على رصيف في شارع عربي (10)

د. عامر حسين أبو سلامة

-         صنعت لك الشاي خمس مرات.

-         يعطيك العافية، للأمانة شايك طيب، وتحتاج جائزة تقديرية، على حسن صناعتك للشاي.

-         أعظم جائزة أن عدت سالماً..........والله!! إن عودتك سالماً تعدل عندي، الدنيا وما فيها.

-         إيش الأخبار؟

-         الأخبار عندك.

-         يا سيدي! رأيت اليوم عجباً.

-         ماذا رأيت؟

-         ذهبت إلى حارتنا، فوجدتها قد سقط عليها صاروخاً، وقذفت عليها مجموعة من البراميل المتفجرة.......

-         ( بلهفة...ودهشة) وما كانت النتيجة؟ قل لي بربك؟؟؟!!!

-         يعني ماذا تتوقع بعد ذلك حال هذه الحارة؟........هل أصبحت حديقة غناء؟! أو تحولت إلى ملاعب أطفال، فيها من كل أنواع اللعب؟! طبعاً......

-         طبعاً ماذا؟!! قل لا تخبي علي شيئاً!!

-         صارت حارتنا كأنها خربة قديمة، طالها التهديم من كل جانب، وقد لفت بثوب الحزن، لو رأيتها لما عرفتها، ولظننت أنك في مكان آخر لا يمت لبلدنا بصلة، بيوت مهدمة، شوارع محفرة، أرصفة مكسرة، متاجر محطمة، ستائر ممزقة، أعمدة مهشمة، حدائق محرقة، مدارس مسكرة، مستشفيات مغلقة، لوحات مهترئة، وصور مقززة، مآذن مدمرة، مساجد محترقة، وحالات مفزعة، كهرباء منقطعة، وأشجار مرتعشة، وحتى طعم الماء قد تغير، وشكل الخبز ما عاد مدور!!! صريخ نساء....بكاء أطفال.....أنين جرحى.....صفير رياح.

-         أكمل.........أكمل.....أكمل.

-         عمارة الحاج عمر......

-         جارنا الحبيب.

-         نعم.

-         ما الذي حلّ بها ؟

-         سقطت على الأرض.

-         الطوابق الأربعة!!؟

-         لم يبق منها جدار سليم.

-         وهو...........هو ...........وين صار؟

-         ( يمسح الدمع عن عينيه): رحمه الله.

-         والعائلة؟

-         طيلة الفترة، كنا نساعد في إخراجهم من بين الأنقاض.

-         إنّا لله وإنّا إليه راجعون.

-         الذي بقي حياً منهم، صار معطوباً.

-         ( بذهول وحيرة) والأطفال..... والنساء......والحاج أبو حسن........

-         النظام يقصف عشوائياً......لا يفرق بين شيخ كبير، ولا طفل صغير، ولا امرأة..........العملية عملية انتقام...........وحقد يفرغه بهذه الطريقة الهمجية............وبهذا الأسلوب الوحشي.

-         وباقي أبناء الحارة!!!

-         كل من نزلت عليهم هذه المخربات.... المهدمات..... المهلكات....حصل له ما حصل لبيت الحاج- رحمه الله-

-         إذن أصبحنا مثل المدينة الفلانية، التي نتذكر دمارها، وما حل بها؟

-         بل وأكثر.

-         أكثر!!!! أكثر!!!!

-         تصور المدرسة التي في الحارة.

-         ماذا حل بها هي الأخرى؟

-         صارت مثل مغارات العصر الحجري، التي نراها بالصور.

-         هل قتل فيها أحد....

-         ثلاثة من العائلة التي لجأت من محافظة.........إلينا قبل أيام.

-         والناس؟!

-         في حالة من الإرباك الشديد..........والاضطراب.

-         لماذا؟

-         لأنهم جاءهم هذا الأمر فجأة، لم يكونوا مستعدين له ( ويا غافل، لك الله).

-         وبقية الناس؟

-         متعاونون......متآزرون.....لقد رأيت صورة من التعاضد والتكاتف، لم أكن أتوقعها صراحة.........والمحنة تكشف معادن الناس......هذا يخرج البشر من بين الأنقاض....ذاك يعمل على إطفاء الحريق في زاوية من الزوايا......

آخرون يحملون الجثث إلى بيوت الحارة المجاورة.......وبعضهم انشغل بسيارات الإسعاف لنقل الجرحى.......يعني الناس جميعاً في حالة استنفار كامل، لا تكاد تجد متخلفاً عن ركب هذا المشهد العظيم.

-         لماذا لم تأت لإبلاغي....أو تتصل بي كي نؤدي الواجب؟

-         لقد كنت مشغولاً.....لم أع شيئاً من الدنيا سوى هذا المشهد.....أصلاً لم أتذكر الموعد الذي بيننا إلاّ بعد خروجنا من المستشفى.

-         وما كان من أمر المستشفى؟!

-         قبل الحديث عن المستشفى، أريد أن أتحدث لك عن أسواق الحارة القديمة       ( السوق المقبي)..........

-         هل هذا وقت الحديث عن السوق؟!

-         بينما نحن في طريقنا للمستشفى، إذا بنا نمر من طريق السوق التراثية القديمة............فإذا بها....

-         هل حصل لها شيء، هي الأخرى؟!

-         يا عزيزي............صارت على الأرض..........تهدمت ولم يبق منها شيء صامد..........يا حسرة على ذلك السوق التراثي الجميل....وقاتل الله هؤلاء الهولاكيين الجدد الذين يحرقون الأخضر واليابس.

-         نعود للمستشفى.

-         أما أمر المستشفى، فخليها على الله....

-         قل...قل....تكلم..........لماذا سكت؟!

-         الحالة لا توصف.

-         كيف؟

-         .........المشكلة في المستشفى أنا نعاني من نقص الأدوية، وقلة الأطباء، وندرة في المواد العلاجية الضرورية........ورأيت في المستشفى من فقد بصره........وهو في العشرين من عمره، شاهدت من فقد إحدى يديه، وبعضهم قطعت كلتا يديه، فقد أحدهم أطرافه السفلية، جارنا رامي أصيب بشلل في أطرافه السفلية، بسبب تهشم ببعض فقرات العمود.....أبصرت في زاوية من زوايا إحدى غرف المستشفى.....( وأخذ يبكي...ويبكي....ويبكي)

-         هل هو أحد أفراد عائلتي؟ قل بصراحة.....سأحتسب ذلك عند الله......لا تعتقد أني سأكون جزعاً....أبداً ....أبداً.....هؤلاء كلهم إخواننا وأهلنا...وليس أمامنا سوى التسليم بقضاء الله أمام هذا المصاب الأليم، والحدث الكبير...إذا أحب الله عبداً ابتلاه......قل وستجدني إن شاء الله من الصابرين ......ولن تجد مني غير هذا.

-         هذا هو الظن بك يا صاحبي وعزيزي.

-         إذن قل...ماذا رأيت في تلك الزاوية.

-         ( وهو يمسح الدمع عن عينيه): رأيت شاباً في السادسة عشر من عمره تقريباً، وقد فقد إحدى عينيه....وإحدى يديه.....وإحدى قدميه....ومصاب ببطنه.

-         حسبنا الله ونعم الوكيل!!

-         وهو يقول: الحمد لله كانت لي يدان، فأخذ الله واحدة وأبقى لي واحدة، أعطاني قدمين، أخذ واحدة، وما زالت لدي واحدة، وهبني عينين، راحت واحدة، والأخرى سليمة أرى بها..........هذا فضل الله عليّ.

-         هذه الروحية العالية......هي التي بها تبنى الحياة وتصنع الأمجاد.

-         معنويات الناس عالية............همتهم تناطح الجوزاء.....تصميمهم على المضي في الطريق إلى نهايته، حقيقة على الأرض، ولسان الحال والمقال، يؤكد: على الثبات إلى آخر المشوار، حتى يسقط هذا النظام المجرم، بكل رموزه، وسائر صناع الجريمة فيه.

-         إذن أخي الكريم، علينا أن ندخل المدينة، ونكون بين الناس، نتلمس همومهم....نعيش قضاياهم.....نساعدهم في معركتهم..........نقف إلى جانب مطالبهم العادلة.....نداوي الجرحى........نقدم الإثاغة......ندعمهم بما يلزم حتى يدافعوا عن النفس والمال والعرض والقيم.

-         هيا الوقت ضيق.....والناس بحاجة لنا.

-         على بركة الله.