسائِل الاجتِهاديِّةِ.

وللعلماء بِشأن المسائل الاجنهادية رأيان..منهم من يرى أنها ملزمة..والآخر يرى أنها غير ملزمة...وبعد التقصي والبحث والتأمل بشأنها وجدت أنها ليسَت مُلزمةٌ عَلَى الإطلاقِ..وأن لوليِّ الأمرِ بِشَأنِها حَقُ التَرّجيحِ بَينَها وَبَينَ غِيرِها مِنَ الاجتهاداتِ..التي تجتمع لَديِهِ مِنْ بَاقِي مُؤسساتِ الدولةِ التخصصية المتنوعة..وَلِوَليِّ الأمرِ كَذَلِكَ حَقُ التَعْديلِ..وحق التَأجِيلِ وفقَ مُقتضياتِ المَصلَحةِ العُليَا لِلأمَةِ..قَالَ:مَاذَا تَقصِدُ بِحَقِ الترّجيحِ لِلحَاكمِ ..؟قُلتُ:مِنْ حَيثُ الإجراءُ هُو ما يُقَابِلُ حق النقض"الفيتو"للرئيسِ الأمريكيِّ تِجَاهَ بَعضِ قراراتِ الكونجرسِ أو غيره من المؤسسات التشريعية لديكم..وَلكِن مَعَ الفَارقِ..قَالَ:وَمَا هُو الفَارقُ..؟قُلتُ :فَارِقٌ أخلاقي وحَضَارِيٌّ..فمَن حيث أنه أخلاقيٌّ وحَضاريٌّ:لكون عبارةَ"تَرّجِيحٌ"فيها إشارة إلى الموافقة الضمنية على كل القرارات من حيث المبدأ..وفيها خلق ودَمَاثةٌ وَاحتِرامٌ لِلجِهةِ المُصدِرةِ للقرارات..وأنَّ التَرّجِيحَ لم يأتي إلا تحرياً لمَا هَو أنسبُ وأصلح لحالة الأمَةِ من قرارات..وليس طعناً بصحتها وشرعيتها..والأنسبُ والأصلح لَها مَعَانِي عَدِيدَة"منها الأنسب زَمَاناً،ومَكَاناً،واستطاعةً،وسهولة،وأداءً،وفائدة،وأمناً،وصِيَاغةً..إلخ"بِينما عبَارَةُ:حق النقض:"فيتو"فَفيها قطعٌ وقَسوةٌ في الرّدِ والاعتِرَاضِ..وَفِيها تجاهل وربما انتقاص من قدر الجهات المصدرة للقرارات..وَعَلَى أيِّ حَالٍ نَحنُ العربَ نُقولُ:لامشَّاحةَ فِي الاصطِلاحِ..وَلِكُلٍ أمة ثَقافَتُها وَتقالِيدُها..فَقَالَت مُساعِدةُ مستر لورين:ولَكِن لِمَاذَا تُصِرُّون عَلَى استمرارِ العِلاقَةِ بَينَ الدينِ وَالدولةِ..؟أليسَ هَذَا مِمَّا يُقيِّدُ حَرَكَةَ تقدمكم وتَطورِكُم..؟قُلتُ:إنَّني أتفّهَمُ خَلفيَّةَ سُؤالكِ المُقدّرِ..لَقد كَانت لَكُم مُشكِلَةٌ كُبرى مَعَ تَعَالِيمِ الكنيسةِ..أمَّا نَحْنُ فَلَنَا مَعَ الإسْلامِ مُشكِلَةٌ مِنْ نُوعٍ آخرَ..قَالَت مُتَلهِفةً:وَمَا هَي مشكلتكم مع الإسلام من فضلك ..؟قُلتُ:إنَّنَا- للأسفِ- دُونَ مُستَوى تَعَالِيمِ الإسْلامِ وَحَوافزِه في الحث على العلم والبحث والتطوير والإبداع..وتَفّعيلِ كل أسباب ووسائل الارتقاء بمستجدات مَيادينِ الحياةِ وتحدياتها المتنوعة..بل الإسلام جعل طلب العلم من أعلى مراتب العبادة..ويمنح الإسلام الباحث المبدع أجرين تقديراً وتشجيعاً على المثابرة في البحث والإبداع..ويمنح الباحث المخطئ أجراً واحدً تشجيعاً له على استمرارية البحث والإيداع..قَالَ مستر لورين:شُكراً بروفيسور رفاعي..لَقد استفدنَا كَثيراً..وهذا مِمَّا يُشجِّعُنا أنْ نَسألَ المَزيدَ..وَدَخلنَا في حِوارٍ مُطولٍ لِمدةِ سَاعتينِ وَنَيّف..لا تَتسعُ مَسَاحةُ هَذِه الرِسَالة لتفاصيلهِ..فَمَنْ يَرغبُ الإطلاعَ فليتفضل بِمُراجعةِ كِتَابي (العقدً الاجتماعيُّ مُنتجٌ إسلاميٌّ)

وسوم: العدد 728