ثورة الربيع العربي السورية

لم تنطلق ثورة الربيع العربي من فراغ، بل هي استجابة لحركة التاريخ الصاعدة باتجاه التحرر من ثلاث قوى تناوبت على إفقار وقهر وإفساد وإضعاف قدرات الوطن العربي وهي:

1- الاستعمار الغربي الذي يمتد بفعاليته منذ بدايات حركة الاستشراق وحتى الأمركة المتوحّشة راهنًا.

2- الدول القطرية الوارثة للاستعمار ممثّلة بأنظمة حكم شمولية قهرية وفاسدة وفئوية.

3- الأقليات الفرعية ممثلة بطوائف دينية وعشائر وإثنيات وأحزاب حداثوية ووجهها الآخر الحركات التكفيرية التي ولدت في بيئات سلفية منغلقة على نفسها، وترعرت بمباركة وظلال مؤسسات مالية ومافياوية دولية لاتزال توجّه مقود السياسة العالميّة إلى الآن.

إضافة إلى معارضات سياسية اكتسبت شرعية وجودها من تنامي تيارات الفكر السياسي العربي (الإسلامي والقومي والاشتراكي والليبرالي...) منذ أواخر القرن 19 حتّى نهاية العقد الأول من القرن 21، التي تباينت فعالياتها تاريخيًّا، إلى أن كشفت ثورة الربيع عجزها، فالتحق المنتسبون إليها بإحدى القوى المذكورة آنفًا، ومنهم من التحق بالقوة الرابعة المستجدة وهي شباب ثورة الربيع العربي التي غيّرت الكثير في بنية المجتمع ومفاهيمه، وانهدمت منظومة القيم المجتمعية التي يعود بعضها إلى أكثر من 1400سنة، وبقيت بجسدها بعيدة عن القوى الثلاث المشار إليها.

 ستة أعوام من انطلاق هذه الثورة أثبت أبناؤها تمسكهم برفض المشروع الأمريكي التفكيكي إثنيًّا وطائفيًّا، ورفض استبداد السلطات وفسادها وتخلّفها، ومحاربة التيارات التكفيرية الغريبة عن توجهات الثورة العربية الراهنة. 

إنّ إخضاع تجربة ثورة الربيع العربي للنقد والتحليل والتقويم يحتاج لموضعتها في صيرورة التاريخ والجغرافيا، ثمّ التنظير لهذا الفعل التاريخي العظيم لتحديد أهدافها بشكلٍ جليّ، والعمل على بناء تنظيم عربي ديمقراطي تتسم أساليب كفاح أبنائه بالمدنية والسلمية، فيؤلّف بين قلوبهم ويوحّد رؤاهم وينسّق أساليب كفاحهم بمواجهة القوى الثلاث (الأمركة وأنظمة الحكم السياسية والتكفير والطائفية) وتوابعها التي بدأ التاريخ يلفظها خارج حركته.

ولعل العفوية التي اتسمت بها الثورة وفوضوية حراكاتها أدى لعدم وجود تنظيم، يدير الصراع، ويضبط إيقاع فعالياتها على مستوى الوطن العربي، ويشتغل على الجانب التنظيري فكريًّا، مما طوّل من عمرها فبدا الهدم والتدمير على السطح من دون أن يظهر التغيير والانتقال لمرحلة البناء الحاضر في عمق البنية المجتمعية.

انتفضت شعوب المنطقة العربية منذ خمسة أعوام عبر ثورات شباب الربيع العربي، ومع انطلاقتها تكون قد وضعت حدًّا فاصلًا بين فضائها، ومرحلة محاولات النهضة العربية الأولى منذ القرن التاسع عشر التي تعثّرت بعد الحرب العالمية الأولى إثر هيمنة قوى الغرب الرأسمالي على مقدرات ومصائر هذه الشعوب، ثمّ آلت إلى نكوص ملامحها الحداثية العربية الأوليّة بعد حرب 5 يونيه، حزيران عام 1967م، التي قامت بها إسرائيل وهزمت جيوش وأنظمة عربية عاجزة، تحوّلت منذ أواخر عام 1970م إلى فاسدة وقهرية.

بالعودة إلى تيارات الفكر السياسي العربي المتنوّعة (الديني والقومي والليبرالي والاشتراكي....) التي نمت في صيرورة التحوّلات التاريخية العربية الحديثة، نجد أنّها كوّنت قواها السياسية وأحزابها التي عجز أكثرها عن استلام السلطة السياسية فاقتصرت نشاطاتها على شعارات برّاقة لجذب مناصرين لها، وفهمت قياداتها السياسة اتقان التآمر والكيدية لبعضهم البعض فتشرذمت هذه الأحزاب وندر تأثيرها وفعاليتها المجتمعيّة، وأحزابٌ أخرى تمكّنت من الوصول إلى السلطة، فقادت البلاد والعباد على دروب القهر والجهل والفساد والفقر والتخلّف، طيلة سبعينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين والعشرية الأولى من القرن الحالي، مما أدّى في النهاية إلى انتفاضة الشعوب على حكّامها وعلى واقعها المأساوي، محدثةً تغيّرات مركّبة ومعقدة في المجتمع والدولة لاتنجلي وتتضح إلاّ لكلّ ذي علم وبصيرة. 

لاشكّ أن المنطقة العربية ثبت تخلّفها عن ركب الحضارة الكونية منذ بدايات نضتها حتّى نهاية العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين بظلّ أنظمة كان آخر همّها نهوض شعوبها، وأوّلها توريث أبناء قادتها الحكم والسلطة وزيادة إثراء أبنائها وأقاربهم من خلال الهيمنة على اقتصاد الدولة، مع نشر الفساد والإفساد تساوقًا مع انتشار القيم الإستهلاكيّة المواكبة لسياسات الإنفتاح الإقتصادي وفق توجيهات وهيمنة المؤسسات المالية الدولية، مع ارتباط المتنفذين في هذه الأنظمة مع دوائر مشبوهة  عُدّت من أسوأ عصابات الفساد المافياوي العولمي. لقد نتج عن سلوك أصحاب النفوذ في أنظمة الحكم السياسية القائمة إقصاء الأكثرية عن الفعل المجتمعي وإفقارها وقهرها، وبالتالي حرمان أبناء المجتمع من تمثّل مفاهيم تتعلق بالمشاركة والتعددية السياسية وتداول السلطة، وممارسة شرعة حقوق الإنسان، ...إلخ، ولم نكد نصل نهاية العقد الأول من هذا القرن حتّى انكشف وتوضّح مستوى الإنحطاط الثقافي والأخلاقي الذي وصلت إليه تيارات الفكر السياسي سابقة الذكر إن كانت في السلطة أو خارجها.

إن ما حدث منذ خمسة أعوام في منطقتنا هو: انتفاضة لشعوب عانت من أسباب القهر والعسف والفساد بظلّ أنظمة حكم فئويّة تلقّى فيها أصحاب الانتماءات الأولية (الطائفية والقبلية والإثنية والعائلية...) الدعم اللازم من قبل الغرب الاستعماري أعقاب الحرب العالمية الأولى وإبان استعماره لبلادنا، فتمكّنت هذه الأقليات من الإستيلاء على السلطة والجيش ومعظم مقدرات الدول الناشئة وفقًا لمفاهيم غربية حداثوية ولإرادة الاستعمار الأوروبي استنادًا لمعاهدة ونستفاليا عام 1648م وتداعياتها التي تكونت الدول الحديثة على ضوء ماتمّ الإتفاق عليه من بنود وماأفضى به تاريخ الغرب الحديث. إنّ تمكين الغرب للأقليّات من سلطة الدولة أدّى إلى تهميش أغلبية أبناء الشعب، ثمّ العمل على إخضاعه لإرادة سلطة الأقليّات هذه، إلى أن ثار هذا الشعب مؤخّرًا على جلّاديه ومغتصبي السلطة مطالبًا بالحرية والكرامة وبناء دولة مدنية تقوم على أسس ديمقراطية مستمدة من الهوية الثقافية المحلّية، بشكلٍ مغاير للدول القائمة التي لعب الغرب وثقافته الدور الأساس بتصنيعها وصياغة ملامحها، لقد وعى هذا الشعب مصيره وخرج من أنفاق الجهل الظلاميّة التي لعبت السلطات دورًا في إدامتها، ثار مقوّضًا ادعاءات مفكري الغرب باستعصاء شعوب المنطقة على تقبّل الديمقراطية والثورة.

 ليس خافيًّا على أحد أنّ الولايات المتحدة الأمريكية ترسم ملامح سياساتها الراهنةّ لإستعادة وتمكين أنظمة الحكم السابقة في تسلطها، للإستمرار وفق مارسمه الإستعمار الأوروبي طيلة القرن الماضي، بغية استئناف هذه الأنظمة قمع وقتل شعوب أوطانها الثائرة، وماترسيخ نظام الأسد في دمشق متحالفًا مع نظام حكم بغداد الطائفي والفاسد الذي فصّلته الولايات المتحدة وفقًا لمصالحها إبان حربها الشرسة عام 2003م، ثمّ مصالحتها لنظام إيران الطائفي الفارسي القمعي ودفعه مع ذيله حزب الله الشيعي في لبنان للمحاربة إلى جانب النظام السوري، وصفقة الكيماوي المهينة، وإحياء نظام حسني مبارك بأقنعة جديدة في القاهرة، وتأجيج الصراعات العامودية في ليبيا واليمن وسورية و...، وليس آخرًا مؤتمر الرياض الموازي للتدخل العسكري الروسي السافر وكالةً عن إرادة الولايات المتحدة الأمريكية السياسية القاضية بإماتة روح الثورة المتأججة في نفوس شباب لم يتركوا وسيلة إلاّ واستخدموها ليضمنوا قدرتهم على استمرارهم بالكفاح للتخلّص من طغمٍ عسكرية وسياسيةٍ وطائفية، ليتاح لهم بناء دولتهم الوطنية على أسس ديمقراطية، التي تحمل سمات هوية وطنهم وشعبهم وثقافته، تواقين للمساهمة في صياغة معالم حضارة إنسانية عادلة.

كما هو قائمٌ لدى تاريخ الأمم الإنسانية، فالفكر السلفي يمتدّ في أعماق تاريخنا، ولاتزال الثقافة السلفيّة تنخر في بنية مجتمعاتنا بأشكال مختلفة، مما يجعلها بيئة مجتمعية قابلة، بل حاضنة للمظاهر السلفية التكفيرية، وميولًا إيمانية لدى شبابها يؤججها الآخر الغربي الذي لم يتمكّن من نسيان عداواته التاريخية مع الشرق الإسلامي على الرغم من كلّ القيم والرؤى الحداثية والتنويرية التي بدأت شعوبه بممارستها ونشرها منذ اواسط القرن السابع عشر بعد أن ارتوت تراب أوطانهم من دماء ثوّار الحرية والمساواة والعدالة والكرامة؛ إنّ هذا الغرب يزداد شراسة في عداواته للإسلام ممّا يشجّع جموع المسلمين على التمسك بدينهم والبحث في تراثهم عن حلول مغايرة لما يقدمه الغرب، إضافة إلى عدم تمثّل ثقافته وقيمه التي لاينشرها إلاّ وفقًا لمصالح شركاته الإقتصادية، ومطابقةً لمرجعياته في دائرة الوعيّ الأوروبي المركزي الحديث، يزيد الوضع سوءًا إهمال مفكريه المتعمّد لحضارات عريقة، ومنها الإسلاميّة، التي تحمل هويات ثقافيّة أسهمت تاريخيًّا في بناء الحضارة الإنسانية.

منذ مطلع الإلفيّة الثالثة بدأت ملامح أزمات تلوح في أفق الغرب الرأسمالي، تومئ إلى عجز فكره ومؤسساته عن ترميم بنيانها المتهالك أمام ثورات تحررية من خارج بيئته ومنها ثورات الربيع العربي، وأخرى علمية من داخل بيئته أفضت لنتائجَ هائلة ومذهلة تحتاج إلى إرادات سياسية جديدة من أجل توظيفها لخدمة بني البشر. تتبدى معالم أزمات الغرب الأخلاقية والثقافية والسياسية في التناقضات الحاصلة بين هذه الثورات التحررية مع توجهات مفكريه وساسته المترابطة مع أسباب قهر الآخر وتهميشه ومعاداته، بظلّ إصرار منظريه على ضرورة تواصل الصراع البشري، وسيادة مبدأ الربح والخسارة تحفيزًا للخلق والإبداع، وذلك مسايرةً للبيوت المالية الجشعة ودوائرها الفاسدة، ضاربين بعرض الحائط تطلعات الشعوب نحو الحرية والعدالة من جهة، ومن جهةٍ أخرى متناسين نتائج الثورات العلمية في بيئتهم، التي تتيح الانتصار للذات الإنسانية الفاعلة الساعية على درب المحبة والتواصل بين جلّ أبناء البشر الساعين إلى التشارك والتعاون والتواصل، وليس إلى الصراع بغية نشر العدالة والحرية على سطح كوكب الأرض.

  ولعلّ نشوء التنظيمات التكفيرية بعد حرب حزيران عام 1967م وبلورة وجودها وشرعنته في أفغانستان على أيدي الأمريكان ضد التواجد السوفييتي منذ عام 1979م، وتنامي هذه التنظيمات بعد الحرب الأمريكية على العراق عام 2003م بالتعاون مع أجهزة أمنية دولية وإقليمية ومحلية، هو شاهدٌ اولٌّ لانتماء هذه التنظيمات ورؤاها إلى مرحلة ما قبل عام 2011م أي إلى تيارات الفكر السياسي وأنظمة الحكم السلطوية المذكورة آنفًا المنقادة إلى سياسات الغرب الرأسمالي، والساقطة في مستنقع الإنحطاط والجريمة السياسية. هذا مايؤكّده ظهور التنظيمات التكفيرية على سطح أحداث الثورة الراهنة في سوريا، وتناغم سياساتها مع سياسة نظام الأسد.

وإن شئت فهناك شاهدٌ إضافيٌّ على مانسوق، وهو ترابط التكفيريين مع قوى سياسية تقليدية دينية وعلمانية، والأمثلة كثيرة لكلّ متتبع للأحداث في الساحة السورية، ومكوّنات المجلس الوطني السوري وسياسات أركانه مثالًا، حيث تمّ إبعاد معظم شباب الحراك الثوري لمصلحة بضعة عشرات في أحزاب نفخت الثورة في روح قياداتها الميتة، لتجد نفسها متحالفة مع تنظيمات التكفير بوعي أو من دون وعي مفضيّة لتشكيلات سياسية بمواجهة هيئة التنسيق أو سواها التي دُفعت إلى لحظة التقاء مع السلطة ليصار، فيما بعد، إلى إضعاف الحراك السلمي لمصلحة ساسة متخلفين عن رؤى وروح الثورة يتجاذبهم طرفان، طرف السلطة من جهة، وطرف التيارات السلفية من جهة أخرى، وبالتالي موالاة طرف السلطة لداعميها وقبولهم مؤخّرًا بالغزو الروسي وقتله لشعبنا، بمقابل الطرف الآخر الذي توهم بتدخل أمريكيّ يوصلهم إلى السلطة.

وهذا لايعني أن كل من يقاتل تحت لواء التنظيمات الإسلامية التكفيرية هو تكفيريّ، ففي سوريا وضِع شباب الثورة في موقف على غاية من الصعوبة، فنظام السلطة الأسدية عمل على تجنيدهم في جيشه الطائفي ومؤسساته الأمنية لقتل أهاليهم وتدمير ممتلكاتهم وسرقتها، ولكنّ إرادة ثورتهم تقتضي الإمتناع عن تلبية أهداف نظام السلطة وتتطلب سعيًّا منهم على درب مقاومة شروره، وهذا يحتاج إلى مؤونة ومال وسلاح افتقدوا معظمها نتيجة عدم تلقيهم مساعدات كافية لهذه المواجهة، فارتضوا باستلام أسلحة من تنظيمات حتّى لو كانت تكفيرية، ليضمنوا لهم ولأهاليهم حقّ الحياة أولًا الذي يحاول نظام الأسد سلبهم إياه ببراميله وسجونه والأسلحة المحرّمة دوليًّا، وباستجلاب الغرباء ابتداءً من حزب الله والميليشيات الشيعية العراقية والإيرانية، وليس آخرًا استقدام الإحتلال الروسي لقتلهم مع أهاليهم وتدمير وطنهم، وهاهم يقاتلون، الآن، ضد الروس والإيرانيين وشيعة حزب الله والعراق وجيش نظام الأسد من وحيّ إرادتهم الذاتيّة والوطنيّة، وليس تنفيذًا لإرادات قيادات داعشية أو إخوانية أو علمانية أو سواها، وقطعًا: إنّ شباب الثورة السورية لو تمكنوا من الحصول على مساعدات عسكرية ومؤونة طبية وغذائية كافية سيعرفون كيف يحررون وطنهم من كلّ الأرجاس الداخلية والخارجية التي تتصارع على أرضهم.

ومن الحقائق التي أثبتتها وقائع خمسة أعوام انقضت أنّ التغيرات أضحت حقيقة ناصعة، وأن المرحلة السابقة انقضت من دون أسف عليها، وأن هذه الثورات هي العتبة المناسبة التي تعيد هذه الشعوب إلى فعاليّتها التاريخيّة، وهاهم أبناء الثورات يجدّدون أسئلة النهضة والحداثة والتجديد بغية فهم التاريخ وتفسير مجرياته وتأويل أحداثه الراهنة، استعدادًا لاستقراء الواقع من جديد، وصياغة عمليتي وعيّ العالم وتغييره على أسس التحضّر الإنساني الراهن، وإنما بدرب حداثية جديدة تضيف جديدًا للتاريخ الإنساني، مستمدّة من ثقافة أوطانهم التي تحمل خصوصيّة.

لاشكّ أن أنظمة سلطات الحكم في بلادنا التي استمدت وجودها من الغرب ذاته الداعم لها، هي من استعصى عليها تقبّل النظام الديمقراطي الذي سبق الغرب إلى تبني مرتكزاته، أمّا الشعوب التي كانت مغيّبة في سجون الأنظمة وفي مهاجرها القسرية وفي خبايا الفزع والخوف من أجهزة الأمن سيئة الصيت، فقد أثبتت ثورات الربيع العربي قدرة هذه الشعوب على ممارسة قيم الديمقراطية في ميادين وشوارع وجوامع وبيوت ثوارها، ولا شكّ أنّ من شارك في تلك الأحداث في سورية منذ عام 2011م يدرك كم كانت رائعةً ثورة شعب سورية العظيم، ويعي أيضًا إنّ إنجاز الديمقراطية لايتمّ بشعارات خاوية، بل من خلال الفعل الذي تجلّى على الأرض بالتقارب بين كلّ أطياف المجتمع السوري، فالمسيحي والدرزي والعلماني كانوا يؤدّون الصلاة بالجوامع سويّة مع أهل السنّة، نساء ورجالًا، ليخرجوا في التظاهرات السلمية التي تلقوا فيها رصاص شبيحة وجيش الأسد بصدروهم العارية. كما أنّ الإلفة وقبول الآخر واحترامه انبثقت بين شباب الثورة داخل بيوت كانت الأكثر تعصّبًا قبل الثورة، بل توقّف المدمنون عن المخدرات التي كانت منتشرة، والامتناع عن تجارة التهريب على الحدود اللبنانية، واختفاء السرقات وغيرها، إنّ السلوك السوي المتسامح والتوّاق للحرية كان من السمات البارزة في الأشهر الأولى من عمر الثورة، ثم نجد كيف اختلطت دماء السوريين على أيدي نظام الأسد ومخلّفاته مما دفعهم للتوحّد في حالة مجتمعية مأساوية واحدة، وأجبرهم للإختيار بين الهجرة القسرية عن بيوتهم وبلداتهم واحيائهم، أو الموت والتغييب، أوالإعتقال والإغتصاب والتعذيب. وماذكر آنفًا عن حراك الثورة السلمي هوغيضُ من فيض، وهي تؤكّد نزوع حراك الثورة لسلوك ينتصر للمثل والقيم الديمقراطية، ويبشّر بوجهة الثورة المدنية، ثمّ إنّ استثمار نتائج ثورة الاتصالات التكنولوجية للتواصل، وللاستعانة بخبرات الآخرين عبر العالم، والقدرة على نشر الآراء السياسية التي كانت حكرًا على وسائل الإعلام السلطوي قبل ثورة الاتصالات، أكّدت على امتلاك الوعيّ اللازم لتحقيق أهداف الثورة المتضمنة أيضًا رفضًا لسلوك أهاليهم الإذعانيّ والمتماهي مع فساد السلطة، وتجاوزهم لهم بكلّ جموح الثوار عبر التاريخ.

إنّ الثورة السورية أدّت إلى متغيرات في داخل البنية المجتمعية، التي فيما لو وّجه فعلها على درب التحرر والتقدم لأخرجت هذا الشعوب من أنفاق التخلّف والبؤس، وألحقتها بالحضارة الكونية للمساهمة في بنائها، وإن كانت الدول الغربية، لاسيما الأمريكية قد تدخلت في هذه الأحداث فهي تدخلت لإطفاء جذوة هذه الثورات المتقدة، وحرفها نحو دروب الصراعات العامودية التي لانهاية لها، وللحقّ أنّه لادور للغرب في انطلاقتها كما يحلو لأقطاب الفكر السابق ونظامه أن يتشدقوا به عبر آرائهم المسمومة.

لايزال مجتمعنا العربي، الذي تواقتت فيه خمس ثورات متتالية، في سنوات الحبو على دروب التغيير، بل لاتزال أسباب قيام هذه الثورات كامنة في بنيته، ولاتزال السلطات والقوى السياسية المنتمية للمرحلة السابقة عن عام 2011م تكابر وتعاند التاريخ متجاهلة حركته الصاعدة التي أضحى مقودها بيد قوى شبابية جديدة سرعان ماتجد الطرق الملائمة لتعبّر عن نفسها بأشكال مختلفة، كما إنّ التاريخ الذي أدار ظهره لتلك القوى القديمة المستبدّة الطائفية الفاسدة التفت الآن، نحو قوى شباب الثورة التي تشكّل وعيها وحركتها من داخل رحم المجتمع، وهي توّاقة للتغيير على درب الحق والحرية والكرامة، وبناء ماهدمته وتهدمه الأنظمة العربية وتيارات الفكر السياسي العربي التي لايزال أصحابها يورون في أقبية أفكارهم العقيمة.

وإذا كان ممثلو النظام الدولي المتجدد بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية يسعى إلى تشكيل وصياغة نظام إقليميّ جديد يناسب مصالحها مع حلفائها بمعزل عن مصالح شعوبنا، فإنّ صهيل شباب ثورات الربيع العربي وهديرهم ينبئ عن إصرارهم بإكمال درب التغيير حتى النهاية هذا من جهةٍ، ومن جهة أخرى فإذا كانت دول المنطقة تتدخل لترسيخ الأنظمة المتهالكة ونواتجها الداعشية وغيرها، فهي لاتتعدى كونها نافخ الصور المتماوت بجثامين طائفية ومجرمة على شاكلتها، فاطمئنوا فلن يسمح شباب الثورة بتنامي جثث اقترب زمن دفنها.

 كما أنّ مؤتمرات المسار السياسي المعارض المتلطيّ خلف حيطان الفنادق وفي أبهاء السفارات وزواريب ساسة النظام الدوليّ لن تتعدى أصوات مشايعيه جدران أمكنة لقاءاتهم، فشباب الثورة لاينصتون إلاّ لصوت الحقّ النابع من معاناتهم ودماء شهدائهم وعذابات أهلهم، وإلى أصوات أحلامهم بإنهاء السلطة ليبدأوا بناء وطنهم من جديد.

 نحن الآن بزمن تنهدم فيه البنى الاجتماعية والسياسية القائمة، التي رسخها الغرب منذ نهاية الحرب العالمية الأولى بتمكينه أنظمة حكمٍ كفلت له حماية مصالحه، وحدّي الصراع هما: شباب كان مغيّبًا يحاول بكلّ قوة رسم ملامح مصيره ومصير وطنه منذ خمس سنوات، وقوى سياسية وسلطوية أباحت الفساد والدمار والموت بحقّ شعبها، حتّى استحالت إلى جثّث هامدة تنشر بقايا رائحتها النتنة قبيل دفنها النهائيّ، هذا الزمن الذي ترتسم فيه معالم مرحلة تاريخية جديدة، الفاعل بها قوى شبابية ونسائية صاعدة تتلاقى مع تاريخ يبحث عن فعالية له، ليس مع من أدار له ظهره، بل مع قوى الثورة، وقد علّمتنا دروس التاريخ أن من يتسلّم قياد التغيير هو الثائر على الأبنية الاجتماعيّة المتخلفة المشبعة بالحيف والظلم والقهر والفقر.

وإن كنّا نجد بعض السياسات القديمة مهيمنة على المشهد، كما نرى مع الأكراد الذين يسعون لبناء كيان سياسي بظلّ الأجنبي، أو دغدغة عواطف علويي السلطة لإعادة مجد دولتهم العلوية التي أقامتها فرنسا وبقيت قائمة حتّى عام 1936م، لحظة التوجّه الوطني الذي قاده سوريون أوفياء لأهلهم ووطنهم، أو أوهام إيران أو تركيا بالهيمنة على المنطقة، أو تخيلات الساسة الإسرائليين بإضعاف المنطقة وتفتتيها ليسهل سيطرتهم عليها، فإنّ هذه السياسات لاتزال تعيش في أكناف الماضي الذي تجاوزته إرادة الثورة المنتصرة في نفوس شبابها، ولن يستجيب  التاريخ بحركته الصاعدة إلاّ بإرادتهم السياسية الواضحة كعين الشمس التي تتجه إلى توحيد شعوب المنطقة البائسة كإقليم ينهض من جديد على أنقاض القديم.

إن استشهاد وإعاقة مئات الألوف، واعتقال وتغييب وتهجير وتشريد الملايين من السوريين، وانشقاق وطرد أكثر من نصف القوى العاملة بالدولة السورية بما فيهم مؤسسة الجيش، وهدم أكثر من 60% من أبنية السوريين، إضافة إلى المذابح التي ارتكبها النظام بكل مايحمله من أحقاد على شعب طالب بالحرية والكرامة، هو حالٌ من الهدم يستدعي بناء جديدًا يغيّر كل معالم القديم الفاسد والطائفي والإجراميّ، أخيرًا وليس آخرًا إنّ ماوصل إليه اجتماع توحيد المعارضة السورية في الرياض هو نموذج لإنجاز ماتتطلبه مصالح اللاعبين الداخليين والإقليميين والدوليين المعادين للثورة والتغيير، والساعين لإخماد روح التحرر في نفوس شباب سورية، وقد أُلمح المقال إليهم آنفًا ابتداء من سلطة الأسد والقوى السياسية المحلية التقليدية، ودول المنطقة وأقطاب النظام الدوليّ، إنّ ماصدر عن ذاك المؤتمر هو غريب عن طموحات الثورة التي لن تنطفىء حتّى تحقيق مرامها، فقد طالب المجتمعون في الرياض بنظام حكم تعددي لامركزي لإرضاء نزعات التفتيت والتقسيم، وطالبوا بالحفاظ على مؤسسات الدولة بما فيها من المؤسسات الأمنية والعسكرية التي تقتل شعبنا يوميًّا إرضاء وتماهيًّا مع سلطة الأسد، وتعهدوا بمحاربة الإرهاب وفقًا لتعريف وتصنيف الدوائر الأمريكية وحلفائها للإرهاب، ولم ينس المجتمعون الضمانات الدولية والدعم من الشرعية الدولية التي لاتجد من تشرّع له إلاّ المستضعفين على الأرض تنفيذًا لإملاءات الولايات المتحدة التي توزّع أدوارًا للتابعين لها كتكليفها للروس بشنّ الحرب على السوريين وكالة عنها، أوترتيب مؤتمرات تملي على القيّمين عليها أجنداتها كمؤتمر الرياض.

وسوم: العدد 729