الحالّ المرتحل

[ باختصار من مقال للدكتور سلمان العودة ]

حينما جلس على مقعد الطائرة، تزاحمت عليه وجوه أفراخه، تتوسل إليه ألا يطيل الغياب، ورنّت في أذنه ضحكات بريئة لصغار، ووجوم حزين لكبار، وتداعت إلى خياله معاتبات وحركات صادقة، هي عنده سرّ من أسرار الوجود.

مسافر جوّاب، تعوّد أن يرتاد الفضاء، ويصفق بجناحيه في الهواء، ولو لم يستطع فالشوق يحدوه:

إنّ الطيور وإن قصصت جناحها      تسمو بفطرتها إلى الطيران

الترحال دأبه، يتفرّس الوجوه، ويتملى الملامح، وينظر في الآفاق، ويتأمل في الأخلاق، ويجدد الأفكار، ويستشعر الحرية التي جُبل عليها.

يحبّ الغرباء ويأنس بهم، لأنه يعدّ نفسه غريباً مثلهم، يحب العفوية والبساطة والوضوح والصفاء، ويكره اللغة الممسوسة بالتحليل والتفسير والاستبطان، المولعة بقراءة المقاصد والنوايا وملء الفراغات بما تشتهي.

حتى في عبادته، قد يفقد في سفره صوت الأذان، وصلاة الجماعة، ولكنه يجد قلبه وروحه أكثر: (إنّ ناشئةَ الليل هي أشدُّ وطئاً وأقومُ قيلاً). {سورة المزمل: 6}.

اغتنــم ركعـتين زُلـفى إلى الله إذا كنت فارغـــــاً مســــتريحا

وإذا ما هممت بالقول في الباطل فاجعل مكانه تسبيحا

العالم اليوم لم يعد قرية كونية، أصبح جهازاً بحجم راحة اليد، فيه المدرسة والقناة والسوق والأسرة والمؤسسة والخيارات الهائلة المتنامية لحظة لحظة، والعلاقات المؤثرة.

في ظل هذا الفيض المعرفي الضخم، أصبحت تجد الناس جميعاً أو تكاد، المتعلم والجاهل، والصادق والخؤون، والصافي والمكدر، والمحب والشانئ، والهادئ والعجول، وكلهم يعبّرون، ويجدون من يقرأ لهم ويسمع، ويوافق أو يخالف.

ستجد المؤمن الحق الذي يتعبد ربه بكلمته الطيبة، ويسعى في الخير، ويقدم الأسوة الحسنة.. وتجد الملحد الذي يهزأ بالمقدسات ويتجرأ على حدود الله، ويسخر من الأنبياء، ويتنكّر للأديان..

وكل مُيسّر لما خُلق له، وكل الناس يغدو في هذا العالم الافتراضي؛ فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.

المتعة بالتغيير، ولو مؤقتاً، طبع إنساني، وحين قال بنو إسرائيل: (لن نصبرَ على طعامٍ واحدٍ). {سورة البقرة: 61}، قال الله لهم: (اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم). {سورة البقرة: 61}.

تنويع المساكن وتنويع المطاعم، وقال هنا: (مِصْراً) بالتنكير، أي: اهبطوا أي مصر وأي بلدٍ فستجدون فيه ما سألتم.

أما هموم أمته وأهله فهي معه لا تريم ولا تنتقل، يتابع جديدها ويتداعى فرحاً وسروراً، أو حزناً وهماً، على تحوّلاتها وأحداثها، ويعبّر عن انتمائه الصادق بمؤشر القلب الذي يفرح ويحزن بحسب حالها:

فإن رآها على خير بكى فرحاً      وإن رآها على سوء بكى ألماً

ويتعامل مع ربه بمنطق "الطمع"؛ فكلما حقّق الله أمنية أو ختم بخير أو غيّر ما لم يكن في الحسبان، تحركت الهمة إلى موقع آخر يعاني الناس فيه ما يعانون من الخسف والقتل والإبادة، وتضرّع القلب إلى باريه ضراعة المضطر أن يكشف الكروب ويجمع الشمل ويجعل العواقب كلها إلى خير.

وسوم: العدد 1039