الحياة الأبدية

البروفيسور نور الدين طوبجو

الحياة الأبدية

للبروفيسور نور الدين طوبجو

أستاذ الفلسفة في جامعة استانبول سابقاً

ترجمة أورخان محمد علي: بغداد

أنتم تعلمون يا أصدقائي بأنني عندما مت كنتم مجتمعين حول فراشي.. كانت نظراتكم مسمّرة عليّ كما لو كنتم تشاهدون لأول مرة إنساناً يموت، ولكن الحقيقة هي أنكم كنتم تحبونني لأول مرة.. أما أنا فقد كنت سعيداً إذ أرى حولي أول اجتماع لأصدقائي مُفعم بالحب الخالص...

لقد أتيتم إليّ - أول مرة- دون توجس بقلوبكم.. جئتم كما خلقكم الله.. لأول مرة كنتم حولي محبة فيّ، لا من أجل ثروتي أو قوتي أو لشبحي الموجود بينكم، حتى ولا من أجل أفكاري التي أعجب بها فريق منكم.. تلك اللحظة لا يعيش فيها الإنسان سوى مرة واحدة في حياته.. هذه اللحظة التي لا يحصل عليها الإنسان إلا عندما يموت. كم أردت أن أحياها في حياتي.. ولكني -ككل أصحاب هذا الأمل الكبير- رجعت بالخيبة من تجوالي بينكم.. من أجل هذا بكيت عندما رأيت عدم الوفاء في الصداقة، والجحود في بني الإنسان.. ولقد كنتم حول فراش الموت وكأنكم تتألمون لهذا الجحود ولعدم الوفاء، وتحاولون أن تتوبوا عنهما.

لقد كان وجه كل واحد منكم كمرآة تعكس حياة أخرى وجمالاً آخر.. كنت أرى فيها قلب الإنسان، وكنت أستطيع أن أدعو الله أن يجعل من هذه الأيام الثلاثة التي أريتموني فيها عوالم من الروح والحب حولي، على فراش الموت.. أن يجعلها ثلاثة أعوام، ولكن حال تسليمي الروح كانت بدرجة من السكون والحب، بحيث كان من غير المناسب طلب أو رغبة أي شيء آخر.. كنت عطشاً إلى حياة مثالية عندما فارقتكم، ولكنني مع ذلك كنت قد مللت دنياكم المملوءة بالألم وبالشقاء.. كنت تعباً إلى درجة أنني كنت أحس بحاجة إلى أن أنسلخ من الوجود، وأن أستريح في اللانهاية ألوف السنين.

وفي المساء بعد ثلاثة أيام عندما حسبت الأنوار الخافتة حولي نجوماً في السماء.. وبعد أن ودعتكم كلكم واحداً واحداً ابتسمت للمَلَك الذي حضر ليأخذني.. كنت أُحس بابتسامة الطفولة البريئة على وجهي.. أما جبيني -الذي كان يحمل من قبل خطوط خمسين عاماً- فقد كان يتلألأ كجبين صبي بريء. وامتدت الأيادي وأُغلقت جفون عيني، وفارقت بدني كطائر حر.. وللحظة قصيرة حلّقت فوق رأسي ملقياً نظرة أخيرة متحسرة على جسدي المسجّى الذي فارقته، ثم سلمت أمري إلى المَلَك الذي حضر بجانبي.. وذهبت..

ومع أنني فارقت بدني، إلا أنني حملت معي بعض أحواله، لم أعد مع بدني ولكني لازمتني بعض أحواله، أما أنتم فقد فعلتم بجسدي ما لم يفعل به عندما كنت حياًَ.. انحنيتم عليه وبكيتم، ثم حملتموه على أكتافكم، لم تكونوا ترونني، ولكني كنت أراكم.. وعندما دفنتموه في التراب الذي جاء منه، أحسست بأنه يلقى حياة جديدة لا مثيل لها.. كنت أحس بأن جسدي الذي اختلط بالتراب لا يزال يحمل مني أشياء وأشياء.. كان يحس من هذا اللقاء لذة لم يتذوقها أبداً في الحياة.. ما أجمل ما كان يحس من هذا اللقاء لذة نفسه!.. أما أنتم فقد كنتم تبكون عليّ لأنكم لم تكونوا تعلمون إلى أين ذهبت.. عندما كنت بينكم كنت أخشى الموت مثلكم، لأنني كنت أكره أن أفارقكم جميعاً.. عندما انحنى عليّ رسول الموت لم تلاحظوا الابتسامة التي ارتسمت على وجهي، وبدوري لم أستطع أن أقول لكم شيئاً عن حالي.

لم يستغرق انتقالي من دنياكم إلا لحظة قصيرة، وبعد أن دفن جسدي قلت للمَلَك الرسول: "أين نحن ذاهبون؟" لم يقل لي: "إلى حيث تريد" وإنما أجابني قائلاً: "إلى حيث كنتَ قد أردتَ". ثم أضاف: "إن الحياة التي عشتها لم تكن إلا تهيئة لك لحياتك الحقيقية هنا، ولن تلقى هنا إلا الأشياء التي طلبتها في تلك الحياة". سألته:

"وهل أجد كل ما كنت أطلبه؟" فقال:

"ستلقى كل ما كنت تطلبه بإيمان وبحب وبوجد وبعشق.. كل ما كنت تطلبه بحق".

فرغبت في أن أكون مع والدي ومع روحين عزيزتين سبقتاني.. كيف بلّغتُ وأفهمتُ هذه الرغبة؟ لست أدري، غير أنه أجابني في التو:

"ولكنك معهم الآن".

ملكتني الحيرة.. لم أكن أصدق عيني.. لقد كنت معهم.. نعم كانوا هم بأنفسهم.. إن الوسائل التي تأكدت بها وعرفتهم بوساطتها كانت أقوى من الوسائل الدنيوية ألف مرة.. كانوا في أجمل وفي أحب أحوالهم.. في الصورة التي لا يمكن رؤيتها إلا في الأحلام، ولكن أكنت أرى بالعين وأسمع بالأذن وألمس باليد؟.. كلا.. إن وسائل معرفتي أصبحت مَلَكة عندي، بهذه المَلكة أرى أقوى من رؤية العين، وأسمع أقوى من سمع الأذن، وألمس أقوى من لمس اليد.. لقد أبعدت عني هذه الملَكة شعور الشك الذي كنت أحسّه في الدنيا، لم يعد هنا مجال للشك، بإيمان لا يفارقه الوجد والحب، الوجد الذي أصبح دليلي هنا للمعرفة، أما الزمان الدنيوي الذي كان يجري ويسيل، والذي كانت كل لحظة منه تقتل اللحظة التي سبقتها، فلم يعد له وجود هنا، فاللحظة والأبدية هنا الشيء نفسه لا يفترق عن بعضهما، الحياة هنا تيار أبدي في اللحظة التي لا تعرف فيها عذاب الشك.

سألت الملك الرسول:

"من هم الذين يعيشون هذه الحياة الأبدية؟"

قال: "الذين كانوا في الدنيا أصحاب الرحمة والإيمان غير المحدود.. هنا ستتحقق رغبات هؤلاء فقط".

قلت له: "أما أنا فقد كانت رغبتي الدائمة هي السفر، سفر لا يُضجر ولا ينتهي ولا يفرقني عن أحبائي.".

أجابني دون تردد:

"لقد بدأت سفرك هذا"..

يا للحيرة!.. يا للحيرة!.. كنت أقطع المسافات دون أن أفارق أحبائي، ودون أن أهتزّ بأية حركة، ودون أن أحسّ بأني أقوم بأيّ عمل.. كنت أرى في أول الأمر على جانبي الطريق موجودات وركاماً وحشوداً بلا حياة، لم أتبينها جيداً، قلت:

"ما هذه الأشياء؟"

قال: "هؤلاء البؤساء هم الذين لم يفهموا طلب الحق، هؤلاء أصحاب الغرور والمتهالكون على المصالح المادية وعلى الشهوات، لقد كانوا أمواتاً في الدنيا، وهم الآن أموات هاهنا كذلك.. لم يعيشوا لأنهم لم يطلبوا، لقد عاشوا في الدنيا من أجل أجسادهم فقط.. أهملوا أرواحهم، ونمّوا أجسادهم، لذا لا يمكن لهؤلاء أن يَلقوا الحياة الأبدية".

قلت: "ولكن كيف؟ كيف يكون أصحاب هذه الرغبات أمواتاً؟ لقد كانوا في الدنيا أملأ للناس حياةً!.. ألم تقل: إنّ كل واحد سيجد هنا ما كان قد طلبه؟.. لقد كان هؤلاء أكثرنا طلباً".

أجابني قائلاً: "أنت مخطئ.. لم تفهم بعد معنى الطلب.. إن الحرص والرغبة ليسا طلباً، -إن الحريص والمتهالك على المنافع ينسلخ عن كل شيء، ويكون ضد كل شيء، ويطلب لنفسه فقط.. بدايته الكبرياء والغرور، واستمراره بالكبرياء والغرور.. هذا الحرص أسوأ من المسكنة، أما الطلب الحقيقي فهو الاندماج مع الكل، والطلب لأجل هذا الكل".

ومع أنني لم أفهم كلامه جيداً إلا أنني حزنت لمصير هؤلاء البائسين. سألت رفيقي: "ومتى سنقف أمام المحكمة الكبرى التي ستحاسبنا جميعاً؟".

قال: "نحن الآن هناك.. انظر حواليك!".

كنا في ميدان كبير ليست له نهاية، وكانت القوافل الإنسانية بمختلف هوياتها وأحوالها تملأ جوانبه، وفي الوسط كان يوجد موضع كبير حيث كانت جميع القوافل البشرية، وجميع الأفراد يحاسبون هناك فرداً فرداً.. كان ينادى على كل فرد عندما يحين دوره للمثول أمام المحكمة، حيث كان يعترف بلسانه وبوجهه وبلحمه وبجلده ما اقترفه في الحياة الدنيا. لم تكن هناك حاجة إلى شهود، إذ إن كل شيء.. كل ذرة كانت تنطق عندما يحين وقت الكلام، بل إن الحادثة نفسها، والفعل نفسه كانا ينطقان، وعندما جاء دوري دُعيت إلى مكان الحساب الذي كنت أرقبه برهبة وإشفاق.. تكلمت ذنوبي نفسها، أما أنا فقد خجلت، وأحاطني جميع الذين كنت قد أسأت إليهم، وكان أكثر خجلي من الذين ظلمتهم.. آه كم كنت ظالماً دون أن أدري، لقد كنت أحسب نفسي رحيماً.. كنت مقترفاً الظلم بلساني إن لم يكن بيدي، وبقلبي إن لم يكن بلساني، ومن حسرتي وقسوة شعور الخجل الذي أحسست به في حضور الذين ظلمتهم تمنيت لو أنني ظُلمت في الدنيا ولم أظلِم، أو أنني قُطّعت إرباً إرباً ولم أظلم. أما صاحب المحكمة الكبيرة فقد كان يرى ويشاهد حالي.. وضع ذنوبي في كفة الميزان، ووضع وجدي ورحمتي في الكفة الأخرى، فرجحت الأخيرة ونالتني المغفرة الكبرى، أما الذين ظلمتهم في الدنيا فقد انبهروا بهذه المغفرة فسامحوني ورجعوا عن حقوقهم، وهكذا فارقت المحكمة الكبرى. لم أجد هناك عبداً استحق الحياة الأبدية دون أن تشمله المغفرة والعفو، حتى الشفعاء كانوا بحاجة إلى هذه المغفرة الكبرى المهداة، وبعد أن وصلت إلى سر خلاص الروح، بدأت في العيش والحياة التي لا تعرف الزمن، والسياحة التي لا تعرف المكان.

قال لي دليلي: "إن السياحة التي ستبدأ فيما وراء هذا، هي للذين خلَصوا أرواحهم، أما الآثمون فلا يحق لهم ذلك" فسألته: "ما هو الإثم؟" قال وقد اهتز من الحيرة: "ألم تلاحظ نفسك عندما كنت ترتكب إثماً؟ ألم يكن الإثم يسحقك؟ لو رجعت إلى نفسك وفكرت لعرفت أن الإثم هو صغار الروح.. انسحاق الروح.. وفقدان الروح.. أينما صغر فهناك إثم مرتكب، إن الذنوب التي لا تسحق الروح والتي هي نتيجة لأخطاء هي التي تنال العفو، أما الذنوب التي تسحق الروح فليس لها أن تنال العفو، وحيثما عاشت الروح في سلام وطمأنينة فليس هناك إثم. إن الإثم يبدأ عندما يُصاب الروح بهزّة، وعندما يفقد الروح صدقه أمام نفسه، إن الإثم يُظهر نفسه –وهو في الدنيا- بشكل عذاب، ويجر معه كذلك سلسلة أخرى من العذاب، مع ملاحظة شيء واحد وهو أن جميع الأشياء في الدنيا إنما هي رمز وظل للموجودات في هذا العالم الذي يتوصل إليه بعد الموت، لذلك فإن العذاب الذي تشعر به في الدنيا إنما هو ظل وصورة للعذاب الحقيقي، وأنتم كم كنتم مغرمين بالجنة لاحتوائها على فواكه كفواكهكم، وعلى شراب كشرابكم، وعلى مفاتن الشباب، مع أن الجنة –ومثلها الجحيم- صُوّرت لكم حسب مفاهيمكم وعقولكم.. والحقيقة أن هذه اللذّات لا تعدّ شيئاً بجانب لذّات الجنة الحقيقية التي لا يمكن وصفها، والتي تجمع في إطار واحد الحياة الأبدية مع التفكير الحالي من الشك والشبهة، والحركة المطلقة مع التأمل المثالي".

وعندما بدأت في رحلة الحياة الأبدية لم يعد دليلي معي، كنت وحيداً ولكني لم أكن أعرف ما هي الوحدة.. لم يعد هناك فرق بين شيء وبين كل شيء. كنت أرى الجميع هنا يعيشون في أجمل وفي أحب الأحوال إلى قلبي.. كان الإنسان يتكلم مع جميع الأشياء.. وجميع الأشياء تتكلم مع الإنسان..

هناك إنسان متمدد وهو يعانق جيلاً، وآخر يسيل مع الماء ويتأمله في الوقت نفسه.. بعضهم يطيرون وهم ملتحفون بالشفق الوردي، وقافلة أخرى فتحت أجنحتها نحو السحاب جالسة على عين واسعة نابعة من حضن غابة عبقة الأرجاء، يشاهدون جميع الوجوه الجميلة، ويستنشقون عبير الأزهار جميعها أمام المياه الباردة النابعة من الأعماق وكأنها أنوار تفور.. أمامهم جميع الوجوه التي حلموا برؤيتها، فحققوا آمالهم بالصحبة الكريمة التي تمنوها طيلة حياتهم، ووصلوا جميعاً إلى اللذة الأبدية لجميع الأشياء التي أحبوها وتمنوها والتي ذاقوا منها –ولو قليلاً- ورغبوا فيها في الحياة الدنيا.. لقد استطاعوا في الدنيا أن يجدوا طريقاً لنقل أجسادهم إلى دنيا الروح، وأن ينظروا إلى عالم الحقائق وإن كان عن بُعد ومن كوة ضيقة.. كان هؤلاء أرواح الذين لم تكن عباداتهم عن خوف ولا عن عادة، وإنما كانت عن تأمل وعن حب وعن وجد وعشق.. قد هيأوا أنفسهم لهذا اليوم عن علم، فجميع أفعالهم وحركاتهم في الدنيا كانت عبادة، والحقيقة أن الحياة الأبدية نتيجة ضرورية للتهيؤ المستمر الدائم في الحياة الدنيا، وليست منظراً ينكشف في لحظة واحدة خاطئة من وراء الأستار، والإنسان يستمر هنا على الوتيرة نفسها التي انتقل بها من هناك. إن الآثار التي أنجزناها حتى موتنا ما هي إلا جذور للشجرة التي ستستمر بعد الموت، أما أغصان وثمار هذه الشجرة فتابعة لنوع هذه الشجرة التي زرعناها في الحياة، ويستمر الروح في النُّضح من النقطة التي كان قد وصل إليها قُبيل الموت، والعبرة هي في الوصول الصحيح إلى الموت، أو بتعبير أحد الحكماء: "معرفة كيفية الموت".

أما الأشياء والأمور التي رأيتها في عالم الأرواح التي وصلت إلى شاطئ السلامة، فهي تجلّ عن الوصف.. رأيت الرجال والجبال يتسامرون.. رأيت الجداول وهي تتكلم مع الناس وتهب لهم مذاق جميع الأشربة دون أن تكون هناك حاجة إلى الشرب.. ورأيت الأرواح التي بلغت أمنياتها تسبح في أودية واسعة برذاذ المياه التي كانت كتل الثلوج الناصعة ترشها عليهم.. رأيت الغابات التي لم تطأها من الأزل أقدام الآثمين تتماوج في أرجائها وتمتزج ببعضها أنوار الشموس الخضراء الوردية مستغرقة في تأمل آلاف العوالم.. رأيت الشموس التي تُذكّر كل واحدة منها روحاً صالحاً يعيش في عوالم ثملة من الوجد والعشق.. في عوالم لها وضوح العلم وحرارة الحب، وسعة الأمل.

أحياناً كانت رؤية جمال وجه تُغرق هذا العالم بأجمعه في الجمال.. وأحياناً كان الميلاد ذكرى كبيرة يغمر جميع الأرجاء بضياء الشموس.. إذ إن أية عبارة في الدنيا تجعل كل شيء أبدياً، وعالم الجنة هذه مكان للذين كانوا يجدون الطمأنينة وراحة البال في أقل الأشياء، وليس الذين تكثر مطاليبهم ولا تنتهي. رأيت الصابرين يتبوأون أعلى الدرجات هنا، وكنت قد تذوقت نماذج من هذا الجمال –وإن كان على مقياس أقل- في الحياة الدنيا.. والحقيقة أن أسعد لحظات حياتي كانت لحظات التأمل الذي كان مظهراً خارجياً للطمأنينة الروحية عندي.. رأيت هنا الرحمة المنهمرة من الأعالي التي لا نهاية لها إلى الأرض التي لا نهاية لها.. حضرت مجالس الصحبة بين الأنبياء والأولياء.. شاهدت حكمة قوانين الكون التي كانت المعجزة الوحيدة التي تعرفونها في دنياكم، وشاهدت توزيع العدالة الإلهية هنا في ميدان القدر.. ومع أنكم غافلون عنها فإن هذه العدالة كانت مقسمة بأكمل وجه في الدنيا.. تأملت بكل شوق ولذة وجه "الخير" الذي هو وراء كل عمل حق.. علمت أن الدنيا –التي كنتم تحسبونها داراً للشقاء والألم- ما هي إلا ممر للبصيرة والحكمة.. استرحت على الجسر الموصل من الروح إلى الله.. تخلصت من الوحدة القاتلة.. تخلصت من هذه الوحدة التي كانت أكبر عذاب لي في الحياة الدنيا، والتي كانت تمزّقني بين كل شيء وبين كل موجود، والتي كانت تفصلني عن نفسي.. لم يكن لي هناك من بينكم صديق حقيقي.. عشت وحيداً بينكم أسيراً لهذا العذاب.. كنت وحيداً في الليل وفي النهار.. في طفولتي وعلى فراش الموت.. في غرفتي وبين الناس.. عندما خُدعت عندما مُدحت.. في الغربة وبين أحبائي.. وقد كانت الوحدة هي الداء الذي لم أجد له دواءً في الدنيا.. لكأنني عشت لها، وتمنيت الموت دائماً للخلاص منها.. هذا هو الداء تخلصت هنا منه.

وأخيراً اشتقت إلى "الرب" الذي مكنني من المثول أمامه بعض المرات في الدنيا دون عذاب ولا انتظار. سألت رفيقي المَلَك الذي ظهر بجانبي في تلك اللحظة: "أين هو؟" قال: "ولكن ألا تراه؟" قلت: "إن هذه الموجودات التي أراها هي نفسها التي كنت أراها في الدنيا، ولكنها الآن في وضع الكمال وفي أشكالها الأبدية المطلقة.. ولكن أين صاحبها؟.. إن لكل مُلك صاحباً.. وأنا الآن أبحث عن صاحب هذا الملك" ولكن دليلي أسكتني –وكأنه قلب تعرض لإهانة- بلسان تمتزج فيه الرحمة مع الحيرة والتهديد قائلاً: "أأنت مجنون!!.. أيمكن أن يكون هناك شيء غيره؟" وأمام هذا التنبيه رجعت إلى نفسي: نعم.. كل شيء هو.. هو.. هو.. لم أكن منتبهاً من قبل، ففي كل موجود كانت تطل أعين قدرته، لقد كنت في الحضرة العظمى، اهتززت بعنف قائلاً: "يا رب"، كأن جميع الكون، وبكلمة واحدة كأن الوجود خوطب بهذا الخطاب، وكأن الوجود في كل مكان، وفي كل شيء قال: "تكلم!".. ليس كإنسان، بل كشعور لا نهائي، وكقدرة لا نهائية.. لا زمان عنده، ولا مكان لسواه.. لا جديد ولا قديم.. لا مولود ولا ميت.. لا غير ولا شبيه.. لا بادئ ولا منتهي.. لا سبب ولا نتيجة.. لا لا ولا شك.. كنت في سعادة وفي فرحة كفرحة من يولد ولادة أبدية، فرحة لا يوجد مثلها أبداً في الدنيا.. بلا صوت وبلا اهتزاز وبلا سبب.. كأن جميع المخلوقات كانت تخلق في تلك اللحظة.. وكأن كل فرحة هذا الخلق تملأ وتفيض من نفسي.. بكل هذه الفرحة ومع جميع الموجودات ارتفعت، ولكن لم تكن هناك مسافة.. في لحظة انقلبت جميع الأشياء إلى منظر كبير أذابني في داخله.. فكرت ولكن الذي فكر هو.. وجدت ولكن الموجود كان هو.. في أي حال كنت؟.. أين كنت؟.. أكنت موجوداً؟.. نسيت كل هذا، لأن جميع هذه الأشياء كانت قد انمحت عن نفسي، كمثل موسى (عليه السلام) في الطور ومحمد (صلى الله عليه وسلم) في المعراج. في هذا العالم الذي انمحى فيه الزمان والمكان.. كان هناك شيء واحد.. شيء واحد فقط: هو...