الظلم يهلك أهله

كان لدى أرملة ابنتان : هيلين ابنتها من زوجها الراحل ، وماروكلا ابنة ذلك الزوج من امرأته الأولى . وأحبت الأرملة هيلين وأبغضت ماروكلا اليتيمة التعسة لكونها أجمل من ابنتها كثيرا . ولم تشغل ماروكلا نفسها بحسن محياها ، ومن ثم جهلت العلة في حنق زوجة أبيها عليها كلما رأتها . كانت تكلف بأشق الأعمال : تنظف الغرف ، وتطهو ، وتغسل ، وتخيط الثياب ، وتغزل الخيوط ، وتحلب البقرة ، وتدخل التبن في الحظيرة  ، وكل ذلك دون عون من أحد . وخلال ذلك كانت هيلين تشغل نفسها بلبس ثيابها الفاخرة ، والذهاب من لهو إلى لهو . ولم تتذمر ماروكلا رغم ذلك ، وتحملت كل الملامات اللاذعة وكل تصرفات الأم والأخت السيئتي الطبع بابتسامة على شفتيها وبصبر حمل وديع . على أن ذلك السلوك الملائكي من جانبها لم يرقق لها قلب هاتين القاسيتين ، بل زادهما طغيانا وسوء خلق ؛ لأن جمال ماروكلا  يزداد مع الأيام ،  ودمامة هيلين تزداد بدورها . ومن ثم اعتزمت زوجة الأب التخلص من ماروكلا بعد أن وعت أنها مادامت في البيت فإن ابنتها لن تحظى يوما بأي خطيب ، ولم ينفع معها التجويع وصنوف الحرمان وسوء المعاملة ، وكل ما استخدم من وسائل لجعل حياتها تعسة  ؛ إذ زادت حلاوة وفتنة للناظرين . وفي يوم من أيام منتصف الشتاء رغبت هيلين في بعض بنفسج الغابات ، فصرخت في وجه ماروكلا : اسمعي ! يجب أن تصعدي الجبل وتحضري لي بعض البنفسج ! أريد بعضا منه لأضعه في ثيابي ، ويجب أن يكون جديدا عطر العبير ، سامعة ؟!

قالت اليتيمة البائسة : لكن يا أختي من قال إن البنفسج يزهر شتاء ؟!

قالت هيلين : يا تعسة ! تجسرين على معصيتي ؟! ولا كلمة ! انقلعي من وجهي ! لأقتلنك إن لم تحضري لي بعض البنفسج من غابة الجبل !

وأردفت الأم تهديداتها إلى تهديدات ابنتها ، وطردت الاثنتان ماروكلا بالصفعات العنيفة خارج البيت ، وأغلقتا بابه وراءها ، فأخذت سبيلها صوب الجبل باكية حزينة . كان الثلج في الجبل عميقا ، وخلا المكان من وجود أي إنسان ، فطال شرودها في أنحائه حتى ضلت طريقها في الغابة ، وجاعت وارتعدت بردا ، وسألت الله موتا سريعا . وفجأة لمحت ضوءا بعيدا فصعدت نحوه حتى اعتلت قمة الجبل . كان في القمة نار عظيمة مشبوبة الأوار تكتنفها اثنتا عشرة كتلة صخرية جلس فوقها اثنا عشر مخلوقا غريبا . ثلاثة منهم شائبو الرؤوس ، وثلاثة أقل مشيبا ، وثلاثة شبان وسماء ، وثلاثة حديثو السن . وقد جلسوا جميعهم حول النار يرقبونها صامتين . إنهم شهور السنة الاثناعشر ، وكان يناير الكبير يجلس أعلى من الشهور الأخرى ، وشعره وشاربه في بياض الثلج ، وفي يده عصا سحرية . وفي البداية  تخوفت ماروكلا منهم إلا أنها استعادت شجاعتها بسرعة ، فاقتربت  وقالت : يا رجال التقوى والورع  ! أتأذنون لي بالاستدفاء بناركم ؟! جمدني برد الشتاء القارس .

فرفع يناير الكبير رأسه وأجابها سائلا : ما أحضرك إلى المكان يا بنيتي ؟! عم تبحثين ؟!

أجابته : عن البنفسج .

قال : ليس الآن موسم البنفسج . ألا ترين الثلج في كل مكان ؟!

_ أعلم هذا تمام العلم ، لكن أختي هيلين وزوجة أبي أمرتاني بإحضار بنفسج لهما من جبلكم ، وستقتلانني إن رجعت بدونه . أرجوكم أيها الرعاة البررة ، نبئوني أين أجد البنفسج ؟!

هنالك نهض يناير الكبير من مجلسه ، واتجه إلى أصغر الشهور ، ووضع العصا السحرية في يده ، وقال : تولَ يا أخي مارس أرفع منصب !

فطاوعه مارس ، ولوح بالعصا فوق النار ، فعلا لهبها في الحال إلى السماء ، فبدأت الثلوج تذوب ، وبرعمت الأشجار كبيرها وصغيرها ، واخضر العشب ، وبزغت بواكير الزهور من بين أوراقه ، وانبعث الربيع ، وبدت المروج زرقا بأزهار البنفسج ، فقال مارس : لميها حالا يا ماروكلا !

فسارعت تلمها مبتهجة سعيدة ، وبعد أن لمت بسرعة حزمة كبيرة منها شكرتهم ، وجرت راجعة إلى البيت . ودهشت هيلين وأمها حين رأتا زهور البنفسج التي ملأ عبيرها جو البيت ، وسألت هيلين ماروكلا : أين وجدتها ؟!

أجابتها : في ظلال الشجر فوق سفح الجبل .

واحتفظت هيلين بالزهور لها ولأمها ، ولم تشكر أختها غير الشقيقة على ما قاسته في سبيلها . وثاني يوم رغبت هيلين في أن تحضر لها ماروكلا ثمار فراولة . قالت : امضي وأحضري لي فراولة من الجبل ، ويجب أن تكون حلوة وناضجة للغاية !

فصاحت ماروكلا : من سمع بفراولة تنمو شتاء ؟!

قالت هيلين : أمسكي لسانك يا دودة ! لا تردي علي ! لأقتلنك إن لم أحصل على الفراولة المشتهاة !

ثم إن أمها دفعت ماروكلا إلى فناء البيت وأغلقت بابه . سارت الفتاة التعيسة إلى  الجبل وإلى النار العظيمة التي تجلس حولها الشهور الا ثناعشر حيث يحتل يناير الكبير المقعد الأرفع . قالت ماروكلا وهي تدنو منهم : هل تأذنون لي يا رجال التقوى والورع بالاستدفاء بناركم ؟ جمدني برد الشتاء القارس .

فرفع يناير الكبير رأسه وسألها : لم جئت هنا ؟! عم تبحثين ؟!

قالت : عن الفراولة .

رد : نحن في منتصف الشتاء والفراولة لا تزرع فيه .

قالت حزينة : أعلم هذا تمام العلم ، لكن أختي وزوجة أبي أمرتاني بأن أحضر لهما فراولة وإلا قتلتاني . أرجوكم أيها الرعاة البررة نبئوني أين أجد الفراولة !

فنهض يناير الكبير من مقعده ، ومضى إلى الشهر القاعد إزاءه ، ووضع العصا السحرية في يده ، وقال : تول يا أخي يونيو المنصب الأرفع ، فطاوعه يونيو ، وما أن لوح بالعصا فوق النار حتى شب لهبها إلى السماء ، فذاب الثلج في اللحظة ، واكتست الأرض خضرة ، ولبس الشجر ورقه ثيابا ، وتفتحت زهور شتى في الغابة . وافى الصيف ، وصارت مجموعات من الزهور الشبيهة بالنجوم والنابتة في ظلال الشجيرات فراولة ناضجة شهية ، وفي الحال كست الفراولة المنفسح القائم في الغابة حتى بدا بحرا من دم ، عندئذ قال يونيو : لميها بسرعة يا ماروكلا !

فشكرت الشهور مبتهجة ، وملأت طرف ردائها منها ، وجرت سعيدة صوب البيت . وتعجبت  هيلين وأمها من رؤية الفراولة التي ملأت البيت بعطرها الشهي . سألت هيلين غاضبة : أين وجدتها ؟!

ردت ماروكلا : في أعالى الجبال . الفراولة النامية في ظلال الزان ليست سيئة .

وأعطت هيلين أمها بعض الفراولة ، وأكلت هي الباقي دون أن تعرض أي شيء منها على أختها غير الشقيقة . وبعد أن ملت الفراولة ثالث يوم اشتهت بعض التفاح الأحمر الطازج . قالت : اذهبي يا ماروكلا وهاتي لي بعض التفاح الأحمر الطازج من الجبل !

ردت : تفاح في الشتاء يا أختي ؟! لماذا ؟! لا ورق ولا ثمر على شجر التفاح الآن .

قالت هيلين : يا كسول ! اذهبي حالا ! لأقتلنك إن رجعت دون تفاح !

وما حدث سابقا حدث لاحقا : أمسكتها الأم بعنف ودفعتها خارج الباب ، فمضت المسكينة باكية إلى الجبل في الثلج العميق ،إلى النار التي تتحلق حولها الشهور الاثنا عشر في سكون حيث يجلس يناير الكبير فوق أعلى صخرة .

قالت إذ دانتهم : يا رجال التقوى والورع ! هل لي أن أستدفىء بناركم ؟! جمدني برد الشتاء القارس !

فرفع يناير الكبير رأسه وسألها : لم جئت هنا ؟! عم تبحثين ؟!

قالت : عن التفاح الأحمر .

قال : لكننا في الشتاء ، وهو ليس موسم التفاح الأحمر .

قالت : أعلم هذا إلا أن أختي وزوجة أبي أرسلتاني لأحضرلهما تفاحا أحمر من الجبل ، وتهددانني بالقتل إن لم أحضره لهما .

هنالك نهض يناير الكبير وقصد أحد الشهور الكبيرة وسلمه العصا السحرية قائلا : تول يا أخي سبتمبر المنصب الأرفع !

فانتقل سبتمبر إلى أعلى صخرة ، ولوح بعصاه فوق النار ، فانفجر لهب أحمر واختفى الثلج ، وساقت ريح شمالية شرقية صرصر الأوراق الذابلة التي كانت ترتجف فوق شجر التفاح أكداسا مصفرة إلى منفسح الغابة ، ولم تظهر سوى أزهار خريفية شحيحة . وفي البداية بحثت ماروكلا دون نفع عن التفاح الأحمر ، ثم لمحت شجرة نامية في مرتفع عالٍ تتدلى من أغصانها ثمار التفاح حمراء براقة ، وأمرها سبتمبر بالإسراع وجمع بعض الثمار ، فابتهجت وهزت الشجرة ، فوقعت حبة تلتها حبة أخرى ، وقال سبتمبر : كفاك ! أسرعي إلى بيتك !

فشكرت الشهور وأسرعت سعيدة إلى البيت . وتعجبت هيلين وزوجة الأب حين رأتا التفاح ، وسألت هيلين : من أين أتيت بهاتين الحبتين ؟!

أجابت : فوق الجبل تفاح كثير .

فسألت غاضبة : لماذا لم تحضري منه المزيد إذن ؟! لا ريب في أنك أكلت أكثره في رجوعك يا خبيثة !

قالت ماروكلا : لا يا أختي العزيزة ! بل لم أذقه بتاتا . هززت الشجرة هزتين فسقطت حبة في كل هزة ، وصدني الرعاة عن هزها بعد ذلك ، وأمروني بالعودة إلى البيت .

قالت هيلين : اسمعي يا أمي ! هاتي عباءتي ! سأحضر بنفسي مزيدا من التفاح . سأتمكن من الاهتداء إلى الجبل وإلى شجرة التفاح . وربما يهيب بي الرعاة : " قفي ! " ، لكنني لن أتوقف حتى أوقع كل ثمر التفاح .

ولم تستجب نصيحة أمها بعدم الذهاب ، بل تدثرت بمعطفها ووضعت قلنسوتها على رأسها وأخذت سبيلها قاصدة الجبل . سارت في كل اتجاه ، وبعد حين لمحت ضوءا أعلى منها ، فسارت في اتجاهه حتى وصلت قمة الجبل ، ورأت النار المتأججة وكتل الحجارة الاثنتي عشرة والشهور الاثني عشر ، ودنت وأدفأت يديها دون أن تستأذن أحدا ودون أن تنطق كلمة ، فصرخ فيها يناير الكبير صرخة شديدة : ما جاء بك إلى هذا المكان ؟! عم تبحثين ؟!

فردت بازدراء : لست مجبرة على إجابتك يا عجوز يا شائب اللحية ! ما دخلك أنت ؟!

وانصرفت قاصدة الغابة ، وتجهم يناير الكبير ، ولوح بعصاه فوق رأسه ، وفي اللحظة تقنعت السماء بالسحب ، وانهمر الثلج رقائق كبيرة ، وناحت ريح جليدية ضارية حول الجبل ، وتخبطت هيلين في العاصفة الغضوب وتعثرت ، ولم يدفىء المعطف اطرافها التي خدرها البرد الشديد . وفي تلك الأثناء كانت أمها في البيت تنتظر عودتها . تطلعت من نافذته إلى مقدمها ، وترقبتها على عتبته دون أن تلمحها عائدة . ومضت الساعات بطيئات ثقيلات ، ولم ترجع هيلين .وفكرت الأم : هل فتنها التفاح عن بيتها ؟!

ولبست معطفها ومضت تبحث عن ابنتها ، وهطل الثلج كسفا كبيرة حتى ستر كل شيء ، وطال جولان الأم في كل مكان ، وصفرت الرياح الشمالية الشرقية في الجبل دون أن يجيب أحد نداءات الأم . وطال عمل ماروكلا وصلاتها وانتظارها دون أن تعود أختها وزوجة أبيها . جمدهما البرد في الجبل حتى الموت . وورثت ماروكلا البيت الصغير والحقل والبقرة . وبعد حين قدم مزارع شريف شاركها فيها وعاش الاثنان زوجين سعيدين آمنين .

*من القصص الشعبي الروسي .

وسوم: العدد649