الدكتور محمد ناصر

محمد المجذوب

عرفته لأول مرة قبل خمس عشرة سنة ...

وكان ذلك في بيت الطلبة الأندونيسيين ...

دعاني بعضهم للاستماع إلى محاضرة يلقيها الدكتور محمد ناصر ...

ولم يكن ذلك الاسم غريباً عني ، فقد قرأت عنه الكثير خلال مطالعاتي أنباء الدولة الإسلامية الكبيرة الجديدة أندونيسية ...

وكانت محاضرة رائعة على الرغم من أني لم أفهم حرفاً من لغتها الأصلية ، إلا أن الطالب الذي تابعها بالترجمة كان فصيح العربية مبينها ...

ولم يبق في ذاكرتي شيء من موضوع تلك المحاضرة ، اللهم إلا أطيافاً لا أزال أتذوق جمالها ، ومرد ذلك إلى أمرين أحدهما الأفكار العالية التي عالجها على مدى أكثر من الساعة ، وكلها حول أندونيسية ، والصفة الإسلامية التي يجب أن تتميز بها أبداً وبخاصة في مرحلتها الجديدة بعد الاستقلال ، والثاني عمق الرؤية التي كانت تظلل تلك الأفكار فيخيل للسامع أنها فلذ من قلبه أكثر مما هي كلام يقال ...

وكان للرصانة التي تميز صورة الخطيب ولهجته ضرب من الإيحاء قوي يشد إليه السمع والبصر .. إذ تشعر وأنت تلاحظه وتستمع إليه أنك تلقاء شخصية ثقلت موازينها ، فهي أكبر من الكيان الذي تحتله من ذلك الحجم الأندونيسي اللطيف .. شخصية تتجمع فيها مواهب الجامعي الدقيق العبارة ، والسياسي البعيد الغور ، والمؤمن الذي يسكب على كل من هاتين الصفتين الوقار الموجب للثقة والاحترام .

وتكر الأيام ، ويقدر الله لي الشخوص إلى أندونيسية ، فألقى الدكتور محمد ناصر بمكتبه في المجلس الأعلى للدعوة الإسلامية في جاكرتا ، فإذا هو هوالذي لقيته في المدينة المباركة قبل هاتيك السنين ، لم يتغير على نظري شيء منه ، هدوؤه ورصانته ومظهره الجدي الوقور، بل لكأن الزمن قد وقف به حيث كان يومئذ ، فلم يقربه من الشيخوخة ، ولم يبعده عن سن الشباب ، ولا غرابة في هذه فهي السمة المميزة للجنس الأندونيسي الذي يحتفظ أبداً برونق الشباب ، فلا يكاد يرهقه الكبر...

على أن سنوات الفراق لم تكن لتقطعني عن أخباره ، فأنا أعلم من خلالها ضخامة العبء الذي يتحمله في سبيل الإسلام ، وشدة البلاء الذي يواجهه من أعدائه ، الذين تسللوا إلى القوة عن طريق المنافذ التي خططها لهم الاستعمار، كما فعل في كل قطر إسلامي أكره على مغادرته ، فلم يدعه إلا بعد أن أسلم أزمته إلى تلاميذه الذين فاقوه في عمليات التخريب لكل ما هو إسلامي ...

لقد استطاع خلال المناصب التي شغلها من إدارات ووزارات ورئاسات وغيرها ، أن يرفع راية الإسلام كما أنزله الله ديناً ودولة ، وصدع بكلمة الحق في وجه الزعازع الهائلة من مؤامرات المعادين للحق ، ولم يستطع رأس طواغيتهم سوكارنو وكل الذين آزروه وحرضوه ، إخفات ذلك الصوت إلا بالوسائل التي عرفتها شعوب الإسلام في كل مكان قفز فيه أعوان الشيطان إلى سدة الحكم بالتزييف وبالحديد والنار.. وكان بوسعه وإخوانه أن يستمروا في نطاق السلطة لو رضوا بما عرضه عليهم أولئك الطواغيت من التخلي عن الصفة الإسلامية التي أقاموا جهادهم السياسي على أساسها ، ولكنهم آثروا إسلامهم على كل شيء ، وفارقوا مناصب الحكم ليتابعوا سبيلهم لخدمة الدعوة في أوساط الجماهير ، التي ستظل الممثلة لمادة الإسلام في سائر البلاد الإسلامية ، وعليها يتوقف مصيره أمام الهجمة الشرسة التي يشنها أساطين السلطة الغاشمة على قواعده ..

وهكذا انحاز محمد ناصر وإخوانه إلى العمل الصامت عن طريق المجلس الأعلى للدعوة الإسلامية الذي تنتشر فروعه على مستوى الجزر المأهولة في أندونيسية ، يبصرون المسلمين بدينهم ، ويعمقون انتماءهم إليه ، ويواجهون بصبرهم ودأبهم واستقامتهم أعنف الحملات الصليبية على هذا الدين ، الذي تضافرت على حربه كل مراكز القوة من حكام داخلين وأعداء خارجين ، ودعاة للنصرانية لا يقبلون هدنة مع الإسلام ، الذي أعلنوا تصميمهم على استئصاله ، وأعدوا لذلك عدتهم الهائلة من أساطين تجوب أقاصي الجزر وأدناها في الجو والبحر والبر ، ومن مؤسسات تعليمية تفوق معاهد الدولة وجامعاتها ، إلى وسائل إعلامية تغطي بصحفها ومنشوراتها وإذاعاتها كل مكان من أندونيسية .. وقد أتقنوا فنون الاستغلال للأوضاع الاقتصادية التي ترهق الطبقات المسحوقة تحت عجلات النظام ، الذي ضيق عليها سبل الحياة فحرمها حتى الضرورات الأولية وبذلك هيأها للسير وراء كل ناعق يضمن لها الحد الأدنى من وسائل العيش ، وأطمع بها أولئك المضللين حتى استطاعوا تحويل الآلاف بل الملايين من الإسلام إلى النصرانية على مرأى ومسمع من الحكام الذين لم يخفوا تأييد النصرانية الغازية ، بل حركوا حتى بقايا الوثنية من باطني جاوة لإعلان نحلتهم ، وللمطالبة بالامتيازات التي تمكنهم من إثبات وجودهم وتثبيت شخصيتهم الطائفية في مجلس الأمة وهي المؤامرة التي نفذت بقوة الحراب فسقط ضحيتها الأعداد من شباب الإسلام الذين هبوا للاحتجاج عليها بتظاهراتهم الصاخبة ، فجوبهت بالجيش يقتحم عليها ساحات الجامعات ويملأ بجرحاهم المستشفيات ..

ثم تأتي مع هذا وذاك فتنة (البانجاسيلا) التي اخترعتها الطغمة السوكارنية ، لتجعل منها منهاجاً جديداً يصرف المسلمين عن دينهم إلى تعاليم يراد منها أن تحل محل الأديان المعروفة في أندونيسية ، فتجعل من المائة والأربعين مليوناً من سكانها عجينة موحدة النوع لا تنظر إلى الحياة كلها إلا من ثقب واحد ، هو الذي يحدده ذلك الميثاق الخماسي العجيب .. وكأن واضعيه إنما أرادوا إحياء بدعة ذلك الأفاق إمبراطور الهند (جلال أكبر) الذي أغواه شياطين الجن والإنس ، فلم ير لتوحيد شعوب الهند سوى إلغاء انتماءاتهم الدينية بتحويلهم إلى ديانة واحدة لفقها من معتقداتهم جميعاً .. فكان أن زاد الطوائف واحدة تمتاز على الجميع بأنها اشد حقداً على الإسلام وعدواناً على المسلمين .

ولقد قيض الله لنا الفرصة المناسبة أثناء زيارتنا أندونيسية ، فلمسنا آثار المجلس الأعلى للدعوة الإسلامية في كل بلد حللناه من تلك الجزر ، والتقينا بما لا يحصى من الشباب العامل في ظله ، فأدركنا الحكمة التي حققها الله في انصراف الدكتور محمد ناصر وإخوانه إلى ذلك السبيل الذي اختاروه مخلصين لخدمة الإسلام وإصلاح شأن المسلمين ، والوقوف بوجه الغزو الصليبي الشرس ، على الرغم من البون الشاسع بين وسائلهم ووسائل المبشرين .. وكل سلاحهم في هذا المعترك هو وعيهم العميق لحقائق الإسلام ، ثم إيمانهم الراسخ بأن الله ناصرهم ما داموا في طاعته ، فهم لا يدخرون وسعاً في بذل كل ما يملكون من مجهود في سبيل الدعوة التي شرفهم الله بخدمتها ..

حوارنا مع الدكتور محمد ناصر

س ـ نرجو التفضل بذكر الاسم والميلاد والبلد والدراسة ؟

ج ـ الاسم محمد ناصر ، وقد ولدت يوم 17 يوليه من عام 1908 في بلدة تدعى (الاهان بانجانغ) من أعمال (مانتجاو) في أندونيسية ، وتقع على ضفاف البحيرة التي تحمل هذا الاسم ، وهي معروفة بطبيعتها الخلابة .

ويفهم من كراسة كتبها عنه الأخ الأستاذ محمد أكوسجئ أن تلك البلدة في ولاية سومطرة الغربية ، وعلى عادة أهلها في تكريمهم للزعماء والقادة اكتسب الدكتور لقب (داتو سينارو بانجانغ).

ويزيد الأستاذ محمد سعيد بأنه نشأ في بيت دين وعلم وجاه ، فجده لأمه واحد من علماء مينانكاب أما أبوه فكان أحد إداري المنطقة ، وبذلك اجتمع في الدكتور محمد ناصر رافدا الدين والجاه ثم الثقافة العامة .

ويقول الدكتور أنه تلقى دراسته الابتدائية في المدرسة الحكومية الهولندية (سولوك) ثم انتقل إلى المرحلة الإعدادية في المدرسة الحكومية (ميولو) في بادانغ ومن ثم التحق بقسم الآداب الغربية الكلاسيكية في المدرسة الثانوية المسماة (الكوميني ميد ليارسكول) في مدينة باندونغ والظاهر أن مركز أسرته قد ساعده على هذا الالتحاق ، إذ كان الوصول إلى المدارس الحكومية محفوفاً بالمصاعب إذا لم يكن التلميذ من أبناء الذوات وموظفي الحكومة أو كبار الملاك أو الأثرياء ، هذا فضلاً عما يقتضيه التغرب من أعباء تبهظ كاهل الأسرة ، وقد جمع الفتى بين الدراستين الحكومية والدينية ، إذ قسم يومه الدراسي شطرين ، فشطره الأول في المدارس الرسمية ، وشطره الآخر في إحدى المدارس الأهلية الإسلامية ، كشأن أبناء الأسر المسلمة الحريصة على دينها حتى الآن .

يقول الدكتور : إن انتقاله إلى باندونغ المعروفة بلقب (باريس جاوا) آنذاك كان ضرباً من المغامرة وقاه الله شرها بما سبق له من التربية الدينية ، ثم بما أتيح له من الاتصال بأحد فضلاء العلماء هو الشيخ أحمد العالم السلفي ، الذي ضاعف من زاده الروحي بما تلقى على يديه من علوم الشريعة إلى جانب دراسته العامة . وفي هذا الجو الجاد أتم المترجم مرحلته في تخصص التدريس حتى نال إجازته .

س ـ وعن الرجال الذين أثروا في توجيهه يقول الدكتور :

ج ـ أولهم هذا الفاضل الشيخ حسن أحمد ، وكان يدير في باندونغ معهد (برساتوان إسلام) أي معهد الوحدة الإسلامية ، إلى جانب عمله في تأليف الكتب الإسلامية ونشرها ، وقد أعجب الشيخ بالفتى لما وجده من تشبعه بالثقافة وشدة اهتمامه بالعلوم الإسلامية ، فلم يدخر وسعاً في تعميق ذلك الاهتمام وإمداده بالغزير من الخير .

ويثني الدكتور بالحاج أقوس سالم الذي يصفه بالسياسي المسلم الذي جعل همه الأخذ بيد الشباب الناشئ على الثقافة والتربية وإعادته إلى الحظيرة الإسلامية ، وكان من جهوده الموفقة تشجيع هؤلاء الفتيان على إنشاء منظمة (بونغ إسلاميتين بوند) وهو تعبير هولندي يعني (اتحاد الشباب المسلمين) وكان لهذه المنظمة أثر هام إذ خرجت أفذاذ القادة والزعماء الإسلاميين الملتزمين ، الذين تولوا قيادة المسيرة الإسلامية فيما بعد وكان محمد ناصر وهو رئيس فرعها في باندونغ ، التي تعتبر أحد منطلقات الجهاد الإسلامي في أندونيسية .

ثم يذكر من ذوي الأثر في توجيه الشيخ أحمد السركتي الأنصاري السوداني ، الذي وفد إلى أندونيسية لنشر العلم والمعرفة .

ويصف هذا الشيخ بأنه من السلفيين ، وأنه مؤسس مدارس الإرشاد في العديد من مدن جاوة .. وقد أتيح لنا زيارة مؤسسة الإرشاد القائمة في سورابايا ، إحدى أروع حواضر أندونيسية، ولمسنا جهودها المباركة سواء في معهدها التعليمي أو مستشفاها المتكامل ، وضاعف إعجابي هناك تلك العربية السليمة التي سمعناها من كل مسئول لقيناه في تلك المؤسسة وسيما ذلك الحضرمي الكريم الذي أُنسيت اسمه ، وقد سجلت ذلك كله في كتابي (ذكريات لا تنسى ..) ومن هنا تطرقنا إلى السؤال الرابع .

س ـ أهم الأحداث التي عاصرتموها وتفاعلتم معها ؟

ج ـ بعد تخرجي في معاهد العلم الهولندية تفرغت للعلم الإسلامي ، وبدأت ذلك في التدريس ، إذ افتتحت مدرسة (روضة التربية الإسلامية) استأجرت لها مبنى اتخذت قسماَ منه سكناً لي ولزوجتي التي اقترنت بها حديثاً ..

ويقول الأخ الأستاذ محمد سعيد : لقد أقبل الدكتور على عمله في التدريس بجد كبير ، ولم يكتف بالتدريس بل اندفع بالروح التي ألهبها شيوخه في صدره فشرع قلمه للكتابة في الصحف وألف عدداً من الكتب باللغة الهولندية موجهةً إلى خريجي الثقافة الغربية تعرض لهم حقائق الإسلام ومحاسنه .. ومن روائع كتبه أثناءئذ مؤلفه عن المرأة (المرأة المسلمة وحقوقها) و (حضارة الإسلام) الذي اشترك في تأليفه مع البروفيسور الهولندي سخوماكر، ثم كتابه الآخر (هلموا إلى الصلاة) فكان له أثر طيب في خريجي المدارس الهولندية . وقد صدرت هذه الكتب ما بين 1932 ، 1936 .

وهكذا بدأت مسيرته العلمية في الدعوة إلى الإسلام والدفاع عن حقائقه بوجه الحملات المسعورة التي تولى كبرها دعاة النصرانية وأذيالهم من المتخرجين على أيديهم وقد أصدر من أجل ذلك مجلة سماها " الدفاع عن الإسلام " حملت الكثير من مقالاته فضلاً عن كتاباته الأخرى في العديد من الصحف بتوقيع " أ . مخلص ".

وفي تلك الأثناء حدثت هزيمة الهولنديين على يد الغزاة اليابانيين وفي ظل التغيرات الجديدة أسندت إلى الدكتور إدارة التربية التعليم في حكومة بلدية باندونغ.

على أن من أهم الأحداث التي واجهها عقيب ذلك ، فكان لها الأثر العميق في مجرى حياته ، هو انتقاله إلى جاكرتا ، ليتولى سكرتيره الجامعة الإسلامية ، التي أنشئت حديثاً . ففي باندونغ كان متفرغاً للتربية والتعليم وللدفاع عن الإسلام ومصالح المسلمين ، لذلك لم يلتحق بأي من الأحزاب السياسية حتى سنة 1940 إذ انضم إلى (الحزب الإسلامي الأندونيسي) برئاسة الدكتور سوكيمان .. ومن هنا أخذ سبيله إلى العمل السياسي ، فما لبث أن برز كأنموذج للزعيم المسلم النزيه .

وأما الحدث الثاني فقد تمثل في التفاعل الذي حدث بين الدكتور ناصر وسوكارنو يقول الأخ محمد سعيد : لقد شهدت باندونغ حركتها الإسلامية بزعامة محمد ناصر ، على حين قامت فيها حركة قومية بزعامة سوركارنو ، تتخذ من النعرة القومية متكأ لها ..

كان سوكارنو يدعو إلى القومية الأندونيسية كسناد لحركة التحرر ، على حين كان محمد ناصر وصحبه يدعون إلى الإسلام كمنطلق للتحرر، وقد بذل جهداً عظيماً في شرح حقائق الإسلام وفاعيلية تعاليمه في تنظيم الحياة العامة .. وقد بلغ التفاعل بين الحركتين أشده فيما بعد .

حزب ماشومي

عقيب استقلال أندونيسية عام 1945 وبعد انحسار الاحتلال الياباني اجتمع زعماء الأحزاب والجمعيات الإسلامية السابقة للاحتلال الياباني في مؤتمر عام بمدينة جوكياكارتا بتاريخ 7 نوفمبر 1945 وقرروا نبذ الفرقة والانضمام في عمل سياسي يوحد كلمتهم ، فكان من ذلك (مجلس ماشومي مسلمي أندونيسية) وفي هذا الاجتماع التاريخي انتخب محمد ناصر ممثلاً للشبان المسلمين في ذلك المجلس ، ثم ما لبث أن بويع رئيساً عاماً للحزب لفترة امتدت ما بين 949 و 959 ثم خلفه على رئاسة الحزب الأستاذ برادوتو عندما انضم محمد ناصر إلى الثورة الإسلامية بسومطرة لمواجهة انحرافات سوكارنو .

لقد كان لقيام حزب ماشومي هزة عظيمة ، إذ كان يمثل مسلمي أندونيسية في وحدة متلاحمة ، وكان برنامجه السياسي واضحاً وصريحاً قائماً على الالتزام التام بالإسلام . ومن منطلقاته الرئيسية عدم التعاون مع الشيوعيين ومن يتعاطف معهم . ومعلوم أن ذلك إعلان صريح بالمعارضة لحزب سوكارنو .. الذي اتخذ له واجهة (الديمقراطية الموجهة) فما إن حلت أواخر الخمسينات حتى بلغ الخلاف بين الفريقين أشده ، إذ انطلق سوكارنو في خطه المضاد للإسلام ، راكباً نزواته السياسية وغير السياسية ، ومحتضناً الحزب الشيوعي الذي آثره بالرعاية ، وأصر على اشتراكه في الحكم .. وكان ذلك من سوكارنو إيذاناً بالحرب لحزب ماشومي ، ثم لم يتورع عن استخدام كل أنواع الإرهاب في تعامله مع زعمائه ، ومن ذلك استخدامه شباب الشيوعيين والمرتزقة . للتضييق عليهم وتهديدهم ، مما اضطر كثيراً منهم للنزوح إلى سومطرة ، في حين برزت في الأقاليم انتفاضات بقيادة قواد المناطق العسكريين تطالب بعودة محمد حتا إلى الحكم وإقصاء الشيوعيين عن مراكز السلطة .. بل لقد بلغ الأمر إلى حد إعلان بعض المناطق تمردها ورفضها الخضوع لأوامر السلطات المركزية .. فكان هذا نذيراً بمضاعفات خطيرة تفسح السبيل للاستغلال الأجنبي ، فكان على محمد ناصر وصحبه وجوب التدخل لتلافي ما أمكن من الأخطار المتوقعة ، والعمل على ضبط الأمر في الطريق الصحيح .. وطبيعي أن يكون موقفهم مبنياً في الأساس على الوقوف بوجه الخطر الشيوعي ، الذي كانوا يحسبون له ألف حساب ، وقد برهنت الحوادث التالية على صدق توقعاتهم حين انفجر الانقلاب الشيوعي عام 65 ، واغتال الشيوعيون العديد من قادة الجيش ، وكادوا ينجحون في اغتصاب السلطة لولا رحمة الله ، الذي تدارك الخطر الماحق بيقظة العناصر الإسلامية ، ثم استمرت مواجهة الإسلاميين لنزوات سوكارنو حتى تمت الإطاحة به عام 966 .

س ـ لو تفضلتم بالكلام عن آثاركم العملية والفكرية .

ج ـ وأجاب فضيلته بأن ثمة عدداً من المؤلفات والرسائل منها :

1 ـ (كتاب الصوم) 932 .

  2 ـ (إسلاميتين ايديال) 934 .

  3 ـ (المرأة المسلمة وحقوقها) 936.

4 ـ (بببلوفيليزم) 941 .

5 ـ (الحضارة الإسلامية) ط3 من مجلدين .

6 ـ (التركيب الطبقي لمجتمع الإسلام) 950 .

7 ـ (البناء وسط الأنقاض) 951 .

8 ـ (خطبة عيد الفطر) 951 .

9 ـ (هل يمكن فصل الدين عن السياسة؟) 953 .

10 ـ (إسهام الإسلام في السلم العالمي) 953 .

11 ـ (الثورة الأندونيسية) 955 .

12 ـ (الدينية أو اللاتينية) 957 ، وقد ترجمت إلى العربية وصدرت منها طبعتان .

وقد صدر له في الستينات الكتب الآتية :

(الأخلاقيات الحديثة) و (العلم والسلطة والمال أمانة) (وحدة الدين والدولة) و(ابذروا البذور) و(الإسلام والنصرانية في أندونيسية) .

وفي السبعينات صدرت له المؤلفات التالية :

(ابنوا العالم بأعمالكم وأضيئوا الزمان بإيمانكم) و (أعيدوا المثالية مرة أخرى) و (معقل الدفاع الفكري) و (الإسلام والفكر الحر) و (القلق الروحي ومسئولية الأسرة الجامعية والمعاهد العليا) و (آثار الرسالة وأسس الدعوة) و (في ظل الرسالة) و (قضية فلسطين) و (المسجد والقرآن والانضباط) و (الخوف والاستعمار) و (الدين والأخلاق) و (الدعوة والتنمية) و (المحمدية رائدة تجديد الفكر الإسلامي) و (اليد التي لم يتقبلها أحد) و (الإيمان مصدر القوة الظاهرة والباطنة) وتبلغ هذه المؤلفات خمسة وعشرين عنواناً ، وتحت بعضها أكثر من كتاب ، ولعلي نسيت بعضها عند النقل ويلاحظ القارئ من خلال هذه العنوانات ملامح الجدة والعمق والشمول التي يمتاز فكر الدكتور محمد ناصر فهي من هذه الناحية لا تخص أندونيسية وحدها بل تمس واقع العالم الإسلامي بأسره ، بل إنها لتتسع حتى تشمل تطلعات الإنسان أياً كان وأينما كان .

وطبيعي أن شخصية هذه بعض آثارها لا بد أن تتعدد أعمالها ذات الأثر العميق في حياة المجتمع لذلك طرحنا بين يدي الدكتور السؤال التالي:

س ـ إن المطالع لترجمتكم لا بد أن يتساءل عن الأعمال التي توليتموها حتى الآن ؟

ج ـ ومضى الدكتور في سرد هذه الأعمال منذ تخرجه في التعليم حتى يوم لقائه هذا :

1 ـ إدارة مدرسة (روضة التعليم) في باندوبغ .

2 ـ مدير مصلحة التربية والتعليم في باندونغ .

3 ـ أمين سر الجامعة الإسلامية في جاكرتا .

4 ـ عضو المجلس الأعلى الإسلامي الأندونيسي .

5 ـ وزير الإعلام في ثلاث ووزارات .

6 ـ عضو اللجنة الوطنية الأندونيسية  ـ البرلمان المؤقت .

7 ـ عضو البرلمان الأندونيسي .

8 ـ رئاسة مجلس وزراء أندونيسية .

9 ـ رئيس حزب ماشومي .

10 ـ عضو المجلس التأسيسي المنتخب .

11 ـ رئيس المؤتمر الإسلامي بدمشق .

12 ـ نائب رئيس المؤتمر الإسلامي حتى الآن .

13 ـ عضو المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي حتى الآن .

14 ـ مستشار عام رابطة العالم الإسلامي .

15 ـ رئيس المجلس الأعلى للدعوة الإسلامية في أندونيسية .

16 ـ مستشار في عدد من المنظمات والمعاهد والجامعات الإسلامية بأندونيسية وبخاصة اتحاد الجامعات الإسلامية الأهلية واتحادات المعاهد الإسلامية .

ونجد فيما كتبه الأستاذ محمد سعيد عن (محمد ناصر) ما لا غنى عن ذكره لسد بعض الفجوات التي تركها جواب الدكتور الآنف ، وبخاصة في الجانب السياسي ، وما رافقه من ألوان الصراع بين إرادة سوكارنو الاستبدادية واستظهاره بالشيوعيين والقوميين ، وبين المنهج الشوري الذي التزم به حزب ماشومي وأنصاره على مستوى الدولة الأندونيسية كلها .

لقد وجد سوكارنو في حزب ماشومي وأنصاره سداً منيعاً بوجه انحرافاته ، فحشد كل ما حوله من الطاقات لتعويق مسيرته الإسلامية ، ولإقامة العقبات في طريقه ، واستعان لذلك بالنصارى والشيوعيين وبذل المستحيل لتفتيت الوحدة الجامعة داخل ماشومي ، حتى استطاع أخيراً انتزاع جماعة نهضة العلماء من صفوفه ، فأعلنت استقلالها عن ماشومي وأصبحت بذلك حزباً سياسياً مستقلاً ، وبذلك أتيح لسوكارنو أن يدعم مركز الشيوعيين ويفتح لهم السبيل للتغلغل في مختلف القطاعات حتى أصبح الشيوعيون أكبر حزب شيوعي في بلد غير شيوعي خلال عقد واحد من السنين ، بعد أن كان موصوفاً بالخروج عن القانون بسبب ثورته التي سدد بها عام 1948 طعنة غادرة إلى قلب أندونيسية قبل أن تستقر أوضاعها ، وعندما كانت مهددة بعودة الاستعمار الهولندي ، الذي حدث فعلاً في شهر ديسمبر من تلك السنة .

وما إن استوثق سوكارنو من قوته بالشيوعيين والقوميين حتى شرع في مطاردة زعماء ماشومي ، وذلك بتسليط الفوضويين ممن يسمونهم (فيلق الطلبة) وميليشية الشيوعيين ، على هؤلاء الرجال يهاجمون بيوتهم لاختطافهم ، مما اضطرهم إلى التواري والهجرة إلى سومطرة وغيرها ، وأشيع أن هناك محاولة لاعتقال محمد ناصر ، فاتصل به سفراء بعض الدول الإسلامية يعرضون عليه حق اللجوء السياسي إلى بلادهم ، ولعل بعض هذه العروض قد أريد بها تنفيذ رغبة سوكارنو ومن وراءه من الدول الشيوعية في استبعاده ليخلو الجو أمام نزوات سوكارنو وأعوانه ، ولكن محمد ناصر قابل تلك العروض بالشكر والاعتذار ، لأنه لا يستطيع مفارقة الساحة وهي أحوج ما تكون إلى العنصر الإسلامي الصادق .

في هذا البحران الهائل من الاضطراب والانحراف انطلقت في سومطرة ثورة أعلنت رفضها لحكومة جاكارتا التي ألفها سوكارنو على أنقاض البرلمان المنتخب ، وشكلت حكومة مناوئة للوضع الاستبدادي ، غير أن قادة الثورة قبلوا نداء رئيس الوزراء جواندا ، الذي أعلن العفو عن الثوار ووعد بالعمل على تصحيح الأوضاع .. ولكن سوكارنو لم يلبث أن نقض ذلك العفو بفرض الإقامة الجبرية على رجال الثورة باسم الحجز السياسي ، ثم ما لبث أن ساقهم معتقلين إلى السجن الحربي الذي لم يغادروه إلا بعد الإطاحة به في أعقاب الإخفاق الذي انتهت إليه محاولة الانقلاب الشيوعي في ذلك العام .

وهكذا تحررت أندونيسية من كابوس العهد السوكارني وتنفس محمد ناصر وإخوانه الصعداء إلى حين ، بعد أن سلب أعوان الطاغية أموالهم وأمتعتهم ومساكنهم فأصبحوا ولا مأوى لهم ، بيد أن البلية الكبرى التي واجهتهم في هذه المرحلة هي الدمار الذي أصاب المجتمع الأندونيسي في العقيدة والأخلاق ، فكان على هؤلاء المصلحين أن يوجهوا طاقاتهم لتدارك هذا الخراب الرهيب .. ومن هنا كان بروز (المجلس الأعلى الأندونيسي للدعوة الإسلامية) الذي أسلفنا ذكره ، ومهمته الأولى بناء الكيان العقائدي للأمة ، وتصحيح المنطلقات الأساسية التي تلاعب بها سوكارنو والذياد عن الإسلام ضد خطر التنصير الذي استفحلت ضراوته في ظل ذلك العهد البغيض .

ولن يفوتنا أن نذكر بوقف لمحمد ناصر كان ضرباً من الإنقاذ العام لأندونيسية جميعاً ذلك أن المفاوضات التي سبق أن دارت بين هولندة وممثلي الأندونيسيين عام 1945 قد استقرت على قيام عدة دويلات في رباط فيدرالي . ولكن هذا الترتيب قد جوبه بانتفاضات حادة في تلك الدويلات ، إذ أبت جماهيرنا ذلك التقسيم ، وطالبت بتوحيد الجزر كلها في جمهورية واحدة على أن هذا الانتفاض سرعان ما جر اضطرابات أخرى ولا سيما في شرق أندونيسية ، وقد بات الوضع مهدداً بتسلل الشيوعيين للاستغلال الذي هم أتقن الناس له .. فالخطر إذن رهيب ولا بد من تداركه وهذا يقتضي تحويل المسيرة نحو الوحدة ما أمكن ، ولكن وراء التقسيم قوى لا مندوحة من النظر إليها بعين الاعتبار ، وبخاصة أن الجيوش الهولندية ما تزال رابضة تراقب الوضع في حال تهيئها للجلاء ، ولا يستبعد أن تستعيد تدخلها عن طريق بعض المرتزقين من معارضي الوحدة .

في هذا الجو المتلبد بأكداس التوقعات تقدم محمد ناصر بالحل الشافي ، وذلك بأن عرض على البرلمان ـ وهو أحد أعضائه ـ اقتراحاً مفصلاً يقضي بأن تحل كل دولة من مجموعة الاتحاد نفسها ، على أن تشكل عقب ذلك الجمهورية الموحدة .

ووفق الله فاستجابت الحكومات إلى ذلك الاقتراح دون تحفظ ، وأخذت كل دولة بتنفيذ ما يخصها منه ، وتمت صياغة الدستور الجديد على أساس الدولة الموحدة ، وبموافقة الجهات المتعددة ، وبناء على هذا التراضي انتخب سوكارنو رئيساً لجمهورية أندونيسية ، ومحمد حتا نائباً للرئيس ، وأسند إلى محمد ناصر الأمر بتشكيل أول وزارة للدولة الموحدة ، فلم يشرك فيها أحداً من الشيوعيين ولا القوميين ـ جناح سوكارنو ـ لأن هؤلاء قد بدؤوا يتحولون نحو اليسار ..

وهكذا كان مشروع محمد ناصر بمثابة زورق الإنقاذ لجمهور الأندونسيين ، إذ حقق لهم أهم الأهداف وأجلها دون أن تسفك قطرة دم ، أو يراق ماء وجه .. ولولا انحرافات سوكارنو ، ونزواته الاستبدادية وغروره الذي قاده إلى اختلاق ميثاق (البانجاسيلا) الذي سلف ذكره ، إذ أوهمه أنه به يستطيع أن يحول طوائف البلاد كلها عن دياناتهم وتقاليدهم ومواريثهم دفعة واحدة إلى قطيع لا يهمه إلا بطنه ، ولا يفكر ولا ينظر إلا من خلال الثقب الذي يحدده ذلك الميثاق ، الذي سرعان ما ولد مواثيق مماثلة في العديد من بلاد العرب والمسلمين !..

أجل .. لولا تلك الانحرافات وهاتيك النزوات ، وذلك الغرور، لانتهى الأمر بأندونيسية ذات المائة والأربعين مليوناً إلى قيادة المسيرة الإسلامية الحديثة على مستوى العالم كله ..

س ـ إنك تشهد كيف أن المعركة بين الإسلام والجاهلية الحديثة قد بلغت أشدها .. فكيف تتوقع أن تكون النهاية ؟

ج ـ النهاية ستكون نفس ما صارت إليه الجاهلية الأولى ، لأن المعركة فكرية ، والفكر الإنساني قطع مراحل طويلة في مسيرة التقدم والنضج ، والبراهين الناصعة التي قدمها الإسلام عن الكون والعلوم والإنسان تزداد نصاعة وإقناعاً ، وإذا قارنا أوضاع العالم الإسلامي اليوم بما كان عليه قبل نصف قرن من الزمن لما وسعنا إلا أن نحمد الله جل وعلا ، فقد استقلت الشعوب المسلمة وزاد تعداد دولها على الأربعين ، وفتحت أمام أبناء هذه الشعوب فرص التزود بالثقافة الفكرية الرفيعة وطرق البحث والتزود العلمي ، وتخرج الكثيرون من أبناء المسلمين في مختلف التخصصات العلمية البحتة كالطبيعة والفيزياء والذرة ، وكل هذا كفيل بمواجهة ودحض دعاوى الجاهلية الحديثة إن شاء الله .

وقلنا لفضيلة الدكتور :

س ـ هناك تطور ملموس في اتجاهات الشباب المسلم في كل مكان ، فما السبيل إلى ضبطها في طريق الإسلام الصحيح ؟

ج ـ السبيل إلى ذلك هو التدريبات العلمية المنظمة ، والتوجيه المستمر كي يعايش الشباب المسلم جوهر تعاليم الإسلام ، وذلك بعرض النماذج المثالية من حياة الرعيل الأول لشباب محمد صلى الله عليه وسلم ، والمهم في إعداد وتربية هذه الكوادر أن تتاح لهم فرص الاطلاع بالمسئوليات حين تعهد إليهم مهمات محددة لخدمة الأمة " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته " وبجب أن تتاح الفرص أمام الكوادر لتدريب أنفسهم على الإحساس بالمسئولية ، إن مجرد القيام بالواجب دون الإحساس بالمسئولية لن يسفر عن قيام زعامة وراثة منضبطة بالإسلام .

س ـ المتصدرون للإصلاح من مفكري الإسلام مختلفون في نظرهم إلى الواقع فمنهم من يرى البدء بتصحيح العقيدة واستبعاد التأثير الصوفي ، وآخرون يرون تجميع القوى لمواجهة العدو المشترك ـ استعماراً أو أفكاراً ـ دون تعرض للخلافات الداخلية ، فما حكمك على الموضوع ؟

ج ـ في الواقع كثيراًً ما نحس بضيق النفس والشدة حين نرى أنفسنا نواجه ونجابه الكثيرين من الأعداء من مختلف الأشكال والنواحي ، بحيث يتشابه الأمر علينا في تحديد من أين نبدأ ؟ ولكن يجب أن نكون على ثقة ، بأن ما نحتاجه من قوة لمواجهة أي عدو ، لا يمكن أن يفيد دون أن تكون لتلك القوة عقيدة صحيحة . إذن فموضوع تصحيح العقيدة وإن كان مقصوراً على فئة قليلة هي البطانة يعتبر شرطاً ضرورياً على الإطلاق ، وتنشئة الكوادر المبنية على تصحيح العقيدة ليس من الضروري أن يثير التناقض فيما بيننا بله العداوة والخصام والمجابهة الداخلية ، بل علينا أن نسلك الطريق الذي أشار إليه مالك إمام المدينة رحمه الله بقوله (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح أولها) فتنقضي الأشياء التي صلح بها أوائل هذه الأمة ، لأن عيها يتعلق أمر إصلاح الأواخر، وكل ما عدا ذلك لا يلتفت إليه .

س ـ إلى أي حد يمكن للعالم الإسلامي أن يفيد من ثورة إيران الإسلامية ؟

ج ـ إننا مسلمي أندونيسية طبعاً نتعاطف ونعطف على ثورة إيران الإسلامية لأننا نعلم أن إخواننا الإيرانيين لاقوا العنت والعناء الكثير تحت وطأة حكم الشاه الظالم ثلاثين عاماً . وقد سبق أن عانينا شيئاً قريباً من ذلك الظلم أيام الاستعمار الهولندي والاحتلال الياباني ، ثم أخيراً وليس آخراً تحت نظام الديمقراطية الموجهة لسوكارنو ، لذلك فإننا نتعاطف مع إخواننا الإيرانيين الذين يبذلون جهدهم الآن لإعادة تنظيم شئون حياتهم بإقامة دولة عادلة ، والدرس الذي يمكننا أن نفيد منه في أي انتفاضة ضد الظلم والغشامة وهو أن كل سلطة متعسفة ظالمة غير عادلة لا بد لها ـ على المدى القريب أو البعيد ـ من أن تجري عليها سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً .

أما السؤال الخاص بمدى استفادة العالم الإسلامي من الثورة الإسلامية الإيرانية في تطور العمل الإسلامي فهو يتطلب دراسة مستفيضة في وقت ليس بالقصير لأنه ليس بإمكاننا تقييم أمر من الأمور بناءً على معطيات من بلد ما زال يعيش ثورته وقبل أن تستقر الأمور فيه .

وإذا تذكرنا أن هذا السؤال طرح على الدكتور محمد ناصر في مطلع الثورة الإيرانية ثم نظرنا إلى تحفظاته الأخيرة بشأن معطياتها ، أدركنا بعد نظره والعمق الذي تبلغه حنكته السياسية في تقييمه  للأمور .

لقد خيبت الثورة الخمينية الكثير من آمال المسلمين بسيرتها المضطربة ، وطريقتها الدموية التي شوهت مفهوم الحكم الإسلامي بنظر الملايين الذين كانوا يتطلعون إلى حقيقته في نطاق التطبيق ، فجاء تطبيقها العملي صورة رهيبة ضاعفت من آلام دعاة الإسلام ، إذ دفعت الحكام المنحرفين إلى زيادة التنكيل بهم ، واتخذوا من أخطاء تلك الثورة ذريعة مسوغة لمحاربة الإسلام نفسه .

س ـ ما توقعاتكم بالنسبة إلى تطبيقات الشريعة الإسلامية في الباكستان ؟

ج ـ إننا نسأل الله مخلصين أن يوفق الباكستان في جهودها لتحقيق تطلعاتها ، لإثبات الشريعة الإسلامية وتعاليم الإسلام ، هي التي تستطيع أن تكون خير نظام للحياة وتلك مهمة صعبة جداً ، لأننا نعيش الآن وسط خضم من الناس لا يعلمون بعامة ما هي حقيقة الإسلام ، إننا لا نواجه الخطأ في فهم الإسلام أو قلة الفهم له فقط بل نواجه أناساً يتعمدون النيل من الإسلام .

إن تدوين الأحكام واختبار الحكام أمر غاية في السهولة ويمكن تحقيقه في أسرع وقت ممكن ، ولكن بناء الأمة التي ستكون المحكومة بذلك الحكم ، بحيث ينطبق عليهم قوله تعالى [فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً] فذلك الذي يتطلب الكثير من الوقت إلى أسلوب في العمل دقيق التخطيط والتوجيه .

س ـ تكاثرت المؤتمرات الإسلامية في أواخر القرن الرابع عشر ولا تزال تتكاثر فما رأيكم إجمالاً في هذه المؤتمرات ؟ .. وما مردودها للإسلام ؟ ثم ما رأيكم في المؤتمرين الأخيرين حول موضوع الغزو الشيوعي لأفغانستان ومحصولهما للقضية ؟

ج ـ إن عقد المؤتمرات يعني أن هناك فكرة هامة وهذا بحد ذاته سيحقق أمرين ، أولاً ـ حدوث لقاءات بين العلماء والمفكرين المسلمين ، القادمين من مختلف بقاع العالم ليتعارفوا بينهم ويتدارسوا أمورهم ، وهذا سيكون المنطلق بإذن الله في المستقبل إلى التعاون والعمل المشترك البناء ، والثاني إتاحة الفرصة للمؤتمرين من أجل البحث في قضايا تهم المسلمين وتتعلق بمصالحهم المختلفة سواء ما يتصل بشئون دينهم واقتصادهم وشئون سياستهم ، ولئن كان مثل هذه المؤتمرات لم تنجح بعد في حل تلك المشكلات ، فإن إحساس الجميع بوجود تلك المشكلات نفسها ، سيفتح الطريق الموصل إلى حلها مستقبلاً .

س ـ يلمس الزائر لأندونيسية شعوراً إسلامياً قوياً .. فهل ترون وراء هذا الشعور رصيداً كافياً من الوعي الإسلامي الصحيح ؟

ج ـ نعم هناك رصيد كاف إن شاء الله ، وقد حدثت حالات برهنت على ذلك ، وهي أنه كلما حدث ما يمس الكرامة الإسلامية نجد المسلمين شباباً وشيباً يهبون للذود عن تلك الكرامة ، وإليك مثلاً عن ذلك عندما تجرأ أحد القسس النصارى ـ وهو مدرس في مدرسة حكومية للتجارة في ماكاسار ـ على اتهام الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يعاشر بعض النساء سفاحاً ، طالبه تلامذته أولاً بسحب اتهامه ذلك ، وحين عارض وأصر طالبوا الكنيسة المسئولة عنه أن تلزمه بسحب كلامه ولما تملصت الكنيسة عن الاعتراف بمسئوليتها آذن التلامذة إخوتهم وكبارهم فهبوا هبة رجل واحد وقدموا مطالبهم باتخاذ الإجراءات الرادعة تجاه هذا القسيس الأرعن ، ولما أحسوا بعدم جدوى ذلك ، أحرقوا عدداً من الكنائس في مدينة ماكاسار (أوجونغ باندتن حالياً) ومثلاً آخر عندما حاول البعض في البرلمان تقديم مشروع بقانون مدني للزواج يسري على كل مواطن إندونيسي بغض النظر عن دينه وعقيدته ، طالب المسلمون بتعديل ذلك المقترح أو سحبه ، أصلاً ولكن أصحاب الاقتراح نظراً لأنهم يملكون أغلبية ساحقة صمموا وأصروا على المواصلة في مناقشة المشروع ، وهنا هب المسلمون والشباب منهم بشكل لافت للنظر وقاموا بالتظاهرات التي عمت شوارع العواصم ، تشدد النكير على المقترح وتنادي بسحبه ، وكان هذا العمل تلقائياً ، دون أن يوعز إليهم أحد بذلك ودون أن يثيرهم لذلك أحد ، وفي إحدى التظاهرات وقفت إحدى الفتيات تصيح منفعلة :

إنني لا أرضى لنفسي قرآناً هو السفاح عينه .

وحين أحس الشباب المسلم أن هناك موعداً في البرلمان لمناقشة المقترح حضروا إلى البرلمان كأي مواطن يشهد جلسة من جلسات البرلمان ، واحتلوا شرفات الضيوف هادئين دون أن يبدو عليهم أي شيء يثير الاشتباه فيهم ، وحين افتتحت الجلسة وكانت برئاسة الحاج أدهم خالد (من نهضة العلماء) وأعلن عن موضوع الجلسة ، إذا بالشرفات تهدر هديراً ، وإذا باللافتات تخرج من وراء القمصان وتنشر، وفيها التنديد بالقانون المقترح ، وقفزوا فوق حواجز المشرفات لينزلوا إلى حلبة البرلمان وهم يرسلون هتافات صارخة أثارت المخاوف في أعضاء البرلمان ورئيسه ، بله وزير الشئون الدينية الحاج الدكتور البروفيسور عبد المعطي علي ، فغادروا قاعة البرلمان لا يلوون على شيء ، بل إن رئيس الجلسة نسي أن يرفعها وهكذا احتل هؤلاء الشبان حلبة البرلمان ولم يمكن إجلاؤهم إلا بعد استقدام فرقة من القوى الضاربة بالمصفحات ، ودخل الجنود حلبة البرلمان وناشدوا الشباب أن يغادروها ، وانفعل أحدهم حين سمع إحدى الفتيات تستصرخ الضمائر تجاه هذا القانون الذي يريد التلاعب بأقدس مؤسسات المجتمع المسلم ، فذرفت عيناه ، وناشدها مغادرة البرلمان وخرجوا وحين وصلوا إلى ساحة البرلمان وكان هناك بركة ماء قالوا : نريد أن نتوضأ ونصلي فقد حان وقت الصلاة ، فلم يسع الجنود إلا أن يستجيبوا لهم وسمحوا لهم بالصلاة ثم غادروا البرلمان سالمين ، واضطرت الحكومة في النهاية ، وبخاصة أولئك الذين يريدون استضعاف المسلمين ، إلى سحب القانون المقترح واستبدال آخر به لم يكن صارخاً بتجاهل تعاليم الإسلام .. فلولا وجود رصيد كاف من الوعي الإسلامي الصحيح لما واجهوا كل هذه التعسفات وهم عزل من السلاح ، ولما تحركوا تلقائياً لمقاومة ذلك المشروع ، علماً بأن النظام القائم ، قائم على القوة والحديد والنار، وأنه يكمم كل وسائل الإعلام من إذاعة وتليفزيون وصحافة وكل نأمة معارضة . أرجو أن يكون في هذا ما يثبت وجود الرصيد الكافي من الوعي الإسلامي الصحيح لدى الإندونيسيين .

س ـ كيف تتصورون مستقبل الإسلام في إندونيسية على المدى القريب ؟

ج ـ الإسلام في إندونيسية في الوقت الحاضر يعاني الكثير من النكسات ، وذلك بعد أن سدد سوكارنو الضربة القاضية إلى حزب ماشومي بتحريض وتأييد الشيوعيين ، وكان الحزب مركز قيادة المسلمين الواعية .

 لم يحل سوكارنو حزب ماشومي ولكنه خيره بين أن يحذف أساسه الإسلامي ليؤذن له بالبقاء ، أو الحظر، فاختار قادة الحزب عدم إلغاء الأساس الإسلامي وحل نفسه ، ولا يزال الوضع القائم حالياً شبيهاً بالبارحة مع فارق واحد وعدم وجود الشيوعية ، ولكن جاء بدلها التنصير والنصرانية والعلمانية ومذاهب الجاوية التي تسمي نفسها (أتباع المعتقدات) والباطنية وغيرها ، وكلها أسماء لمسمى واحد ، وأن ما سوف يحدث على المدى القريب هو الصدام والصراع في المجالات السياسية ، وحيث المسلمون ضعفاء جداً وفي الاقتصاد حيث أصبح 80 % من شئون التجارة والصناعة والأعمال بيد الصينيين ، الذين نالوا حظوة لدى العهد الجديد بفضل ما يقدمون من إتاوات ورشوات . غير أنه على الرغم من كل ذلك فإننا معشر المسلمين غير يائسين ولا متشائمين ، على المسلمين مهما كانوا أن يدافعوا عن دينهم وكيانهم وكيانه ، ونجحوا ولله الحمد وقد صمدوا في الدفاع عن شئون التربية والتعليم ونحن متفائلون أننا سننجح بإذن الله قريباً أو بعيداً ، لقد حاول العلمانيون تطبيق علمانيتهم في التربية والتعليم ولكن الله وفق فأبطل كيدهم ، ونحن واثقون من أن التطورات السياسية ليس من السهل برمجتها ولا التكهن بساعة حدوثها ، وما الذي يمكن تطبيقه وتحقيقه وفي أي ظرف ووقت ، ولكننا أحسسنا الكثير من التحقيق لوعد الله القائل [ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين] فقد حدث قبل أكثر من ثلاثين عاماً مضي أن تكهن بعض رجال الغرب ، قائلاً :

قد يكون من الممكن أن تستقل إندونيسية بعد أربعين عاماً أي سنة 1970 ، ولكن خاب فأله واستقلت إندونيسية سنة 1945 أي بعد 15 عاماً من توقعاته ، وذلك بعد أن اندلعت نيران الحرب العالمية الثانية ووصل لهيبها إلى الشرق الأقصى ، باندلاع حرب آسية الشرق العظمى ، ثم انتهت تلك الحرب بسقوط القنبلة الذرية على ناقازاكي وهيروشيما ، التي مهدت لإندونيسية السبيل للتحرر من ربقة الاستعمار كلياً .

س ـ هل يصح القول بأنكم انصرفتم عن السياسة نهائياً لتتفرغوا لتنظيم الدعوة الإسلامية ؟ وما تعليل ذلك وما مردوده ؟

ج ـ عدم قيامي بالتحرك السياسي المباشر، يعني عدم قيامي بقيادة حزب سياسي كما كنت سابقاً ، ومعلوم أن الحزب السياسي (ماشومي) الذي شاركت في تأسيسه وقيادته مدة عشر سنوات قد أجبر من قبل سوكارنو على الخيار بين أمرين ، إما التخلي عن أساس الإسلام أو الحل ، فاختار الثاني كما أسلفت ، ولكن هذا لا يعني أنني تخليت أصلاً عن التورط في العمل السياسي الوطني والعالمي ، ففي الحالات التي تتعرض فيها للخطر مصالح الإسلام والمسلمين في إندونيسية بخاصة أتصدى للعمل ولتحريك الرأي العام لمواجهته واستخدام كل ما يمكن استخدامه للذب عن مصالح الإسلام ، وإن لم أقد حزباً سياسياً ، وكثيراً ما وفقني الله في هذا وله الحمد والشكر، ثم هل في الإسلام تفريق بين السياسة والدين ، وهل لديه شيء لقيصر وشيء لله ، حتى يعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله !.. فالأمر كله لله في الإسلام ، والعمل الإسلامي يشمل كل شيء في هذا الدين والحمد لله رب العالمين .