البحار وتاجر اللؤلؤ

يحكى أنه كان في مدينة البصرة بحار كنيته أبو الفوارس ، وأنه كان رئيس بحارتها ؛ لأنه رسا بسفينته في كل موانىء المحيط العظيم . وفي يوم ، بينا كان يجلس على شاطىء البحر محاطا ببحارته ، قدم عليهم شيخ في سفينة ، ورسا حيث يجلس أبو الفوارس ، وقال : أيها الصديق ! أريد أن تعطيني سفينتك ستة أشهر ، وسأعطيك ما تريد .

فقال أبو الفوارس : أريد ألف دينار ذهبا .

فأعطاه الشيخ الذهب في اللحظة ، وقال قبل أن ينصرف إنه سيرجع في الغداة ، وحذر أبا الفوارس من النكوص عن الاتفاق . وأخذ أبو الفوارس الذهب إلى بيته ، وجهز سفينته ، وودع زوجته وأولاده ، ويمم الشاطىء ، فألفى الشيخ ينتظره مع عبد وحمولة عشرين حمارا من الأكياس الفارغة . فحياه أبو الفوارس ، وحملوا الأكياس في السفينة ، ومضوا بها . ساروا مبحرين ثلاثة أشهر يهديهم نجم خاص إلى أن لاحت لهم جزيرة على جانبهم ، فانتحاها الشيخ ، ورسوا على شاطئها . وحمل الشيخ عبده بعض الأكياس ، ومضى مع رفاقه إلى جبل تراءى لهم نائيا ، فبلغوه بعد ساعات ، وارتقوا قمته ، فرأوا سهلا رحيبا حفر فيه أكثر من مائتي بئر ، وعندئذ أنبأ الشيخ أبا الفوارس أنه تاجر ، وأنه اكتشف في السهل حيث الآبار منجم جواهر ،

وتابع : وأتوقع منك الوفاء بعد أن وهبتك ثقتي . أريد منك الآن أن تهبط هذه البئر ، وترفع من اللآلىء ما يكفي لملء هذه الأكياس ، وسأهبك نصفها ، وسيساعدنا هذا على أن نحيا بقية عمرنا مرفهين ناعمين .

فسأله أبو الفوارس عن كيفية وصول اللآلىء إلى هذه الآبار ، فأجابه بأن ثمة ممرا يصلها بالبحر ، وأن المحار سبح في هذا الممر حتى استقر فيها ، وأنه عثر عليها صدفة ، وزاد فقال إنه إنما جاء به لرغبته في أن بساعده إلا أنه لا يريد كشف هذا السر لأي إنسان آخر .

فهبط أبو الفوارس البئر في حماسة عظيمة ، فوجد فيها عددا كبيرا من المحار ، ، وأنزل إليه الشيخ سلة ، ملأها مرارا باللآلىء إلى أن هتف الشيخ معلنا أن المحار ما عاد نافعا بعد نفاد ما فيه من اللآلىء ، فغادر أبو الفوارس تلك البئر ، وهبط بئرا ثانية وجد فيها عددا كبيرا من اللآلىء ، . وما أن جن الليل حتى كان الإنهاك استولى عليه ، فهتف بالشيخ أن يساعده في مغادرة البئر ، فرد عليه بأنه سيتركه فيها لخوفه أن يقتله من أجل الجواهر ، فصرخ أبو الفوارس بكل قواه مؤكدا براءته من هذه النية ، فصم الشيخ سمعه عن توسلاته ، وعاد إلى السفينة ، وأبحر بها مبتعدا . ولبث أبو الفوارس في البئر ثلاثة أيام جائعا عَطِشا ، واصطدم في محاولته إيجاد مخرج منها بعظام  بشرية كثيرة ، فاستخلص أن الشيخ اللعين غدر بكثيرين بنفس الطريقة . وأخذ يحفر يائسا حوله ، فرأى في النهاية فتحة صغيرة في جدار البئر ، وسعها بيديه ، فاتسعت بسرعة اتساعا أقدره على الزحف خلالها ، فوجد نفسه في ظلمة وفي وحل ، فسار حذرا ليغرق فجأة حتى عنقه في ماء مالح ، فأدرك أنه الآن في الممر الذي يقود إلى البحر ، فسبح فيه مسافة حتى بزغ قبالته ضوء واهن ، فتشجع وسبح بقوة حتى بلغ مخرج الممر ، فارتمى على وجهه شاكرا الله _ سبحانه _ على خلاصه من محنته . ونهض ، وعلى مدى قريب منه وجد العباءة التي خلفها حين سار إلى الجبل ، أما الشيخ فلا أثر له ، وأما السفينة فاختفت  . وجلس قرب الشاطىء زاخر النفس قلقا ويأسا  لا يدري ماذا يفعل . ولمح خلال تحديقه في البحر سفينة مثقلة بالركاب ، فوثب من مجلسه ، ونزع عمامته ولوح بها بكل ما في بدنه من قوة ، ونادى بأعلى صوته . وعند دنو ركاب السفينة منه عزم ألا يخبرهم بسبب وجوده في المكان ، ومن ثم فحين سألوه عن هذا السبب قال لهم إن سفينته تحطمت في البحر ، وإنه تشبث بلوح خشبي ، وإن الموج جرفه إلى شاطىء هذه الجزيرة ، فأثنوا على طيب حظه في النجاة ، وأجابوه عن سؤاله حول الجهة التي قدموا منها بأنهم من بلاد الحبشة ، وأنهم في سبيلهم إلى بلاد الهند ، هنالك تردد أبو الفوارس وأخبرهم أنه لا شأن له في بلاد الهند ، فطمأنوه بأنهم سيقابلون في طريقهم سفنا قاصدة البصرة  ، وأنهم سيسلمونه إلى إحداها ، فوافق على مصاحبتهم . وأبحروا أربعين يوما دون أن يروا أي بقعة مأهولة ، فسألهم إن كانوا ضلوا السبيل ، فأعلموه أنهم منذ خمسة أيام من أيام الرحلة الأربعين لا يعرفون أين يتجهون ، وأي اتجاه يجب أن يتبعوا ، وكان أن راحوا جميعا يبتهلون إلى الله _ سبحانه _ سائلين الهدى والنجاة ، ولبثوا حينا في ابتهالهم . وبعد إبحارهم من جديد بقليل ، برز أمامهم شيء في البحر يشبه مئذنة ، وبدا لهم أنهم لمحوا ضوء مرآة صينية ، ولاحظوا أيضا أن سفينتهم بدأت تسرع كثيرا دون أن يجدفوا ، ودون أي زيادة في قوة الريح ، فسارعوا في دهشة عظيمة يسألون أبا الفوارس عما جرى للسفينة حتى تسير بهذه السرعة المفاجئة ، فرفع عينيه ، وتأوه عميقا حين رأى على البعد جبلا يرتفع في البحر ، وصفع عينيه بكفيه ، وهتف : سنهلك جميعا !

حذرني أبي دائما أنني يجب أن أتجه شرقا إذا ضللت سبيلي في البحر ؛ لأنني سأقع في فم الأسد إذا اتجهت غربا ، وأجابني حين سألته عن كنه فم الأسد هذا بأن الله _ سبحانه _ خلق هوة عظيمة في قلب المحيط في ظل الجبل ، هي فم الأسد ، وأنها تجذب السفينة من مسافة تزيد على مائة فرسخ ، وأنه ما من سفينة وصلت الجبل وظهرت بعد ذلك ، وأحسبنا الآن في مكان الخطر ، وأننا في الفخ .

وذعر البحارة وهم يرون سفينتهم تنجرف في سرعة الريح إلى الجبل لتقع فورا في دوامة حيث يدور التيار حاملا حطام عشرة آلاف سفينة عتيقة . وتزاحم بحارة السفينة وتجارها حول أبي الفوارس يرجونه أن يرشدهم إلى ما عساهم يفعلون ، فجأر يأمرهم بإعداد كل ما لديهم في السفينة من حبال ليخرج سابحا من الدوامة إلى الشاطىء في ظل الجبل ليربط حبلا منها في شجرة ضخمة هناك ، وعليهم عندئذ رمي حبالهم إليه ، وبهذا يستطيع إنقاذهم من  الخطر المحيط بهم . ولعظم حسن حظه قذفه التيار إلى الشاطىء حيث ربط حبلا في الشجرة الضخمة ، ثم ، وبالسرعة المتاحة ، ارتقى قمة الجيل بحثا عن طعام ؛ إذ لا هو ولا رفاقه في السفينة طعموا شيئا منذ أيام . حتى إذا صار في القمة رأى سهلا بهيجا ينداح أمامه ، ورأى وسطه قوسا سامقا من حجر أخضر ، وحين قاربه ودخله رأى عمودا مديدا من الصلب تعلقت فيه بسلسلة طبلة ضخمة من البرونز الدمشقي يكسوها جلد أسد ، وتتعلق بالقوس أيضا لوحة كبيرة نقش عليها ما يأتي : " اعلم يا من  تصل إلى هذا المكان أن الإسكندر حين طاف حول العالم  ووصل إلى فم الأسد كان على علم أنه مكان محنة ، ومن ثم اصطحب معه أربعة آلاف حكيم ، فاستحضرهم وكلفهم بتزويده بوسائل النجاة منه ، وفكر الحكماء طويلا في الأمر ، وفي النهاية اقترح أفلاطون صنع هذه الطبلة ، فإذا وقع إنسان في هذه الدوامة يصبح في وسعه دق الطبلة ثلاث مرات ، فتطفو سفينته الغارقة إلى السطح " ، فأسرع أبو الفوارس بعد قراءة النقش إلى الشاطىء ، وأخبر رفاقه به ، وقرر بعد نقاش طويل معهم أن يغامر بحياته ويبقى في الجزيرة ليدق الطبلة شرط أن يرجعوا إلى البصرة عند نجاتهم ، ويعطوا زوجته وأولاده نصف الكنز الذي معهم ، وأخذ عليهم ميثاقا غليظا بفعل ذلك ، وعاد إلى القوس ، والتقط عصا ، ودق الطبلة ثلاثا ، وما أن انداح صداها المهول بين التلول حتى اندفعت السفينة من قلب الدوامة اندفاعة السهم من قوسه ، فصاح البحارة يودعون أبا الفوارس وداع الأبد قاصدين البصرة حيث أعطوا أسرته نصف الكنز . وحزنت زوجته وأولاده حزنا عظيما لفقده ، أما هو ، فعاد إلى قمة الجبل ثانية بعد ما نام نوما مريحا عند القوس ، وحمد الله على استبقائه حيا . وشاهد خلال مضيه في السهل دخانا أسود يتصاعد فيه ، وكان في الوادي جداول جاز بتسعة منها ، وكان على شفا الموت جوعا ولغوبا حين لمح فجأة مرجا في جانبه ، ترعي فيه قطعان الشياه ، فشعر بالفرح لظنه أنه وصل أخيرا إلى بشر . ولاحظ وهو يدنو من الشياه أن معها شابا في سموق الجبل يتدثر بعباءة بالية من اللباد الأحمر ، ويغطي كامل جسمه درع حديد ، فحياه ورد الشاب التحية ، وسأله : من أين قادم ؟!

فأجابه أبو الفوارس بأن بلاء أصابه ، وحدثه عن مغامراته ، فاستمعها ضاحكا ، وقال : عد نفسك محظوظا لنجاتك من تلك الهاوية . لا تخشَ شيئا الآن ! سأذهب بك إلى قرية .

وبعد ما قال ذلك قدم إليه خبزا وحليبا ، وطلب منه الأكل ، وبعد الأكل قال له : لا تستطيع البقاء هنا كل النهار ، سأذهب بك إلى بيتي لتستجم حينا .

ونزل الاثنان إلى أدنى الجبل حيث تقوم بوابة يسدها حجر هائل يعجز مائة رجل عن رفعه إلا أن الراعي دس يده في فتحة فيه ، وأزاحه عن البوابة ، وأمر أبا الفوارس بالمضي ، وأعاد الحجر إلى موضعه ، وتابع بدوره سيره . وما جاز أبو الفوارس البوابة حتى رأى بستانا مثقلا بالثمار ، يتوسطه كوخ ، قدر أنه مسكن الراعي ، فدخل وتلفت حوله من فوق سطحه إلا أنه لم يرَ أي إنسان في المكان مع كثرة المساكن ، فنزل وسار إلى أدنى مسكن ودخله ، وبعد اجتيازه عتبته وجد عشرة رجال عراة سمان بلغ من سمنهم أن عيونهم كانت شبه مغمضة ، وكانوا يبكون في حرقة ورؤوسهم مائلة على ركبهم ، فرفعوا تلك الرؤوس حين سمعوا صوت خطاه ، وصاحوا : من أنت ؟!

فأخبرهم أن الراعي جاء به ، وأنه عرض عليه استضافته ، فلما سمعوا كلامه صرخوا صرخة مدوية ، وقالوا : هاهو تعيس آخر وقع مثلنا في قبضة هذا الوحش ! إنه مخلوق حقير كريه يتظاهر بأنه راعٍ ، ويطوف المنطقة ، ويصيد الناس ويفترسهم . معشرنا تجار ساقتنا الرياح العاتية إلى هذا المكان ، فصادنا الشيطان ، ويبقينا هنا بنفس الطريقة .

فتأوه أبو الفوارس متوجعا ، وعلم أنه ضلل . وعندئذ رأى الراعي يقدم ، ويدخل الشياه في البستان ، ويغلق البوابة بالحجر ، ويلج الكوخ . كان يحمل حقيبة مليئة باللوز والتمر والفستق ، فاقترب منهم ، وأعطاها أبا الفوارس ، وأمره بتقاسمها معهم ، فلم يستطع أبو الفوارس قول شيء ، وتقاسم ما فيها معهم . وبعد ما طعموا رجع إليهم الراعي ، وأخذ بيد أحدهم ، وذبحه أمامهم ، وشواه والتهمه حتى إذا شبع أخرج زق خمر ، عب منه فثمل ونام .

فالتفت أبو الفوارس إلى رفاقه ، وقال : مادمت سأموت دعوني أحطمه ! وسأحطمه إن أعنتموني .

فأجابوه بأنهم ما عاد بهم قوة إلا أن أبا الفوارس حين رأى السيخين الطويلين اللذين شوى عليهما الغول لحم فريسته ؛ سخنهما فوق النار حتى احمرا احترارا ، وغرزهما بقوة في عيني الغول ، فصرخ صرخة هائلة ووثب ، وحاول الإمساك بمعذبه أبي الفوارس الذي قفز وراغ منه ، فعدا الغول إلى الحجر ونحاه جانبا ، وراح يخرج الشياه واحدة واحدة بأمل إن يؤدي إخلاء البستان منها إلى القبض على أبي الفوارس ، وفهم أبي الفوارس قصد الغول ، فعاجل بذبح شاة ، ولبس جلدها ، وسعى لاجتياز البوابة إلا أن الراعي الغول فهم فورا أن المجتاز ليس شاة ، فاندفع يتعقبه ، فخلع أبو الفوارس الجلد ، وعدا في سرعة الريح ، وبلغ البحر فورا ، وغاص فيه ، ورجع الراعي بعد خطوات قليلة في الماء لعجزه عن السباحة . وسبح أبو الفوارس مفعم القلب بالرعب حتى آل إلى الطرف الآخر من الجبل حيث لقي شيخا حياه ، وبعد استماعه مغامراته أطعمه وصحبه إلى منزله . وارتعب أبو الفوارس حالا حين أدرك أن الشيخ أيضا غول ، فأخبر زوجته بدهائه العظيم أن لديه وسائل كثيرة يمكن أن ينفع بها البيت ، فأقنعت زوجها بالمحافظة عليه . وعقب أيام ، أُرسِل ليكون في حفظ راعٍ ، وهناك كلف بحراسة الشياه . وتابع تخطيطه للفرار إلا أنه لم يكن أمامه سوى طريق واحد خلال الجبل ، وكان هذا محروسا حراسة مشددة . وعثر يوما خلال طوافه بإحدى الغابات على مخزون من العسل في تجويف ساق شجرة ، فأخبر زوجة الغول به عند رجعته إلى المنزل ، فأرسلت زوجها تالي يوم مع أبي الفوارس لجلب بعض ذلك العسل إلا أن أبا الفوارس انقض عليه في الطريق ، وقيده في شجرة ، وأخذ خاتمه ورجع إلى المنزل ، وأخبر الزوجة أن زوجها أذن له بالرحيل من لدنهما ، وأنه أرسل خاتمه هذا علامة على الإذن ، لكن الزوجة كانت داهية فسألته : لمَ لم يأتِ زوجي ويخبرني هذا بنفسه ؟!

وأمسكت عباءته وأخبرته أنها ستذهب معه للتوثق بنفسها من الأمر إلا أن أبا الفوارس عزم أن يحرر نفسه بنفسه ، فأبق إلى البحر ثانية حيث يعتقد نجاته من الموت ، وسبح مرعوبا ساعات حتى لمح سفينة موقرة بركاب قصدوه ، وحملوه معهم ، وسألوه في أشد العجب عن كيفية مجيئه هذا المكانَ ، فروى لهم مغامراته .

ومن عظم حسن الحظ أن ربان السفينة كانت له مهمة في مكان واحد فحسب على الشاطىء ، ومن هناك سيبحر إلى البصرة . وهكذا ، بعد شهر ، رجع أبو الفوارس إلى أسرته الأمر الذي أفرحها كلها . وتسببت الأخطار وصنوف المقاساة الجمة التي واجهها في تشييب شعره . واستجم أياما عديدة بعد رجعته ، ثم ، في يوم ، في تنزهه على الشاطىء ، رأى الشيخ الذي استأجر سفينته يوما ، وعرض عليه الشيخ دون أن يتعرفه استئجارها ستة أشهر ، فوافق أبو الفوارس مقابل ألف دينار ذهبا ، دفعها الشيخ من فوره ، وقال إنه سيأتي في الغداة في مركب تأهبا للرحيل . وبعد انصرافه أخذ أبو الفوارس المال إلى زوجته ، فطلبت منه أن يحذر تعريض نفسه ثانية للخطر ، فأجابها بأنه سيثأر لا لنفسه فقط ، بل لألف مسلم ذبحهم هذا الشيخ الشرير . ولهذا صحب على السفينة في اليوم التالي الشيخ وعبدا أسود ، وأبحرا ثلاثة أشهر حتى وصلا ثانية إلى جزيرة اللآلىء ، وارتقيا الجبل حاملين الأكياس . ولما وصلا إلى القمة طلب الشيخ من أبي الفوارس ما طلبه سالفا ، أي أن يهبط الآبار ويرسل اللآلىء ، فقال أبو الفوارس إنه يجهل المكان ، وإنه يفضل أن يهبطها الشيخ قبله لبرهنة خلو المكان من الخطر ، فرد الشيخ بأنه ما من خطر فيه البتة ، وأنه ما آذى في حياته حتى نملة ، وأنه ما كان ليرسل أبا الفوارس إليها لو كان فيها أي خطر ، فعانده أبو الفوارس ، وقال إنه لن يقوم بالمهمة ما لم يعرف سلفا كيف يقوم بها .

وكان أن طلب الشيخ ، في تردد كبير ، إنزاله إلى أول بئر بسلة وحبل ، فملأ السلة محارا وأرسلها صائحا : ها أنت ترى أنه لا شر في هذه البئر . ارفعني الآن ! أنا شيخ وما عاد بي قوة .

فرد أبو الفوارس : ما دمت في البئر فالأفضل أن تبقى حيث أنت لتتم مهمتك ، وغدا سأهبط  بنفسي بئرا أخرى ، وأرسل لآلىء كثيرة تملأ سفينة .

وامتد عمل الشيخ وإرساله اللآلىء ، وأخيرا صاح ثانية : يا أخي ! أنهكني العمل تماما ، ارفعني الآن !

فتوجه إليه أبو الفوارس غاضبا ، وصرخ : كيف تشعر بمعاناتك ولا تشعر بمعاناة غيرك يا كلب يا بن الحرام ؟! أنت أعمى حتى لا تعرفني ؟! أنا أبو الفوارس ، البحار الذي تركته منذ زمن بعيد في إحدى هذه الآبار ، فنجاني الله _ تعالى _ بلطفه وعطفه ، والآن دورك ، افتح عينيك على الحقيقة ، وتذكر ما فعلت بكثير من الرجال !

وجأر الشيخ مسترحما مستعطفا ، لكن جؤاره لم ينفعه شيئا ، فابو الفوارس جلب حجرا كبيرا سد به فم البئر ، وهدد العبد كثيرا إن باح بشيء . وحمل كلاهما اللآلىء إلى السفينة ، وأبحرا بها ، ووصلا البصرة بعد ثلاثة أشهر حيث روى أبو الفوارس مغامراته للناس ، فأدهشت الكل . وبعدها هجر البحر ، ومال إلى حياة الدعة حتى مات . وهذه القصة تذكار له ، والله _ سبحانه _ أعلم .

*من التراث الفارسي من كتاب " الدراويش الثلاثة " .

*عن النسخة الإنجليزية لكتاب " أعظم قصص البحر في العالم " .

وسوم: العدد 824