الأبعاد الاستراتيجية لتدخّل تركيا في إدلب

على غير ما سار عليه التدخل التركي في شمال حلب، بدا تدخّلُها في إدلب؛ وذلك أنّه غلب عليه البعد العسكري هناك، و أوكل أمره إلى الجيش بشكل مباشر، الذي لا يميل بطبعه إلى التأني في انتظار النتائج، فـالجهة المستهدفة " داعش "، قد تمّ التحضير للتعامل معها عسكريًا بالدرجة الأولى، ناهيك عن أنّ التمفصُّل بينها و بين الحواضن الشعبية كان جليًّا، و ظهر واضحًا أن الجيش التركي و الفصائل المشاركة معه، قد اتخذت قرارها في الحسم السريع، لدرجة أنّه لما حصل نوع من الاستعصاء في اقتحام مدينة الباب، ذهبت التوقعات إلى أنّه كان أحد العوامل في استبعاد تركيا من عملية الرقة.

في حين أنّ الأمر في إدلب مغايرٌ تمامًا؛ فالأمر فيها في عهدة المخابرات، و هيئةُ تحرير الشام، الجهة الممسكة بالأمور ميدانيًا، ليست على تمفصل مع الحواضن الشعبية، بالشكل الذي يسهل على الأتراك و الفصائل المساندة لهم استهدافها، ما عدا النواة الصلبة فيها " جبهة النصرة "، التي فضلت تركيا التعامل معها استخباراتيًا، من خلال اختراقها رأسيًا و أفقيًا، و جعلها في وضع حرج، في حال أقدمت على مناكفتها، و التصدّي لمشروعها، ضمن اتفاق " أستانا "، الذي لولا الضوء الأخضر فيه، لما كان بمقدور تركيا أن تجتاز الأسيجة التي أقامتها مع سورية.

إنّه في ظل اتفاق يتيح لتركيا الانخراط مجددًا في عمق الملف السوري، و نشر قواتها على تماس آخر مع المواطن السوري، فضلت ألاّ تبدأ الأمر بالصدام المسلح، سواء مع النصرة، أو مع مجاميع أخرى انساقت وراء الحملة العدائية، التي صوّرت تدخلها بالاحتلال، و إفشال الجهاد الشامي، و إطفاء لجذوة الثورة.

فعملت لمدة طويلة، ساورت فيها الشكوكُ نفوسَ المتابعين، على اختراق الأطراف المنضوية في الهيئة، من الفصائل المحلية غير المؤدلجة، التي رضخت للأمر الواقع، و أعلنت موافقتها على الانضواء تحت جناح النصرة، رغبةً و رهبة، و تمّ التنسيق معها على أن تبادر بالانشقاق عنها، في ساعة محددة، بحيث تقف النصرة وحيدة في وجه التدخل التركي، و هو أمر لا طاقة لها به، ليتمّ التعامل معها، بشتى الوسائل التي تجعلها تغيب عن المشهد، و تأتي عقبها الفصائل المحلية التي نسقت معها تركيا جيدًا، و لها ثأرٌ مع الجبهة، يجعلها متحمسة للمواجهة معها دونما هوادة.

و هو الأمر الذي أدركته النصرة، و وعت أبعاده و قدّرت مخاطره، فبادرت إلى العديد من الإجراءات التي حصّنت فيها " الهيئة " من التشظي، و أطلقت يد جهازها الأمني ليتعقّب كلّ من تراوده نفسه بالخروج عن قرارات قائدها الفعلي " أبو محمد الجولاني "، من غير تمييز بين شرعيّ، أو عسكري، و مهاجر، أو سوريّ.

 لدرجة أن الجولاني نفسه قد احتاط لذلك؛ فأتى بنفسه إلى قيادة الهيئة بدلاً من الشيخ أبي جابر، تحسُّبًا للمستجدات المقبلة، لدرجة أنّه شاع في أوساط الهيئة أنّ موضوع تحت الإقامة الجبرية، على الرغم من تداعيات ذلك على الملف السوريّ، من خلال تأكيد هيمنة تنظيم القاعدة على المشهد في إدلب، الذي يفخر الجولاني بالانتماء إليها.

لقد أرسلت تركيا من خلال، جهاز مخابراتها، الذي تولّى عملية الإعداد لتدخلها في إدلب، رسالة مفادها أنّ هذا الأمر سيتمّ لا محالة، و أنّه لدواعٍ أمنية تخصُّ أمنها القومي، فضلاً على مصالح السوريين التي تتلاقى معها، و أنّ مشروعها في التدخل بالتنسيق مع الروس و الإيرانيين، سيحافظ على وحدة الأراضي السورية، من خلال الرؤية المشتركة لهم في تقاسم المصالح، و ليس من خلال المشروع الأمريكي المؤدّي إلى التقسيم: إثنيًا، و طائفيًا.

و عليه فإنّها لن تتهاون في التعامل مع أيّة جهة تحول دون ذلك، و هي الرسالة التي وصلت إلى الجولاني في أكثر من لقاء عقد مع المخابرات التركية، على مدى الأسابيع المنقضية بعد " أستانا 6 "، و من خلال مندوبه الذي حضر إلى مكتب أبي الفرقان، و تبلّغ منه الرسالة بغاية الوضوح؛ فبادر إلى الاستدارة السريعة، و هو المعروف بشخصيته البراغماتية.

فأوعزت تركيا إلى الفصائل بالتحلّي بالصبر، إلى حين تكشّف جدية الخطوات التي ستقوم، فعقدت مع الهيئة اتفاقًا لم تتكشف تفاصيله بعد، لدرجة أن الأخيرة طلبت من عناصرها مرافقة الأرتال التركية، جيئة و ذهابًا إلى حيث تريد ضمن منطقة خفض التصعيد الرابعة، غاضةً الطرف عن كثير من الحرج الذي أوقعت نفسها، بعد سيل من الفتاوى و التوعدات لمن يطأ أرض سورية من الجيش التركي العلماني، و عناصر الفصائل المرتدين.

إنّ ما سبق ليؤشِّر ـ بحسب ما يرى كثيرٌ من المراقبين ـ إلى أن تركيا ستنشر قواتها في المناطق المتفق عليها، مع الأطراف الضامنة في " أستانا "، في وقت غير بعيد، و ستسعى إلى إعادة الأمور إلى نصابها في إدلب، بعيدًا عن كثير من المزايدات، و ستطلب من الفصائل أن تنشر عناصرها كقوى أمن داخلي، و ستؤهّل المؤسسات و المراكز الحيوية لإعادتها إلى سابق عهدها، و ستجعل المنطقة تنعم بمزيد من الاستقرار، و الرخاء، على غرار ما كان في مناطق شمال حلب؛ لأنّها في ذلك أمام اختبار من الأوربيين، الذين ينظرون إلى تدخلها بعين المصالح، حيث سيعيدون بالتنسيق معها أكثر من مائتي ألف لاجئ، لم يتمّ قبولهم في دولهم، و هي ستقوم أيضًا بإعادة أكثر من مائة ألف لم يتمّ دمجهم عندها.

 و حتى يكون ذلك لا بدّ من تأهيل إدلب كي تستوعبهم، لا بلْ هي في تحدٍّ مع أمريكا في نجاح تحركها، بعدما قبلت التحدّي في انزياحها نحو الروس عسكريًا و اقتصاديًا، و الإيرانيين بحجم تبادل تجاري يربو على الثلاثين مليار دولار، و بالعملات المحلية، إلى جانب مستجدّات الملف العراقي عقب استفتاء كردستان العراق على الانفصال.

وسوم: العدد 743