سلة غذاء سورية أصبحت صحراء

وسوء التخطيط دفن قرىً في الرمال

روبرت وورث

نيويورك تايمز

رسم تقرير نشرته النيويورك تايمز صورة قاتمة للأوضاع في الجزيرة السورية، التي تعاني من جفافٍ قاسٍ منذ سنوات. ونسب التقرير لمقرّر لجنة حقّ الغذاء في الأمم المتحدة قوله إن "سكّان المنطقة الشمالية الشرقية فقدوا حوالي 85% من مواشيهم، وعلى الأقل 1,3 مليون إنسان قد تأثروا بذلك". ويشير التقرير إلى أن التخطيط السيّئ كان سبباً رئيسياً لتفاقم المشكلة، وأن سورية صرفت 15 بليون دولار على مشاريع ريّ فاشلة بين العامين 1988 و2000 لم تحقق نتائج تذكر.

وإن انهيار الزراعة في هذه المنطقة نتج في الغالب عن سوء إدارة بشرية للجفاف، الذي أصبح يشكّل تحدّياً اقتصادياً مريعاً وهاجساً أمنياً للحكومات السورية. ويشير كاتب التقرير إلى أن الجفاف أصبح موضوعاً حساساً عند الحكومة السورية التي لا تجيز للصحفيين الأجانب الكتابة عنه، ولا تسمح بالوصول للمسؤولين في وزارة الزراعة.

الأراضي الزراعية الممتدة شمال وشرق نهر الفرات والتي كانت سلّة غذاء هذه المنطقة، تتنوع بين حقول القمح الذهبية وقطعان الخراف البلدية.

الآن، بعد أربع سنوات من الجفاف المتواصل في هذا الهلال الخصيب -متضمّناً معظم العراق المجاور- يلوح هنا تحوّل قاحل. علماء مناخ يقولون: إن أنظمة الريّ القديمة انهارت، المياه الجوفية نضبت، ومئات القرى توقفت فيها الزراعة ونفقت ماشيتها وتحوّلت لصحراء قاحلة، العواصف الرملية أصبحت أكثر شيوعاً، واستشرت مخيّمات متنوعة حول المدن الكبرى في سورية والعراق.

"كان عندي 400 هكتار من القمح والآن أضحت كلّها صحراء" يقول أحمد عبد الله، 48 سنة، مزارع بثياب رثّة يعيش في خيمة بلاستيكية مع زوجته و12 ولداً، إلى جانب العديد من المهجرين؛ "لقد اضطررنا للهروب، نحن الآن تحت الصفر- لا مال، لا عمل، لا أمل".

إن انهيار الزراعة هنا -الذي هو غالباً سوء إدارة بشرية للجفاف- أصبح يشكّل تحدياً اقتصادياً مريعاً وهاجساً أمنيّاً للحكومات السورية والعراقية. التي أصبحت تعتمد بشكل أكبر على بلدان أخرى في قضيتي الماء والغذاء.

سورية التي كانت تفاخر باكتفائها الذاتي بل وكانت تصدّر القمح، الآن تستورد كمّيات متزايدة منه، هبطت مصادر المياه إلى النصف بين عامي 2002 و2008، وذلك بسبب الهدر وسوء الاستعمال، العلماء ومهندسو المياه يقولون: بالنسبة لسورية التي تعاني من نقص في الاحتياطات النفطية، وتكافح من أجل جذب الاستثمارات الأجنبية، تشكّل الأزمة الزراعية ضغطاً إضافياً على الحكومة وخاصة لأنها تحدث في منطقة تمركز الأقلّية الكردية المتململة.

العراق الذي دمّرته الحرب يواجه الآن أزمة ماء في الشمال وفي الجنوب، كما لم يحدث في تاريخه. كلا البلدين يشتكي من نقص جريان مياه نهر الفرات، والفضل يعود لمشاريع السدود المقامة على طول النهر في تركية والتي قد تسبّب المزيد من التوتر كلّما تفاقمت أزمة المياه.

أربع سنوات من الجفاف رمت مليونين إلى ـثلاثة ملايين سوري في براثن الفقر المدقع، طبقاً لدراسة أجراها هنا هذا الشهر، مقرّر لجنة حق الغذاء في الأمم المتحدة، أوليفر دي شاتر: إن سكّان المنطقة الشمالية الشرقية فقدوا حوالي 85% من مواشيهم، وعلى الأقل 1,3 مليون إنسان قد تأثروا بذلك.

يقول السيد دي شاتر: هناك أكثر من خمسين ألف أسرة هاجرت من المناطق الريفية هذا العام، إضافة لمئات الآلاف هاجروا في السنوات السابقة. سورية، مع تزايد سكاني سريع، جاهدت لإسكان أكثر من مليون نازح عراقي منذ غزو 2003.

"إنه لمن دواعي السخرية أن تكون هذه المنطقة هي أصل الحنطة والشعير، والآن هي بين أكبر المستوردين لهما هذه الأيام" يقول رامي زريق، أستاذ علم الزراعة والغذاء في الجامعة الأميركية في بيروت، والذي ألّف بدوره كتاباً عن أزمات الزراعة.

الجفاف أصبح موضوعاً حساساً عند الحكومة السورية التي لا تجيز للصحفيين الأجانب الكتابة عنه، ولا تسمح بالوصول للمسؤولين في وزارة الزراعة.

على الطريق المتجه جنوباً من دمشق، يمكن أن ترى المخيمات التي يعيش فيها المزارعون النازحون والرعاة، لكن المداخل مراقبة من قبل عناصر الأمن السوريين الذين لا يسمحون للصحفيين بالدخول.

الجفاف حدث مراراً هنا، ولكن "المناخ المحلّي يتغير بشكل واضح جداً" تقول جين سوير، أستاذة في جامعة نيوهامشير، كتبت عن قضايا مناخ الشرق الأوسط. "سواء أكان التغير المناخي بسبب بشري أم بغيره فإن المنطقة تزداد حرارةً وجفافاً، مترافقة مع أمطار غزيرة شاذة، مع فيضانات في بعض الأنحاء، بالإضافة إلى أن الحكومات غير مستعدة جيداً، كل هذا سوف يدفع الناس للهجرة".

الحكومة السورية بدأت تقرّ بحجم المشكلة ووضعت خطّة وطنية لمواجهة الجفاف، لكنها لم تنفّذ بعد. هكذا يقول محلّلون!

التخطيط السيّئ بشكل رئيسي- ساعد على تفاقم المشكلة، سورية صرفت 15 بليون دولار على مشاريع ريّ فاشلة بين العامين 1988 و2000 وبنتائج متدنية. يقول إيلي الحاج، مؤلّف سوري المولد، أعدّ أطروحة دكتوراه عن الموضوع. سورية مستمرة بتنمية زراعة القطن والقمح في مناطق تشحّ فيها المياه -ممّا يفاقم الجفاف- وذلك لأن الحكومة تعتبر أن قدرتها على إنتاج هذه المحاصيل جزء من هويتها وحصن ضدّ الاعتماد على الأجنبي، كما يرى محلّلون.

الآبار غير الشرعية يمكن رؤيتها في سورية والعراق، وشبكات ريّ تحت أرضية بمعدل "مخيف حقاً" كما يقول السيد دي شاتر، خبير الأمم المتحدة. لا يوجد إحصائيات وطنية موثوقة، وبعض المحللين والدبلوماسيين الغربيين يعتقدون أن سورية لا تجري هذه الإحصائيات أصلاً. كما في البلاد العربية الأخرى يلقى اللوم على الفساد وسوء الإدارة، "كثير من الناس المتنفذين لا يلتزمون بالأنظمة، ولا أحد يمكن أن يروّضهم" يقول نبيل سكر، محلل اقتصادي يقيم في دمشق.

في الرقة كثير من المزارعين المرحَلين يتحدثون عن الآبار التي تجفّ، وتتحول لمصادر للتلوث. "بئر عمّي كان عمقه 70 متراً والآن 130 متراً ومياهه أصبحت مالحة، لذلك ردمناه" يقول خلف عايد الدغيم، راعي الأغنام والمزارع القصير الذي ترأّس تجمّعاً للنازحين الشماليين.غادر قريته التي تبعد 60 ميلاً من هنا، عندما نفقت نصف أغنامه وجفّت أراضيه، والآن يعيش في ملجأ خرساني مع زوجتيه وأولاده الـ 17 ووالدته.

في العراق 100,000 نسمة رحلوا خلال السنة الفائتة، وفقاً لتقرير للأمم المتحدة، أكثر من 70% من القنوات المائية القديمة جفّت وهُجرت في السنوات الخمسة الماضية، يقول التقرير، ومن ذلك الحين والحالة تتردى للأسوأ.

"رأينا قرى كاملة دفنت في الرمل" قال زيد العلي، محاضر في معهد الدراسات السياسية في باريس، الذي أعدّ في أغسطس الماضي بحثاً عن أوضاع المياه والزراعة في كركوك والسليمانية ومحافظة صلاح الدين في شمال العراق. "أوضاعهم مزرية".

يعاني جنوب العراق من انهيار زراعي مشابه، بسبب الشحّ في مياه نهر الفرات وبسبب تجفيف المستنقعات الواسعة سابقاً.

المسؤولون السوريون يقولون إنهم يتوقعون مساعدات من تركية، البلد الغني بالمياه، والذي أصبح مؤخراً حليفاً مقرّباً بعد سنوات من الجمود الذي سيطر على علاقات البلدين، لكن هذا الدعم قد يكون متأخراً جداً لينقذ القرى المهجورة في شمال سورية والعراق.

في البداية، الهجرة كانت مؤقتة، ولكن بعد ثلاث أو أربع سنوات، هؤلاء الناس لن يرجعوا، يقول عبد الله يحيى بن طاهر ممثل منظمة الزراعة والأغذية في الأمم المتحدة في دمشق. وراءنا في القرية، بيوتنا طمرتها الرمال، وكأنها دُمّرت، يقول السيد الدغيم، المزارع الذي هجر قريته قبل سنتين "نحن نودّ العودة, لكن كيف؟ لا يوجد ماء ولا كهرباء.. ولا شيء".