الأستاذ نجيب فاضل قيصاكوره ك

فنان مبدع  كبير

بقلم الأديب والشاعر التركي علي نار

ترجمة: كمال أحمد خوجة

[email protected]

يجمع على هذا المحبون وكذلك الذين يخالفونه في مبادئه. ومن بين محبيه وعاشقيه نجد بعضا ممن  يجربون استصغار أشعار الأستاذ التعليمية فيصغرون. لأن الشاعرية لا بد لها السرية والإلهام أو الخفقان، إنها حالة مرضية.

وصحيح قول من قال بأن معنى الشعر في بطن الشاعر. لكن هذا القول فيه اعتراف ضمني بشيء ؛ فالشعر بداية يكتب أو يقال للإعلان عن شيء (أو تفهيمه) ، وإلا فما معنى البحث في بطن الشاعر ؟ أليس الكلام هو واسطة لإفهام الناس ما يريده الإنسان أو ما يفكر فيه؟ وإذا لم يكن الشعر خارج نطاق الكلام ، فلنقل ليس بالضرورة ألا يفهم كل ما يقوله الشاعر، ولكنه ليس بالنائم الذي يهذي، أو المجنون الذي يهرف ، أو من النوع الوقح الذي يستخف بالناس ويقول" ليظنوا أنه يقول شيئا، ليستمعوا ولكن ليبقوا فاغري الأفواه" ... فالشاعر على عكس ذلك إنسان مرهف الحس شديد الذكاء وعميق التفكير أو هذا يجب أن يكون. وأكبر دليل على ذلك ما ورد في الحديث الشريف "إن من الشعر لحكمة وإن من البيان لسحرا" ، والشعر له قيمته إذا تضمن الحكمة( الفكرة العميقة) وعكس صورة الشيء والحدث والإنسان بنظرة من عينيه. أما الشيء الذي يقال عنه أنه "الشعر المجرد"، فيجب أن يعتبر نوعا من البداية: مثل المدخل إلى القصيدة من نسيب أو تغزل.

إنه نوع من التمرين الذهني ، ومحاولة لفت الأنظار لكتابة اسمه في الأذهان، ولكنه ليس إلى مالا نهاية؛ إذا لا بد له أن يقول ما يريده للبشرية!..

فأشعار الأستاذ التي يمكن أن يقال عنها تعليمية، هي هدف الشاعرية. ذلك الشعر يريده كل إنسان، يسمعه، ويكرر السمع ويشعر باللذة. أليس ذلك هو السبب في كون نشيد سقاريا العطر الفواح للأمة؟ كان على الأستاذ أن يمشي على الرصيف ويأتي على هنا: و إلا لما كان أعطى للأمة أكثر رسائله مضاء: كفاك زحفا على وجهك انهض على قدميك يا سقاريا!

أما هذا الخطاب فهو قمة الفن، فهل هذا معروف؟ ... " خطاب لمن ليس له شعور"

أما الشعر فبطبعه أن تكون السرية في معناه، قلت أو كثرت، فتلك تكسب الشعر جاذبية. ولكن يجب ألا يصل بها الأمر إلى نقائص فنية "كأن يكون تعقيدا لفظيا وتعقيدا معنويا فالشعر اللامعنى والغموض في المفهوم الحالي، نقيصة بدل أن يكون فنا.

صعدت إلى السموات والتراب على الرأس

ثم نزلت مع السموات

(عبد الحق حامد طرخان)

إنه غموض أو إبهام قريب من الطبيعي. وما زاد فهو زائد؛ فالعبارة المبهمة في الأدب مرفوضة . هناك صفتان أساسيتان في إطلاق اسم الأدبي على أي نص أو نظم: الفصاحة والبلاغة. والأولى مقدمة على غيرها، وهي الأساس. أي أن تكون الفصاحة في الكلام شرطا كي يكون كلاما أدبيا، وهي بداية البلاغة. لأن الكلام المطابق لقواعد اللغة والبيان يكون كلاما بليغا إذا كان فيه شيء من البديع . أما إذا لم يكن الكلام فصيحا، فلا يرقى إلى درجة البليغ، والفن فيه لا يعدو كونه أمرا مضحكا

لقد أقام الأستاذ بين كل هذه العناصر توازنا دقيقا، نجده يقول:

.. أعط القزم، فليكن له الشعر

أما أنا فأتطلع لأن يكون الفنان الكبير "

 ويخلص إلى القول:

لقد تبين الأمر، عرفت أن الفن هو البحث عن الله؛

هذه هي المعرفة ، وما بقي ليس إلا أعواد حديد

ونهاية الفن الذي أراد الوصول إليه هي:

"هل سأموت، وأنا في مرحلة الكلام

وفي شفتي حسرة الكلام الذي لم يقال.

فروح الشاعر تسعى أبدا لمخاطبة الإنسان، فهي تريد أن يقول له أكثر كلامه تأثيرا وصعوبة ،تريد أن يسمعه ويفهمه ويؤثر فيه. إنه الشحنة الفنية البديعية التي لم يقدر أحد حتى الآن على الوصول إليها. وهذا هو السبب في انفعال وجيشان وخفقان من يقرأ شعر الأستاذ . لكن هذه النقطة هي التي لا يهتم بها أكثر الذين يتحدثون عن الأستاذ في أيامنا هذه.

لماذا هذه العبارة ، هذا الشطر، هذا الشعر فني؟..وليس التعبير عن ذلك إلا الفنون الأدبية التي نستخدمها نحن.  ونقصد بذلك الفنون الأدبية التي تنشئها وتعرفها وتستعملها لغات الأمة الإسلامية بأكملها. إن المفاهيم الأدبية التي هي اللغة الخاصة للأدب... وقد يحب الشعر ويتذوقه ويقول بأنه فني،  من ليست لديهم ملكة المعرفة والتعريف في أي مكان على وجه الأرض، لكنه لا يستطيع أن يحدد أسبابه . وما تمناه الأستاذ لكتابه "السلام" من " أن يشار إلى هذا الكتاب في المستقبل بأنه نموذج للشعر الإسلامي" ، وهذا هو السبب في محاولة البعض  اعتبار أشعاره من قبيل " النظم الديني" . إنهم غرباء عن مقياس الأدب والشعر! مثال على ذلك

قصيدة : رسالة من الزنزانة إلى محمد، نقدم منها بيتا لم يفهمون أشعاره بتلك الصورة؛

" نافذة غريبة، صغيرة وضيقة؛

مغلقة على العالم ، مفتوحة لله "

في الشطر الأول المشحون بالفن، الذي يصور روح الزنزانة، نجد حفلا صوتيا، لنقل عنه" المجانسة" لكن الأساس هو مجانسة الحال، فالنافذة الغريبة باتت مقربة للنفس من خلال تصغيرها، وفي الواقع تصبح أخيرا في منتهى الضيق والصغر إلى أن تحول دون رؤية الدنيا ... وهي كذلك! وما من أحد سوى الأستاذ يقدر على هذه الدقة والإيجاز في تعبير وتصوير نافذة الزنزانة.... تغلق وهي تصغر ثم تصغر. ولم يلبث أن يظهر فن" الرجوع" مغلقة على العالم، لكنها مفتوحة... في لحظة الظن بالتضاد يعود، ليأخذ فن الرجوع" مكانه؛ لا بأس في أن تكون كذلك، أليست مفتوحة إلى الله! وهنا تدخل الكناية: إنه القلب المفتوح إلى الله، إنه الإيمان، إنه الأحاسيس ، إنه الفكر... إذا توجهت إليه لن تحول بينك وبينه الجدران والسقوف... تلغى عوائق الاتجاهات والمسافات والظلام والممنوع ! فلزم التذكير بالأدب وبما هو أدبي ( أو بالفنون الأدبية)  قبل أي شيء آخر.

فـ" أدب" لفظة عربية في هجائين: وتعني المنظم، المرتب، المتزن. ولفظة "أدبيات" التي هي من الغلط المشهور في لغتنا التركية ، تفهم في لغتها الأصلية بمعنى" أدب اللغة" وفي آداب كل لغة مشترك عام . لكن العربية والفارسية والأوردية والتركية تبدو أسرة واحدة وحتى لم تفهم ما تقوله لبعضها في مواضيع الأدب والفنون ، لكنها تتفاهم فيما بينها، إذ يكاد أن يكون كل شيء بينها مشتركا.

الأدب بمعناه وتفصيله الشامل هو علم الوسائل والمقاييس التي تحمي الإنسان من كل أنواع الخطأ... ومفهوم "الأدب" يستخدم في معنيين: "الأدب النفسي" و " الأدب الدرسي"

ويمكن أن نعبر عن الأدب النفسي بالموهبة وبالصفات المكتسبة عن طريق السعي إليه.

وعليه فإن الإنسان الذي له قابلية أن يكون مؤدبا في طبعه، يمكن أن يصبح أكثر أدبا بتربيته وتفهيمه مقاييس الأدب.

وعيش الإنسان المؤدب بالصورة المناسبة للقيم الإنسانية والمقاييس الإيجابية لديه، أن يكون مجردا من المواقف والأعمال والعبارات المزعجة في علاقاته مع الناس، ويصلح ما حوله بكل ما يفتح الطريق إلى قلب الإنسان.

أما الأدب الدرسي ، فهو القابلية والمهارة في التعبير عما يراد بعبارات محببة وجميلة. ومن الطبيعي أن تكون له وجهاه الفطري والمكتسب... أي أنه مهارة التعبير، لكنه في نفس الوقت الكتابة والحديث ملتزما بالمعايير التي أسستها الإنسانية عبر العصور، ودون إجراء أي تخريب أو تحريف في تلك القيم. ولدى تناوله بالبحث من وجهة الأدب والأخلاق وأدب المعاشرة. نجد كذلك حسن المعاملة والتصرف المتزن والالتزام بالأسس والقواعد، والتآلف، والنجاح في العلاقات الإنسانية...وتصحيح أوضاع الدعوة والتعليم(حتى بالتأديب والتعزير أو العقوبة)والتعويد على تجنب الأقوال والحركات التي تضر وتؤذي ما حوله . إنه المستوى الأعلى في صنعة الكلام ، مستوى الكلام المؤثر في الفرد والمجتمع.

ومن هنا يعاد النظر إلى "أدب اللغة" فهذا لا بد منه في كل فروع المعرفة وفي الكتاب والخطاب . لأن "الأدب الصرف" لا يعني الشعر والحكاية والرواية فحسب.... بل هناك أيضا " أدب الحديث، وأدب التاريخ وأدب الحقوق. أي أنه يجب أن تكون فيها كذلك المهارة في الأسلوب والتعبير. فتكاد تكون لها لغتها الخاصة.

أما لغة الأدب؛ فهي مجموعة المفاهيم الأساسية للأدب والفنون الأدبية والمضامين الأدبية. ولمن لا يعرف هذه اللغة أن يقول تذوقا؛ هذا الشعر جميل ، وهذه الحكاية أدبية، ولكن لماذا وكيف؟..

لنبدأ إذن بـ مفهوم " حسن الابتداء"( براعة الاستهلال) و"حسن الانتهاء"

لابد أن يكون في أي جملة أو نص أدبي بداية جميلة ونهاية جميلة، فالبداية مثل السكران والانتهاء مثل الميت يفقد الأدب من تلك اللحظة...

ومنه بداية" ما حرب المضيق هذه، وهل لها مثل في الدنيا؟": فمن يسمع لأول وهلة يستعد لتلقي ما بعده ، يتوقع أنه سيقول شيئا بالغ الأهمية.

ونهاية مثل:

أيها الشهيد ابن الشهيد، لا تطلب مني قبرا،

فالنبي قد فتح ذراعيه لاستقبالك!"

فهو خلاصة وروح الملحمة كلها يلخص الأحاسيس والأفكار التي يحملها الشاعر بداخله. فمثل هذه النهاية الجميلة تضمن كتابة هذا الأثر الأدبي في القلوب وتخلده...

ومن هنا نريد أن نضع تعريفا مثاليا لـ" الجملة الأدبية"

الخطاب النص والشعر أو حتى النكتة "الكافية والوافية"

حتى النكتة إن لم تستخدم في محلها فلن تكون ذوقا بل ثرثرة . إذن لننظر إلى التي هي في محلها:

فهذا من حيث الأساس شرط في البلاغة والبديع . وتعريف البليغ نجده في مصادر الأدب بأنه " استخدام الكلام الفصيح في محله" والمحل هنا يشمل الزمان والمكان والظروف. أي أن الكلام المنظوم أو المنثور فصيحا ، مطابقا للقواعد والعبارات الغريبة والكلمات المتناقضة والمعاني القبيحة ، يأتي بعد ذلك البحث عما إذا كان ذلك في محله، والمحل هو الوسط أو الظرف : فإذا كان من العبث القول في معرض العزاء" هنيئا لك" كذلك من القبح القول في معرض التهنئة في مناسبة عرس أو ولادة " ألهمك الله الصبر والسلوان"

ونضيف إلى ما سبق مسألة "الأسلوب" :فالأسلوب صفة معرفة لأي أدب: إذا يظهر نفسه من خلال ما يستعمله من كلمات ومفاهيم وبناء الجمل وفي الحب ورد الفعل. إذ لا يلبث المرء فينا أن يعرف أسلوب يحيى كمال ونامق كمال ونجيب فاضل...

والأسلوب يكون مؤثرا في الموضوع: فإذا كان الموضوع حماسة  أو هجاء؛ نجد في العبارات "جزالة" ، أصواتا وكلمات قوية. كما نجد "ليونة" في الرثاء والغناء.

كما في شطر:

" اضرب بحب السيف الذي في قبضة علي!"        (يحيى كمال بياتلى)

و:

"لي جرح لا تقدر الهاونات على دق المراهم،

ولي حمل لا تجد الأسواق له الدراهم"           (نجيب فاضل)

 فالفرق واضح بين الشطرين : الأول قاس وشديد، لمميزات الشعار من جهة، ولضرورة الموضوع من جهة أخرى. أما الثاني فكلماته حادة كذلك لحدة الشاعر وشدته: يقول" لاتقدر على الدق" "لاتقدر على عجن المراهم" ، لكن الموضوع يطغى عليه ، فيطرأ اللين على القسوة بالغناء. ومع ذلك فهو الحزن بأسلوب نجيب فاضل. لذلك فالهوية تظهر في الشطرين الثالث والرابع:

"ماضرني ألا يكون لي ظل في طريق،

  فعندي الطرق التي تفضي إلى الله"

تلك الجراحات العميقة تنسى في لحظة؛ ليس لك منصب في الدنيا ، لاضير... فطريقي يفضي إلى الله، وما عداه عدم!

فكل شطر متكامل من جهة الفصاحة، ليس فيه غريب أو تعقيد أو بنية عرضية ، أو غموض في المعنى، فكل من يقرأها يحزن ثم ينبعث فيه الأمل والسرور. ولكن ليس بقدور كل إنسان أن يفهم ثم يبين ما فيه من نكات أو تداعيات أو عناصر بديعية.

وفي المقطع الأول من الشعر نجد شطر:

" لو مرت السفن المزدانة من بعيد": حيث تمني النصر ، يجعلنا نتخيل السفن، إنها أسطول الاحتفالات. لكنه هو في الوقت نفسه بحر محيط، تمخر عبابه السفن، لكنها تتجه إلى هناك ، إلى دياره تلك . فالدنيا واحدة ، مستسلمة" لدولة العلو الأكبر" ، السفن تغادر لكنها تصل في النهاية إليه.

الجرح الذي أحدثته تلك الحسرة من العمق بحيث لا تقدر الهاونات على دق وعجن المراهم، لا يقدر أحد على إعداد ذلك القدر من المراهم....

المرهم من حيث الأساس يعده الصيدلي الطبيب . يتحدث عن أداة محلية لكنه يقصد من يستخدم هذه الأداة ، وهذا حال المجاز المرسل المؤدي إلى الكناية. ، كما نجد طبيعة الشعر التي لا تتغير : المبالغة في أعلى درجاتها...

إن حمله من الثقل بحيث لا تجد الأسواق الدراهم التي تزنه بها. ويريد أن يقول بأن أي ميزان لا يقدر على ذلك ، يذكر المكان ويقصد الأداة.

وفي كلا الشطرين استخدم مفاهيم ومضامين من الثقافة الشعبية/الوطنية؛ وهذا هو أحد الميزات التي تجعل الشعر شعرا، كما يدعم الشاعرية.. الدرهم هو وحدة الأوزان لدينا( في أمتنا) والمرهم كذلك. ونجد في " المرهم " أحاسيس الألم وتوقع اللين والرحمة: فالناس جانبوا الحق والإنصاف منذ أن تركوا العلاج للمصنع :فلا تقدر على معرفة مكوناته، وعلى قراءته وفهمه.لكن المرهم يتم استخلاصه من أنواع النباتات والمواد التي تجمع وتدق في الهاون بأيد رحيمة ساعات طوال، هذه الأيدي غاليا ما تكون من ذوي المريض والمشفقين عليه أهله وأقاربه، وهم ممن أفواههم لا تخلو من الدعاء وجوارحهم طاهرة متوضئة. أما ما تنتجه المصانع فليس واضحا ما بها من خلطات.

"ماضرني ألا يكون لي ظل في طريق،

  فعندي الطرق التي تفضي إلى الله"

فيه جناس:

أحد الطريقين فوق التراب، والآخر فوق الفؤاد ...والمقصود من الأول " ما هو دنيوي" من مقام أو شهر أو قصور...والآخر هو "طريق الشريعة" الذي يأخذنا إلى الله، فهو طريق الإيمان طريق الأخلاق التي توصل المرء إلى الحق...

وبذلك نكون بدأنا بوعدنا في إظهار جوانب الصنعة في شعر الأستاذ. أي بيان وتحديد ما فيه من الإيجاز والإطناب والصريح والكناية والمجاز والاستعارة والحقيقة والتورية والمقابلة والاستفهام والاشتقاق والجناس والعكس والرجوع وحسن التعليل والاقتباس والمبالغة( والغلو) ومناسبة الحال، وإيراد المثل، وخطاب الغائب أو المادون ، أو الحوالة للمحال ومراعاة النظير" لنثبت بعد ذلك أسباب كون مؤلفات الأستاذ أدبية .. والأستاذ فنان وأديب كبير ، ليس ادعاء بالغيب ، بل إثباتا بالرؤية والاستشهاد في مؤلفاته!

فلننظر الآن في أشعاره على غير ترتيب، ولكن من غير عشوائية:

دعاء:

" لو غرزت سكينا في ظلي،

لتقطر دمي الساخن.

ادخل وانظر في بلادي.

رجال بلا رؤوس بلا رؤوس"

في الأسلوب تداخل بين الجزالة واللين والرقة ، كما في " لو غرزت سكينا" و" دمي الساخن" .الخيال المغروز بالسكين ؛ هو التراب الذي يسقط عليه ظله، إنه البلد، والدم النازف هو دم الشهداء . إذ يقصد بالظل "البلاد" ؛ فهو مجاز مرسل. ولكن لماذا لا يغرز الوتد أو العود ، أو الإصبع طالما أن التراب يقبل بذلك؟ لأن الشدة والحدة في أسلوب نجيب فاضل يتطلب ذلك (الجزالة) . أما الثاني فهو من متطلبات المقصود ،  وهو أن التراب الذي يمشي عليه، مروي بدم الشهيد، وسبب الشهادة الحربة( أداة الحرب الرئيسية)  لكن الحربة هنا لا يكون منسجمان كما يظهر المقصود قبل الأوان.  فمن المهم كذلك الإبهام البسيط في الشعر. هناك نجد الجمال... والوزن والانسجام يتطلب ذلك . وفي الظل شيء التحيير : أهو الظل أم الجسم؟ .. لأن الظن هو الحديث عن دمه هو.. لكن البيت التالي يأتي بالحل. فالبلد يوضح ذلك. ولكن يقطر الدم يجب سحب ما هو مغروس ، لكن الحاجة على ذلك تنتفي بالإيجاز. فمن يسمع يفهم الفعل الثاني بالضرورة.

وفي البيت الثاني:

 "ادخل بلادي وانظر

 وكون الدم الذي يقطر من السكين هو للأبناء الذين طعنوا واستشهدوا في سبيل هذا البلد ساخنا يشير إلى هذا الود والتراحم باعتباره منه وجزءا من دمه. لنلاحظ كونها مفاهيم وكلمات مختارة من قبيل "مراعاة النظير"

وفي مقابل التضحيات التي قدمت لتحرير تلك الأرض نجد

"رجالا بلا رؤوس بلا رؤوس" فيها فن التكرار. والمقصود بالرأس هنا العقل والشعور ، فالرأس كناية عنه: هناك أناس لا عقل لهم ولا ضمير ولا إنصاف ولا إيمان ... إذن هناك أزمة ومحنة. الشاعر يدخل في أزمة  ويجد الحل:

"ابكوا ليرتفع الماء،

ولعل السفينة تنجو"

الوطن سفينته ويجب إنقاذها: لأنها جنحت ستبكون بكاء بحيث يرتفع مستوى البحر وتطفو السفينة وتنجو ... البلاد التي حررها الشهداء استولى عليها ذوو الأفكار (الرؤوس) الغريبة . والسبيل الوحيد هو البكاء . فلتغذي دموع العين البحر. نقول عنه بأنه "فن الإحالة إلى المحال" : ربطه بشرط محال. لكن البكاء هو الآخر مجاز : بمعنى الدعاء . لأنه أعلى مستويات الدعاء والرجاء والشعور بالظلم . وآخر العقد التي تفضي للحركة .. إنه الوضع الذي لا يرتاح إليه الظالم . والواقع فإن البيت التالي يفشي ويعلن ذلك؛

"أماه لتأت سجادتك، فادعي لنا هلا فعلت؟" فلا ينقذ من سيطرة من لا عقول لهم سوى الدعاء (الدعاء نداء المظلوم الذي يصل على الله، ودموع العين هي رمزه)

الأسلوب الشديد في بداية هذا الشعر تحول في نهايته إلى موقف درويش:إنه قمة الشاعرية ، وهو الشعر الإسلامي بكل معانيه.

أما قوله" لتأت سجادتك" ففيه تلميح إلى شكل الدعاء وشرط قبوله وسببه المساعد: فالدعاء بعد القيام بعمل خير يكون مؤكد القبول : الأم ستصلي ثم تدعو. و إلا فإن السجادة ليست شرطا للدعاء.

إنه التلميح لـ"دعاء الأم" وللدعاء الذي يعقب العبادة.

وهكذا قمنا بتحليل شعر ليس لكثير من الناس لفت الأنظار إليه من الناحية الفنية.

ولننظر الآن للأشعار التي يعتبرها الجميع رائعة الفن

الأرصفة

لقد تأسس الشعر بكامله بفن التشخيص

الأرصفة، مخاطب يكون موضع الحديث هنا وهناك؛ فهو امرأة سمراء أحيانا، ولغة أحيانا

إنسان يعيش بداخل أم لمن ليس لهم أحد ! يتجسد بكل ما في داخله من أقسام وأرصفة وما يحمله من عناصر ومميزات...

 " أتخيل عمالقة قطعت رؤوس كل الأزقة!

لايلبث أن تنعكس فيه الأسطورة والثقافة الشعبية

" بيوت كأنها عُمي كحلت عيونها الميل"

المقطع الأول يحكي المشاهد ، هناك خوف " في وسط زقاق" ، في المقطع الثاني تصويرات: السماء رفيق البيوت والأرصفة...

السموات السود مغطاة بالغيوم الرمادية.فيه تشبيه كامل

" الصواعق تراقب مدخنة البيوت" فيه تشبيه كذلك. الصواعق مثل العدو أو السارق، تراقب المداخن لكنه استخدم المدخنة في صيغة المفرد ،لأن الوزن يتطلب ذلك ، والأصل الجمع لأنها للبيوت. فلا نقص فيها بل فيها التمام.

" بداخلي خوف يتجمع نقطة فنقطة"

"الخوف" الذي يتجمع شبهه بالماء . وهو "استعارة" لعدم وجود الجانب الآخر

 " بيوت كأنها عمياوات كحلت عيونها الميل"

 فيه تشبيه كامل. " كحلت عيونها الميل" قولة مستقاة من ثقافة التاريخ. "بيوت كأنها عُمي"

زجاجات شديدة السواد" لكنها شبهت بالعين العمياء.

لسنا بصدد تحليل الشعر كله، فذلك يحتاج إلى كتاب مستقل، لكننا نتطرق لبعض جوانبه

كل شطر من المقطع الرابع تشبيه بليغ.

لكن الشطر الثالث يعطي" صوتا" وفي الرابع يكون "لسانا" وينشئ فن" الرجوع"... لكن يتخلى عن كل الأطروحات  ويقرر بأن " الأرصفة بداخلي لسان يتلوى" " التلوي" يكون مناسبا للسان وكذلك للطريق. وعليه فإن الشعر التعبير عن الداخل والخيال

وفي الشطر الأخير من المقطع السادس تشبيه بليغ. "قوس النصر" مقتبس من ثقافة التاريخ والمجتمع. أما الظلال فتظهر على الأزقة مثل القناطر الحجرية. و الشاعر بطل يمشى وسيمر تحت قوس النصر. فيه "فخر" خفي. وفي الشطر الأول من المقطع السابع فن "العكس".

و "الظلمات الباردة كأنها لحف ندية" تشبيه كامل.

الشطر الأول من القسم الثاني اقتباس من مبدأ قرآني، "بطل شرى نفسه من أجل هدف" أفكار وأحاسيس الشاعر المشبعة بالثقافة الإسلامية تدفعه لمثل هذا التصوير:

لأن القرآن الكريم يعلن بأن "الله اشترى من المؤمنين أموالهم وأنفسهم بأن لهم الجنة" إنه يتلقى عرضا بالتربع على "فراشه" كأنه العرش السيار ليقطع بالأرصفة مسافات لا نهاية لها...