إدغار آلان بو وقصيدته الغراب

إدغار آلان بو 

وقصيدته الغراب

زهير سالم

يعتبر (بو) من عمالقة الشعر الرمزي العالمي. ولد في بوسطن من الولايات المتحدة عام /1809/. وعاش حياة قلقة نزقة متقلبة وتوفي في تشرين أول /1849/ عن أربعين عاماً.
 

كانت محنة بو في بنائه النفسي فهو (كاتب الأعصاب) كما وصفه بودلير، كما كانت محنته في بيئته الأسرية، حيث تبنته أسرة بعد وفاة والدته، ولم تكن علاقته بوالده بالتبني على ما يرام.وكانت محنته أيضاً في البناء المادي للمجتمع الأمريكي الميكانيكي بكل ثقل الكلمة وظلالها.

عاقر (بو) الخمر، وأدمن المخدرات، والأدب والشعر والفوضى. كان مبدعاً لم يرحمه من حوله، ولم يكتشفه الذوق الأمريكي (العملي)، وإنما تم اكتشافه بشكل خاص في فرنسا وعلى يد شعراء ونقاد من أمثال (بودلير) و(مالارمييه). فنيته ليست في رمزيته فقط، وإنما في عطائه الثر من معين النفس البشرية التي تصفو من خلال شعورها بالعذاب والقهر والاغتراب. قد تكون الغربة الحقيقية هي التي يعانيها الإنسان وهو يعيش وسط أهله وذويه.

كان (بو) شاعراً وقصاصاً وناقداً، ليس فقط في سياق الأدب الأمريكي الذي فتح نوافذه على العالم وإنما على مستوى الأدب العالمي. اعتبره بودلير الفرنسي (قلبه المُعرَّى) ورأى فيه (دوستوفسكي) الروسي (كاشف الزيف ونازع الأقنعة).

الغـراب

(الغراب) إحدى رمزيات الشاعر الكبير، ومن القصائد المعدودات في سياق الأدب العالمي، عبر (بو) من خلالها عن نوبات الشك واليأس التي انتابته بعد وفاة عزيزته ليونور.

ففي خلوة للشاعر، في منتصف ليلة من ليالي يأسه وحزنه، بعد فقد حبيبته (ليونور)، في منتصف ليلة عاصفة وباردة وموحشة، كان الشاعر يجتر فيها حزنه، ويبحث عن فرجة أمل للقاء، لقاء الفقيدة العزيزة بعد أن ضمها الموت الموحش، يسمع فجأة قرعاً يرعبه، إذ ليس الوقت وقت زيارة، يظنه أولاً على باب غرفته، فيحاول أن يطمئن نفسه، فيردد إنه ضيف جاء متأخراً.. ولكن اليأس والشك نادراً ما يأتيان النفوس من أبوابها. يفتح الشاعر الباب فيرى الظلمة تحدق فيه، فيعود أدراجه.. ولكن وقع خطوات اليأس تتسلل هذه المرة أقوى وأوضح إنها من هناك من (النافـذة)، من خلف الستائر المخملية الناعمة التي تداعبها الريح العاصفة، يفتح الشاعر النافذة فيقتحم عليه بلا استئذان غراب أسود مجهد يبدو أنه قادم من شطآن بعيدة، أي من أعماق نفس الشاعر، من (الملاغمة) النفسية الذاتية التي تمور بالشك وباليأس وبالتشاؤم.

يقتحم (الغراب) غرفة الشاعر، ليستقر فوق تمثال قرب باب الحجرة. وتبدو رمزية (الغراب) واحدة لدى الكثير من الشعوب وأبناء الحضارات، فهو رمز اليأس والبؤس والبين والخراب. حين يستقر الغراب على منبره ذاك، يجثو الشاعر أمامه ضعيفاً واهناً يحاول أن يستلطفه أو أن يستميله أو أن يرشوه ليقدم له بعض الأمل أو العزاء، وهو يبحث عن فرصة للقاء مع حبيبته الغالية التي ذهبت ويريد الشاعر أن يستبشر أنها يوماً ستعود، وأنه سيلقاها في (النعيم) البعيد أو (الأبعد) !!

وهنا يبدأ حوار طويل وعنيف بين الشاعر الضعيف المستضعف والغراب القاسي والمتغطرس. يحاول الشاعر في هذا الحوار أن يتعرف على حقيقة الغراب، وعلى طبيعة الرسالة التي جاء بها، وعلى الأرض التي جاء منها ؛ ولكن الغراب رسول الشؤم واليأس والشك يصر على إلقاء نبوءة واحدة في وجه الشاعر (لا عود..) أو حرفياً (ما فات فات) أو (ما مضى لن يعود). كانت تلك هي النبوءة التي يرفض الغراب أن يتزحزح عنها.

في الأثناء تنتعش نفس الشاعر ببعض الأمل، يستشعر عطراً ملائكياً ينتشر حوله، ويترع له كأس السلوى، ويغشي نفسه ببعض الأمان. ولكن الغراب يصفعه على وجهه من جديد مردداً بصلافة وقسوة نبوءته الكريهة: (لا عود..)

وتبلغ القصيدة ذروتها حين يتساءل الشاعر المنهمك في لجة حياة مادية لا ترحم: عن فرصة للقاء في النعيم الأبعد ؟ (عن الجنة الموعودة) وعن أمل في أن يضم غاليته المتلألئة إليه فيها ؟ فتجيبه ظلمة الكفران التي يمثلها الغراب رسول الشيطان: أن (لا عود..)

عندها يحاول الشاعر أن يتحرر من شبح يأسه وتشاؤمه وكفرانه فيرمي الغراب بطلاق بائن، ويطالبه أن يعود من حيث جاء، ولكن الغراب الذي يجسد شك الشاعر وتشاؤمه ويأسه يظل عالقاً على باب حجرته. ويظل (ظله) يمتد في نور مصباح الشاعر !! في هذه المعركة الخالدة المستعرة بين الشك واليأس وبين نور مصباح الأمل. هنا تقفز روح الشاعر بعيداً تنطلق هي الأخرى لتتحرر من الشك واليأس والتشاؤم والمشاعر المريضة التي تجهد لتكريس أسرها. تنطلق وهي ترقب ظل الغراب على أرض الحجرة، يتراقص في ضوء مصباح الشاعر ويردد وبلا ملل لا عود..

ربما نستطيع أن نصنف قصيدة الغراب في إطار الأدب (التأملي) أو (الصوفي) في الصراع بين اليأس والأمل. بين النفس الخاوية البائسة التي تسحقها المادية الطاغية في عالم الحس المحدود، وبين النفس التي ينتعش فيها مصباح الأمل، ليحيل اليأس إلى ظل يعيق بعض شعاع النور، ولكنه يقدر دائماً على أن يحرر الروح من الأسر.

لنترك للقارئ أن يستمتع بالقصيدة على طريقته. دون أن ننسى أن لكل قارئ في هذه الحياة غرابه الذي يقتحم وحدته، ويعكر هدأته، ويلقي فوق رأسه نشيد اليأس: لا عود .. لا عود.. كما أن لكل قارئ مصباحه الذي ينير له دياجير النفس قبل أن ينير سبل الحياة.

لن نتدخل في حل الرمز أكثر، وإنما بقي أن ننوه بأن للقصيدة أكثر من ترجمة لأكثر من لغة في العالم، فلها أكثر من ترجمة فرنسية، وأكثر من ترجمة عربية أيضاً. نأخذ عن بودلير من الفرنسية، ونستعين بترجمة يوسف الخال، وكميل قيصر داغر من العربية فلهما ما يستحقان من شكر وعرفان.

الغـراب

(رسـول الشـك واليـأس )

كنت (وهناً)(1) واهناً ضجراً

أقلب كتاباً غابراً لحكمة منسية.. !!

أدهده رأسي، وسنان(2)، وفجأة أرعبني صوت خفيض.

وكأنما أحد يقرع بلطف باب حجرتي.

تمتمت، (مطمئناً ذاتي)(3)، هذا زائر يقرع باب حجرتي،

ولا شيء غير هذا.. (أكدت لنفسي): أن لا شيء غير هذا

*        *        *

كان ذلك في، جُمادى (كانون)(4) ، حيث تجمد الدماء في الشرايين.

كانت كل جمرة تخبو، تطرز الموقد برمادها..

كنت أنتظر الصباح بلهفة.. لم أجد عند كتبي مخرجاً من حَزَني..

حَزَني لفقدي (ليونور)(5) النقية..

تلك الغادة المتلألئة، الفريدة، التي اسمها الملائكي (ليونور)

التي لا أحد يناديها بعد هنا..

أذعرتني خفقات الستائر الأرجوانية

الحريرية مع نعومتها وخفوتها

ماذا هناك ؟!

انتصبت واقفاً، مطمئناً، رددت لنفسي..

زائر يطرق باب غرفتي..

زائر متأخر يقف على الباب،

وليس ثمة شيء (يثير الفزع..)

استعدت قواي، وثاب إلي رشدي، صرخت:

عذرَك، سيدي، أو سيدتي

كنت نائماً وأنت قرعت الباب بلطف

قرعت بلطف باب حجرتي

تأخرتُ لأنني لم أسمعك

وافتح الباب على المصراع..

فلا أرى إلا وجه الظلام..

حملقت في الظلمة، وجلاً مندهشاً..

تختلط في مخيلتي تصورات رهيبة..

لم تعكر نسمة أو حركة صفو الظلام..

انطلقت كلمتي همساً (ليونور)

وردد الصدى همس (ليونور)

وانتهى كل شيء..

     

عدت إلى مضجعي، شيء في صدري يمور.. !!

من جديد أسمع الطرق أقوى..

لا شك، مطمئناً خوفي، أن شيئاً على نافذتي

لا شك، إنها الريح، مطمئناً، وتحركت لأبعد الفزع،

وأكشف وجه الحقيقة..

فتحت النافذة، ليقتحم علي بضوضاء

غراب بهيم، وكأنه انسل من حفل طقسي غابر.

لم يستأذن.. ولم يتردد، اندفع داخلاً

وحط بلا مبالاة، بكبرياء على باب حجرتي

توقف فوق تمثال (بالاس) فوق الباب

استقر بهدوء وبلا مبالاة..

     

وجدت في طائر الأبانوس، وفي سرباله البهيم

سلوى همومي:

أيها الطائر، المجرد من العرف والزينة،

لست بالجبان..

أيها الغراب الهرم، أيها الشبح الداكن والشارد

بعيداً عن شطآن الظلمة..

أخبرني ما كان اسمك الرباني هناك..

أجابني الغراب: لا عود..(6)

     

عجباً، كان الطائر المقيت يتحسس كلماتي،

ولكن بدا جوابه بلا سياق..

إذ لا أحد من الناس رأى

مرة غراباً على باب حجرته

يزعم أن اسمه (لا عود..)

     

ولكن الغراب الجاثم على التمثال عند باب حجرتي، قال:

كلمة واحدة، كانت خلاصة رؤياه

لم ينبس بسواها، ولا خفق بجناحيه

قلت لنفسي، أصدقاء قبله فارقوني، طاروا..

وهو غداً يفارقني، كما تلاشت مع الآخرين جميع آمالي..

ردد الطائر على الفور (لا عود..)

     

تمتمت، وقد أزعجني، أن ينعق بحسم بمثل هذا الجواب

لا ريب أن هذا اللفظ، هو كل ما يعرف الغراب

هو كل ما لديه

تعلمه من عجوز بائس طريد

حاصره قدره باليأس فغدت أغانيه بقفلة واحدة..

كل أناشيد أمانيه الجنائزية تردد

دائماً القفلة الحزينة

أبداً، لا عود..

     

من جديد قادني الغراب من روحي الحزينة،

لاتخذ مقعدي إزاءه، أمام الباب والتمثال

أحاول بعد أن أستقر مكاني

أن أربط بين الرؤية في سياقها

أتساءل: عن سر طائر الشؤم هذا ؟

الطائر العجوز المنكود القاسي، ماذا يعني

وهو ينعب فوق رأسي: لا عود..

     

هذا الذي أحاول تفسيره، وأنا أتأمل بصمت

الطائر الجاثم أمامي، ولهيب عينيه يخترقني

ويحرق جوهر روحي..

أحاول أن أفهم، ورأسي إلى الخلف، يستند إلى وسادة مخملية

وشعاع المصباح ينساب إلي..

وبين وسائد المخمل وألق المصباح

والهامة المستندة: آه.. ثم آه

                    لا عود.. !!

من منبع خفي بدأ العطر يضوع في الهواء..

منبع تحركه ملائك تلامس أقدامها بساط غرفتي

(ناديت): إنها أَمَنَةٌ، إنها منحة ربانية، فمتع نفسك أيها الشقي

أَمَنَة تحملها الملائكة إليك كأس سلوى لذكرى (ليونور) التي تحب..

ارتشف كأس سلواك، وانس الغالية

ليونور..

قطعني الغراب فنعب: لا عود..

     

قلت: يا أيها المتنبئ ! أيها الشرير، كائناً من كنت:

طيراً أو شيطاناً أو كاهناً..

سواء أرسلك الشيطان، أو قذفتك عاصفة الريح..

بائساً، وعنيداً فوق هذه القفار العجيبة

قذفتك إلى منزلي المملوء بالوحشة أتوسل إليك:

قل الحقيقة، واصدق في الخبر:

هل ثمة عطر في الأرض المقدسة ؟ أتوسل إليك:

قل الحقيقة واصدقني الخبر

أجاب الغراب: لا عود..

     

أيها المتنبئ ! أيها الشرير: كائناً من كنت:

طيراً أو شيطاناً أو كاهناً

أنشدك بهذه السماء التي تظلنا..

وأنشدك بالرب الواحد الذي نعبده أنا وأنت

قل لي، قل لروح يتغلغلها الحزن:

هل هناك في النعيم الأبعد

أستطيع أن أعانق الطيبة الطاهرة

التي يطلق عليها الملاك (ليونور):

أجاب الغراب: لا عود..

صرخت فيه: هذا فراق بيني وبينك

أيها الطائر، أو أيها الشيطان

ارجع من حيث جئت، إلى العاصفة

أو إلى شواطئ الظلام..

لا تترك منك في هذا المكان أثراً،

ولا ريشة سوداء تذكر بإفكك المفترى..

(عد) ودعني لوحدتي، اترك التمثال فوق باب حجرتي

انتزع منقارك الذي غرسته في قلبي، وابتعد عني..

قال الغراب: لا عود..

     

ومنذ تلك الليلة، مازال الغراب

 مستقراً فوق التمثال على باب حجرتي

يشع من عينيه حلم شيطاني

بينما يمتد ضوء مصباحي على الأرض

ويمد ظله طويلاً على أرض غرفتي..

بينما تمتد روحي خارج دائرة الأسر

أبداً، لا عود..

 

(1) ـ وهناً: تقول العرب جئته وهناً أو موهناً من الليل أي بعد أن مضى شطر منه. وفي الأصل (منتصف الليل) وهكذا ترجمها غيرنا وما اخترناه أليق بلغة الشعر.

(2) ـ وسنان: من يداعب النعاس أجفانه. فيغلبه مرة ويدفعه مرة. ومنه السِّنَة من النوم.

(3) ـ كل ما نضعه بي قوسين هو زيادات للقفز على فجوات الترجمة.

(4) ـ يشير الشاعر بكانون إلى شدة البرد. والعرب تسمي شهر جمادى إشارة إلى ما يكون فيه من برد وتجمد. وقد اخترنا هذا التركيب: من جمادى معناه ومن كانون ظرفه الزماني

(5) ـ ليونور: اسم صاحبة الشاعر الفقيدة التي كان يعتكف حزناً عليها.

(6) ـ بشارة شؤم الغراب التي عليها مدار القصيدة كلمة واحدة هي (نيفيمور) والتي تعني ترجمتها الحرفية (ليس بعد اليوم). ترجمها الأستاذ يوسف الخال (ما مضى لن يعود). أما الأستاذ داغر فقد رأى أن يحافظ على لفظها بجرسها ومعناها كما هي فأوردها بلفظها الأجنبي (نيفيمور). المعنى الأدق الذي يمكن أن تترجم إليه العبارة هو قولنا في العربية (ما فات فات..) ولكن ومن خلال قراءتنا للقصيدة وشعورنا بتركيز الشاعر على عودة حبيبته ليونور ولو في عالم آخر فقد اخترنا هذا التركيب ؛ لأنه في رأينا الأكثر تعبيراً عن السياق المطلوب. بالإمكان أن نضع مكان (لا عود) (ما فات فات) وربما يؤدي نفس الغرض. وهو يحتوي نفس المستوى من الشاعرية.

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية