مالي وسعيد بن جبير؟

د. غازي مختار طليمات

د. غازي مختار طليمات - سورية

المشهد الأول‏

"ساحة رحبة أضيء جانبها الأيمن، فظهرت فيه صومعة رسم على بابها صليب. يدخل من باب جانبي أربعة جنود في زيّ عربيّ قديم".‏

أحد الجند متثاقلاً: أوشكت تلوي خطاي السُّبُلُ.‏

الجندي الآخر: وثنى عزمي السُّرى والمَلَلُ‏

الجندي الثالث: فلنرح أجسامنا.‏

الأول: أين؟‏

الثالث: هنا‏.

الأول "مشيراً إلى الصليب": هذه صومعة لا نزُلُ.‏

الثاني "مشيراً إلى الرابع": نسأل القائد عمّا يرتئي‏

فهو المسؤول عمّا نعملُ‏

الأول: ما يرى القائدُ؟‏

القائد: بِيتوا هَهنا‏ علَّه يرحل عنا الكسلُ.‏

الثاني "وهو يقرع باب الصومعة": راهب الصومعة افْتَحْ‏.

"ثم يكرر القرع": إننا رسل الحجاجِ.‏

الراهب "وقد فتح الباب وخرج": نِعْمَ الرسلُ.‏

مرحباً بالضيف‏، ما بغيتكم؟‏

القائد: رجل عاصٍ‏

الراهب: ومن ذا الرجلُ؟‏

القائد: إنه يدعى (سعيداً‏)

الراهب: مَرَّ بي‏، وهو مثلي راهب معتزلُ.‏

القائد: أسعيد بن جبير؟‏

الراهب: ما انتمى‏.

القائد: أفتيٌّ هو أم مكتهلُ؟‏

الراهب: قاربَ الستين‏.

القائد: هذا صيدنا، فلنصده قبلما يرتحل

أين يثوي؟‏

الراهب: جانب الدير ابتنى دارة، ليس عليها قُفُل‏.

"يضاء الجانب الأيسر من الساحة، فيظهر فيه كوخ، يتجه إليه الشرطة ويبقى الراهب أمام ديره يراقب الشرطة".

أحد الشرطة "وهو يقرع الباب": يا سعيد بن جبير يا سعيد بن جبير‏

الشرطي نفسه "متجهاً إلى القائد": ليس في الكوخ مجيب.‏

القائد: هو في الكوخ، ولكن يحذر الصوت الغريب.‏

الشرطي "مكرراً النداء": يا سعيد بن جبير.‏

الشرطي "واضعاً أذنه على الباب" : أنا لا أسمع غير الصمت والصمت مريب.

ندخل الكوخ، فلن يخرج، لن نحظى برد‏

شرطة الحجاج لا تطلب إذناً من أحد‏

اكسر الباب، فما في الكسر ضير‏

"الشرطي يدفع الباب فيفتح، ويبدو ابن جبير قاعداً يصلي".

ابن جبير "بعد فراغه من الصلاة": مرحباً بالضيف

القائد: ما نحن ضيوف.

إننا من شرطة الحجاج

والشرطة في الليل تطوف

تعقل الشطار والأشرار من كل الصنوف

اغسل الذنب بماء التوب، بالدمع السخي.

"ابن جبير يبدأ صلاته، وابن أحوص يكاد يتمزق من الغيظ".

ابن أحوص: أدخلوا هذا الغبي.

أحد الشرطة: أينا يجرؤ أن يخرج والزأر يدوي

هادراً كالرعد من جوّ لجوّ.

الشرطي الثاني: دعه للوحش طعاماً

ابن أحوص: إن ندعه أطعم الحجاج أوصالي الحساما

إنه يطلبه حيّاً معافى لا عظاما.

"يدخل من جانب المسرح دميتان على هيئة أسد ولبؤة"

الراهب من النافذة: أوترا الأقواس حالاً

ابن أحوص: سددوا منها السهاما

فإذا ما كشر الوحش رميتم بالقسي.

"تمتد الأقواس والسهام من النوافذ ويربض الأسد واللبؤة حول ابن جبير بعد أن يتمسحا به، وهو يصلي"

الراهب: يا إلهي، أي قدّيس سعيد؟

يا إلهي، إنه للبؤة والليث قعيد

وهما كالأب والأم يحوطان الوليد

ابن أحوص: أهو في أمن؟ ومن في الدير في روع شديداً؟

"يخرج الأسد واللبؤة، ويبقى ابن جبير في مصلاه"

ابن أحوص: اهبطوا نلتمس الرضوان من هذا الولي.

"يهبط القوم ويقبلون رأس ابن جبير ويديه باكين، والراهب يودع الشرطة"

الراهب: أبلغوا الحجاج أن الأمن في الإيمان لا زحف الجيوش

إنني آمنت بالدين الذي راض الوحوش

فإذا الإنسان والذؤبان في أمن مديد.

ابن أحوص لابن جبير: كيف أمضي بك للحجاج والحجاج وحش مفترس

يفرس الرضوان بالطبع الشرس

ليس ينجو من أذاه مفصح أو محترس

أفينجو منه صدّيق تقي؟

ابن جبير: امض، هذا قدري

إني بما قد قدّر الله رضي.

المشهد الثاني

‏"قاعة كبيرة، يتصدرها أمير، وحوله قادة وجند وابن أحوص إلى جانبه، وقرب الجدار معتقلون مقيدون بالأغلال".

الأمير: أين من جاء به اليوم ابن أحوص؟

ابن أحوص: ههنا في القيد

الأمير: خلّصه، عسى من شره يتخلص

الأمير "وهو يقترب من الأسير": ما اسم هذا الخارج العاصي؟

ابن أحوص: سعيد بن جبير.

الأمير: قل: شقيّ بن كسير

ابن جبير: إن من سمّى لأدرى بالمسمى أشقيّ أم سعيد؟

وكسير أم جبير حينما يؤتى به يوم الوعيد

فاترك الأسماء يا حجاج لله، وسلني ما تريد

الحجاج: ما ترى يا ابن كسير في علي؟ يدخل الجنة أم يكويه في النار الصلي؟

ابن جبير: أمره لله

الحجاج: قل لي قولة في الخلفاء الأربعة

أيهم أجدر بالحكم وأجدى منفعة؟

ابن جبير: ربهم أدرى بهم منك ومني فعلام الجعجعة؟

"الحجاج يشير إلى غلام، فيلقي بين يديه كومة من جواهر"

الحجاج: ما ترى فيما لدينا من ثراء؟

ابن جبير: صالح إن كان فيه لك يوم الحشر من ذنب فداء

الحجاج: أتراني مذنباً؟

ابن جبير: سل عن خطاياك دماء الأبرياء

الحجاج: أتراني سوف أجري دمك الآن كهاتيك الدماء؟

أم تراني غافراً ذنبك؟

ابن جبير: لا يغفر ذنباً مذنب

إنما الغفران شأن الله يمحو ذنبنا أو يكتب.

الحجاج: أسمعتم؟ إنه يرفض ما كان سواه يطلب

إنه يغلق باب العفو

ابن جبير: بل افتح لي أبواب العقاب

الحجاج: لك أم لي؟

ابن جبير: لي في الدنيا

وفي الأخرى لمن يردي الرقاب

الحجاج: سوف أرديك

ابن جبير: وتردي بعد نفسك

وغداً تعجز أن تطرد من عمرك أمسك

حينما تغرق أمواج دمي الموّار حسّك

راجياً أن يصبح العرش الذي تحتك رمسك

الحجاج: اقتلوه شر قتلة

واجعلوه للذي يمكر بالحجاج مثله

فمتى راوده الغدر ارعوى أو خاف فعله

ابن جبير: يا لسخف الحكم، كم يغري الرجال

يقمعون الحق بالقتل، وهم قتلى الضلال

يدعون المجد والخلد، وتعلو هامهم هام الجبال

فإذا جاءت مناياهم غدا العملاق نمله.

الحجاج: أيها الجند اركلوه

وعن الكعبة في القتل اعدلوه

ليرى الشيطان لا الرحمن إما تقتلوه.

ابن جبير "وهو خارج": هادم الكعبة ينسى أن وجه الله في كل مكان

إنه يرنو بعينيه وأرنو بجناني

فأرى وجه إلهي مشرقاً ملء كياني.

المشهد الثالث

"قاعة الإمارة نفسها، والحجاج على كرسيه بين النوم واليقظة، ورأسه يترنح، ثم يفتح عينيه فيرى حوله مجموعة من الأطباء"

الحجاج: كلما فتّحت جفني بدا قربي طبيب يتربص

أبعدوا عني الأطباء وجيئوا بابن أحوص

أخرجوهم، وليبت قربي ابن أحوص

الحجاج: يا ابن أحوص.. يا ابن أحوص

ابن أحوص: أمر مولاي

الحجاج: أجبني صادقاً، لا تتملص

لم لم يأت سعيد بن جبير؟

ابن أحوص: كيف يأتي، وهو ميت؟

الحجاج: مات!؟

ابن أحوص: من خمس وعشر

الحجاج: لم يمت، بل مر بي كالنمر الغاضب يجري

فإذا جسمي من الخوف بجلدي يتقلص

ابن أحوص: ذاك طيف الشيخ وافاك وما ضل طريقه

صورة فاضت مع الأوهام من ذكرى عتيقة

رسمتها ريشة الروع بألوان الأحاسيس العميقة

مات يا مولاي مات

مات.. والمرء إذا مات فات.

الحجاج: تلك إحدى الترهات

كيف مات؟

ابن أحوص: مات مقتولاً

الحجاج: ومن يقتل شيخ التابعين؟

ابن أحوص: أولم تأمر بأن يقتل؟

الحجاج: كلا، لا أمس الصالحين

ويلتا إن كان ما قلت حقيقة

ابن أحوص: إنه عين اليقين

أنت من أردى سعيد بن جبير

الحجاج: أنا مالي وسعيد بن جبير؟

أنا مالي وسعيد بن جبير؟

أصحيح أن رأس ابن جبير بعد أن جزّ نطق؟

ابن أحوص: وحَّدَ الله، ومن شاهده خوفاً شهق

أرسل التوحيد كالتغريد، بل كان أرق.

الحجاج: فيم أغضبت إلهي؟ ألكي أرضي الخليفة؟

أم لكي أبلغ بالقتل أمانيّ السخيفة؟

أنا مالي وسعيد بن جبير؟

ابن أحوص: خفته ميتاً، وما خافك حياً

الحجاج: خفته أعظم خيفه

من رأى قبلي ليثاً خاف جيفه، من رأى ذئباً إذا صاد بكى قتلى الغنم، يذرف الدمع من الروع ويقتات الألم.

ابن أحوص: ابك يا حجاج، اغسل وضر الظلم بأجفان الندم

ابك فالشيطان لن يسكن بعد اليوم قلبك

إنه يخرج منه كلما استنكرت ذنبك

الحجاج: أنا مالي وسعيد بن جبير؟

ابن أحوص: ابك كي يطرد إنسانك شيطانك، كي ترضي ربك

نم، فإن النوم قد ينسيك كربك

الحجاج: لا تدعني أغمض الجفنين مهما أترنح

فمتى نمت أتاني الطيف كالسيف الملوّح

مرة مات، وإني ميّت في كل يوم ألف موت

فمتى أقضي وأمضي؟ ويريح الناس صمتي

ادع لي، لا.. بل علي

ادع، لو كان سعيد ههنا خف إلي

ودعا دعوته الحرّى لدي

"ابن أحوص يرفع يديه إلى السماء ويتمتم"

"الحجاج مروّعاً يكاد ينهار"

الحجاج لابن أحوص: أفسح الدرب فرأس ابن جبير يتدحرج نحونا، والنور في عينيه شمس تتوهج

أصغ، والتوحيد يعلو يتأرجح

أنا مالي وسعيد بن جبير؟

أنا مالي وسعيد بن جبير؟

"الحجاج يهوي جثة هامدة، وابن أحوص يسرع إليه، ويرفع يده ليجس نبضه فتسقط هامدة باردة.

وفي نهاية المسرحية وفي أثناء إسدال الستار يقول ابن أحوص":

لست أدري، هل سأبكيك وقد أبكيت آلاف العيون؟

أم سأبكي كل من أسقيته كأس المنون

هل سأبكي أم سأحكي:

كيف مات المارد الجبار جيفة؟

كيف خر السيف دون الطيف خيفة؟

كان ما كان، ونرجو في غدٍ ألا يكون.