حَرْبُ إسرائيل الأُخرى

ترجمة: أحمد العلي

إتغار كيريت – مجلة النيويوركر 25/07/2014

سَمعتُ، في الأسبوع الماضي، ورأيتُ مِراراً هذه العبارة “دَعوا قُوّات الدفاع الإسرائيلية تنتصر”. فقد تمّ تداوُلُها في شبكات التواصل الاجتماعي وكُتِبَت على الجدران ونُودِيَ بها في المظاهرات. يقتبسها الكثيرون من الشُّبّان في فيسبوك، ويبدو لي أنهم يظنون أن هذه العبارة قد نشَأت استجابةً للعمليّة العسكريّة الجارية في غزّة. لكنني مُسِنٌّ بما يكفي لأتذكّر كيف ظهرَت: جاءت في البدء كمُلصَق للسيّارات، ثم تحوّلت لاحقاً إلى تعويذة. لا يتوجّه هذا الشّعار في خطابه، بالطّبع، إلى حَمَاس أو المجتمع الدولي- بل يُقصَد به الإسرائيليون، و يكتنف في داخله رؤيةَ إسرائيل المُلتوية للعالم والتي لا تزال تقودها منذ اثني عشرَ عاماً.

إنّ أوّل فكرة خاطئةٍ تضُمُّها تلك العبارة هي أنّ هُناك أُناساً في إسرائيل يقفون عائقاً أمامَ انتصار الجيش. قد أكونُ أنا من ضمن هؤلاء المُخرّبين المُفترضين، و قد يكونُ جاري، أو أيّ شخصٍ آخرَ يُسائلُ مُقدّمات هذه الحَرب و أسبابها. هؤلاء الشاذّون، الذين تجرّأوا على طَرح الأسئلة أو إثارة المخاوف فيما يخُصّ سلوك حكومتنا، هُم مَن يُكبّلون أيادي جيشنا القَديرة بمقالات الرّأي المُزعجة و النّداءات الانهزاميّة للتحلّي بالإنسانية و التعاطف. يزعمون أنّ هؤلاء هم الأمرُ الوحيدُ المانع لقوّات الدفاع الإسرائيلية عن الانتصار الساحق.

الفكرة الأخرى، وهي الأخطر، و التي يتضمّنها ذاك الشّعار، هي أن قوّات الدفاع الإسرائيلية “قَد” تنتصر. ولا يزال الكثيرون من سُكّان غَربي إسرائيل يُصرّحون في الأخبار: “نحن مستعدون لتلَقّي كل هذه القذائف بلا توقُّف، طالما أنّنا قادرون على إنهاء هذا الشّأن مرّةً واحدة و إلى الأبد.”

خَمسُ عمليّاتٍ ضد حَمَاس خلال اثني عشرَ عاماً (أربعةٌ منها في غزّة)، ولا نزال نرفع هذا الشعار المخادع. الشُبّانُ الّذين كانوا في الصفّ الأوّل خلال عمليّة الدّرع الواقي صاروا الآنَ جُنوداً يجتاحون غزّة بَرّاً. وكانَ هُناك، في كُلّ واحدةٍ من تلك العمليّات، سياسيّون من الجناح الأيمَن و مُعَلِّقون عسكريّون يقولون بأنّ “علينا، هذه المرّة، ألّا نقف عن فعل أيّ شيء، و أن نخوضَ هذا الدّربَ إلى نهايته”. لم أستطع، وأنا أُشاهدهم على التلفزيون، مِن رَدع نفسي عن التساؤل: ما هي هذه النهاية التي يَسعونَ إليها؟ وحتى لو قاموا بتصفية مُقاتليحَمَاس واحداً واحداً، هل هناك حقّاً من يعتقد بأن تَطَلُّع الفلسطينيين إلى الاستقلال الوطني سيختفي معهم؟ حارَبنا مُنظّمة التّحرير الفلسطينية قبلَ حَمَاس، وبَعدَ حَمَاس -إذا افتَرَضنا مُتفائلين بأنّنا بَقينا في الجوار- سنجدُ أنفُسنا نُقاتلُ تنظيماً فلسطينيّاً آخَر. يستطيعُ الجيش الإسرائيلي الفوزَ في المعارك، لكنّ سَلامَ المواطنين الإسرائيليين و هُدوءَ مَعيشتهم لن يتحقّق إلا عِبرَ التسويات السياسيّة. لكنّ هذا، وفقاً للسُّلُطات الوطنيّة التي تُسَيّر الحَربَ الحاليّة، هو ما علينا التوقُّف عن قَوله، لأنّ هذا النوع من الحديث هو تَحديداً ما يَوقِفُ قُوّات الدفاع الإسرائيلية عن الانتصار. في النهاية، عندما تنقَضي هذه العملية، و تُحصى سِجِلّات و أعداد القَتلى، مِن جانبهم و جانبنا، فإن إصبَعُ الاتّهامِ سَيُشيرُ، مَرّةً أُخرى، إلينا، المُخرّبون.

تَمُرُّ أَوقاتٌ يبدو فيها أنّ هُناك حَربان قائمتان: في الواجهة، الجيشُ يُقاتل ضدّ حَمَاس. و في جهةٍ أُخرى، على أرض الكنيست الإسرائيلي، رئيسٌ في الحكومة يدعو رُفقاءنا العرب بال”إرهابيين”، وفي شَبَكات التواصل الاجتماعي هَمَجيّون يُهَدّدون نُشَطاء السّلام، إنهما معاً يضطهدان “العَدُوّ الّذي في الداخل”: كُل مَن لَهُ رأيٌّ مُخالف. لا شَكّ في أنّ حَمَاس تٌشكّل تهديداً لسلامتنا و سلامة أطفالنا، ولكن هل يمكن أن يُقال هذا نفسه عن فنّاني التّرفيه مثل الكوميديانه أورنا بَنَاي و المُغنيّة آشينوام نيني أو حتى زوجتي، المُخرِجَة شيرا جيفن، الذين شُهِّرَ بهم جميعاً و تعرّضوا بطُرُقٍ كثيرةٍ للكراهية و الوَعيد لأنّهم عبّروا علانيةً عن الهَلَع الذي انتابهم جرّاء مَوت الأطفال الفلسطينيين؟ هل الهجمات المتطرّفة ضد الأطفال تُشكّل وسيلةً دفاعيّةً ضرورية لبقائنا، أم أنّها مُجرّد ثَوَرانٍ أعمى من الكراهية و الغضب؟ هل نحنُ حقاً واهنون و خائفون إلى درجة أنّ من الواجب إسكات أيّ رأيٍ يُخالفُ الإجماع، خِشيَةَ أن يُحرّض على إطلاق تهديداتٍ بالقتل ليس فقط ضد هؤلاء الذين يَنبسُونَ به ، و إنما ضد أطفالهم أيضاً؟.

حاول الكثيرون إقناعي بالامتناع عن نَشر ما كتبته هنا. قال لي أحد أصدقائي البارحة: “إنّ لديكَ طفلاً صغيراً”، “من الأفضل أحياناً أن تكون ذكيّاً على أن تكونَ على صواب”. لم أكُن قَط على حق، و بالتالي لستُ ذكياً جداً أيضاً، ولكنّي مُستعدٌ للقتال من أجل حقي في التعبير عن رأيي بنفس الضراوة التي تُظهِرُها الآن قوّات الدفاع الإسرائيلية في غزّة. ليسَت هذه الحَرب من أجل رأيي الشّخصي فقط، و الّذي قَد يكونُ خاطئاً أو بائساً، و إنما هي لأجل المكان الذي أعيشُ فيه، و أُحبه.

قريباً من نهاية الحرب اللبنانية الثانية، في العاشر من أغسطس من عام 2010م، عَقَد الكُتّاب عاموس عوز وأ.ب.يهوشع و ديفد غروسمان مؤتمراً صحفيّاً حَثّوا فيه الحكومة على أن توقف إطلاق النار فَوراً. كنتُ في تاكسي وقتها و سمعتُ التقرير عِبرَ الراديو، قالَ السّائق: “مالّذي يُريده هؤلاء المُقرفون، هاه؟ ألا يُعجبهم أن يُصيب الأذى حزبَ الله؟ لا يكره هؤلاء المُنحَطّونَ شيئاً أكثر من دَولتنا”. و بعدها بخمسة أيّام، قام ديفد غروسمان بدَفن ابنه في مقبرة الجيش في جبل هرتزل. من الواضح أن ذاك “المُنحَط” أرادَ أموراً أخرى غير أن يكره هذه الدولة، و أهمّها على الإطلاق، أنّه أرادَ ابنَه -كالكثيرين من الشُبّان الذين قُتلوا في هذه الأيّام الأخيرة من القتال العَبَثي- أن يعودَ للبيت حيّاً.

إنه لمن دواعي الأسف حقّاً اقترافُ خطأٍ مأساويٍّ، خطأٍ يُوْدِي بأرواحٍ كثيرة. و الأسوأ هو القيام بنفس الخطأ مراراً و تكراراً؛ أربع عمليّات في غزّة، و عددٌ ضَخمٌ من القلوب الإسرائيلية و الفلسطينية التي توقّفت عن النبض، ولا نزالُ ننتهي إلى نفس المكان. الشيء الوحيد الذي يتغيّر حقّاً هو تَسَامُح المجتمع الإسرائيلي مع الانتقاد. باتَ من الواضح خلال هذه العمليّة أن الجناح الأيمن قد فقد صبره في كل ما يتعلق بهذا المصطلح المُربِك: “حُريّة التعبير”. لقد شَهِدنا الكثيرَ من اليمينيين، خلال الأسبوعين الماضيين، يضربون اليساريين بالهَراوات، و يبعثونَ رسائل فيسبوك تتوعّد بإرسال نُشطاء اليسار إلى غُرَف الغاز، و يشجبون و يوبّخون أيّ أحدٍ يتبنّى رأياً يؤخّر الجيش عن ذهابه لطريق النّصر. لقد اتّضح أنّ هذا الطريق الدامي الذي نسيرُ فيه عمليّةً عمليّة، ليس دائريّاً كما ظنّناه مرّةً. إنّ هذا الطريق ليس دائريّاً، بل حلزونيّاً للأسفل، يقودُنا لقوانين جديدة، و أنا حزينٌ جداً للقول بأننا لن نكون محظوظينَ بما يكفي لنحياها.