الملك والحكيم

محمود رفعت

[email protected]

على سبيل التقديم

بعد اطلاعنا على قصة ( الملك والحكيم ) إحدى قصص سلسلة ( ألف ليلة وليلة ) التي تصدر عن دار الشروق، وكنا بصدد البحث عن مسرحيات وقصص تناسب طلاب المرحلتين الابتدائية والمتوسطة في مدرسة الصفوة النموذجية بجهراء الكويت، سعينا لمراجعة النص الأصلي لألف ليلة وليلة، ثم رأينا أن نعمل على تحويل هذه القصة إلى مسرحية، وأن نغير فيها حتى تكون نموذجًا صالحًا لأبنائنا الطلاب يأخذون منها العبرة والعظة في حياتهم، فهدمناها وأعدنا كتابتها من جديد فظهرت مختلفة تمامًا عما كانت عليه من قبل، اللهم إلا في القليل، ولكم نرجو أن ينفع الله بها الجميع، في كل مكان، والله ولي التوفيق.

محمود رفعت

المسرحية:

المشهد الأول:

ينكشف جانب من المسرح عن ديوانية يجلس فيها أب يتكئ على مسند على الأرض، وبالقرب منه ابنه.

الأب: أجل يا بني، لابد أن يكون المؤمن قويًّا، ولكن يجب ألا تنسيه قوتُه هذه نفسَه فيظن أنها قد تغني عنه من الله شيئا، فإن هو تذكر ذلك دائما كانت قوته هذه لله ولخدمة المبادئ السامية التي يأمرنا بها ديننا الحنيف؛ فهي عندئذ قوة حقيقية تنفع المؤمنين وكل مستضعف حتى لو كان كافرًا، أما إن كانت هذه القوة لغير الله وخدمةِ المبادئ السامية، كأن تكون لخدمة شخص أو جماعة ما، فإنها عند ذلك لا تنفع أحدًا، وإنما تكون ضررًا مسلطًا على الناس، وأولهم صاحبها، وهذه القوة التي تضر صاحبها ليست في حقيقتها سوى ضعف قوي. رباه! إن هذا الإنسان مسكين في كل أحواله، فهو مسكين إن كان ضعيفًا، وهو مسكين إن كان قويًّا، وأفضل مثال على ذلك هو الملك يونان...

الابن: ومن ذلك الملك يا أبي؟ وما قصته؟

الأب: كان الملك يونان يا ولدي في أول عهده أفضل ملك عرفته بلاده، فقد كان رجلا تقيا ورعا متواضعا، أحبه الناس فازدهرت البلاد في عهده ازدهارا كبيرا، وكثرت الأموال، واتسع سلطانه حتى خارج مملكته، وكان كل ذلك بسبب صفاته النبيلة التي أكسبته حب الناس فجعلتهم يتفانون في خدمته وخدمة مملكته. ولكن الإنسان يا بني لا يأخذ في دنياه كل شيء؛ فبرغم ما امتلك هذا الرجل من المال وقوة السلطان، كان مريضًا بمرض جلدي لا علاج له، اسمه (البرص)، وهو مرض يشوه جلد الإنسان، ويجعل شكله قبيحًا، ويكفيك أن اسم هذا المرض قد اشتق من اسم ( البُرص). فكان هذا الملك يقضي ليله يصلي لله ويناجيه يسأله الشفاء والرحمة...

أثناء قول الأب عبارته الأخيرة ينكشف الجزء الآخر من المسرح عن الملك يجلس على الأرض في مصلاه يدعو الله، قائلا:

اللهم قد أعطيتني من المال وقوة السلطان ومن كل شيء ما لم أكن أحلم به، ولكنني مع هذا كله لا أجد لذة لأي مما وُهبتُ بسبب هذا المرض الذي لا علاج له إلا عندك، يا رب إن هذا المرض يجعلني في عذاب دائم، فأنا إن لم أنظر في المرآة خوفا من رؤية وجهي المشوه رأيتُ يديّ أو قدميّ، فإذا غطيتُهما كان غطاؤهما تذكيرًا دائما لي بمرضي الذي أتهرب من رؤيته، يا رب لقد بلغتْ قوتي وسلطاني بفضلك وكرمك مبلغا لم أكن أتمناه، وأنا بالرغم من هذا أخشى أن يراني الناس؛ فأتهرب منهم خوفا من أن ينظر إلي أحد باشمئزاز أو شفقة أو...أو شماتة، يا رب اشفني...يا رب اشفني...يا رب اشفني...

فيغيض صوته، وتبقى صورته، ويعلو صوت الأب من جديد يقول لابنه:

أرأيتَ يا بني كيف لم تغن عن هذا الملك المسكين قوته ولا سلطانه! فلقد امتلك كل شيء، ولكنه مع ذلك لم يستطع الاستمتاع به. ولم يخلق الله هذه الدنيا يا بني لمتعة الإنسان، وإنما خلقها – جل شأنه- ليعمل فيها ابن آدم بعمله، ثم إنه ينقلب إلى ربه بعد ذلك، فإن كان ما عمله في دنياه خيرا فرح في الآخرة واستمتع به في الجنة، وإن كان ما عمله شرًّا ذاق وبال أمره في الآخرة وقذف به في النار، ولو أن هذا الملك رضيَ بما قسم الله له، فلربما شعر بمتعة ما كان عنده من خيرات الدنيا، ولكنه لم يرض ولم يشكر فطمع في أن يكون له كل شيء؛ لتكون متعته في الدنيا كاملة غير منقوصة! ولم يزل كذلك يصلي ويتعبد ويدعو الله حتى ابتُليَ بأمر آخر...

المشهد الثاني

يجلس الملك على عرشه، تبدو عليه علامات الجدية والوقار، هو وكل مَن يحيط به في مجلسه العظيم ( في الجانب الأيمن من المسرح) وهم يتحدثون ويتشاورون في أمور المملكة، (لكنْ دون ظهور أصوات)، وعلى باب المجلس من الخارج يجلس الحاجب على كرسيه، وهو رجل عليه سمات السماحة ولين الجانب، والناس من حوله ذاهبون آيبون، يقضون حاجاتهم تبدو عليهم جميعا آثار الود والألفة واللين، يحيون الحاجب عند مرورهم به فيحييهم بأحسن من تحيتهم، ومنهم من يمر به فيُسلّم عليه ويقبله، ثم يظهر على الجانب الآخر من المسرح شيخ ذو لحية بيضاء يحمل عصا وصرة، فيسرع إليه أحد المارة ليحمل عنه ويساعده فيأبى الشيخ، ويأبى المارّ إلا أن يحمل عن الشيخ، فتغيض رغبة الشيخ أمام عزيمة الشابّ.

يقف الشيخ والشاب بعد أن حمل الأخير عن الأول برهةً يتكلمان، فيشير الشاب إلى قصر الملك، فينتبه الحاجب ويقف وهو يتابع الرجلين بنظره، ويظل واقفا منتبها حتى يصلا إليه فيسلمان عليه، ويتكلم الحاجب مع الشيخ قليلا ثم يستئذنه، ويدخل على الملك في مجلسه فيقول له:

-        السلام عليكم ورحمة الله!

-        وعليك السلام ورحمة الله وبركاته!

-        بالباب – يا سيدي – شيخ غريب عن بلادنا، يريد أن يدخل عليك، وقد أبى أن يخبرني بحاجته.

-        أدخله، فلعله يستحي أن يخبرك، أو يخاف إن هو طلب منك شيئا أن تمنعه عنه، وما أظنه إلا مسكينا قد تقطعت به السبل، فهو في حاجة لمال أو لطعام أو لسكن، أدخله– يا بني – لنقضي حاجته، والله المستعان!

يخرج الحاجب إلى الشيخ، ويسمح له بالدخول، فيودّع الشيخُ الشابَّ، ويدخل على الملك بنفس هيئته دون تعديل أو اكتراث، وأثناء دخوله يُوضع أمام الملك حجابٌ لكي لا يراه الشيخ، فيسأل الشيخ بعد دخوله على الملك، فيشير الحضور إلى الحجاب قائلينَ:

-        خلف هذا الحجاب.

فيقول الشيخ:

السلام عليك أيها الملك وعلى جلسائك جميعًا!

الملك والحضور: وعليك السلام ورحمة الله!

الملك: خير يا شيخ؟!

الشيخ: لا شيء يا بني، وإنما أنا كما ترى شيخ كبير، وقد طلبتُ علمَ الطب منذ صغري حتى صرتُ عالمًا بمعظم الأدواء وعلاجاتها، وبينما كنتُ مارًّا ببلدك سمعتُ الناس تذكرك بكل خير ويثنون على عدلك وكرمك وتواضعك وباقي صفاتك النبيلة، كما ذكروا لي ما ابتلاك الله به، وسعيك للتداوي منه، وفشل كل مَن حاول علاجك، فقلتُ: ربما يكون حاكم عادل مثلك أَوْلى بأن أعالجه من غيره لما في ذلك من مصلحة له ولبلاده...

يُنحي الملك السِتر بلهفة، ويقترب من الشيخ بسرعة، ويقول له مقاطعا:

وعندك القدرة لتشفيني!

فيرجع الشيخ خطوة للخلف، وقد امتُقع وجهه وذهب لونه، ثم يقول:

-        يا بني، لا تجعل فرحك بما أقول يُنسيك الله، فإن الأطباء والأدوية أسباب، والله وحده هو الشافي، ولا...

فيقاطعه الملك بلهفة: أكيد أكيد، فالله وحده هو الشافي، ولكن أعندك حقًّا الدواء؟!

فيصمت الشيخ برهة، ولكن فرحة الملك ولهفته تجعله يسرع بالجواب:

-        أجل يا بني، معي الدواء، والله المستعان!

ولغرض في نفس الشيخ استدرك قائلاً:

-        ولكن عدني يا بني أولاً، أن يكون شفاؤك من مرضك دافعًا لك ليزيد إحسانك إلى الناس، والضعفاء والمظلومين منهم خاصة، فلا تسمح لشيطانك أن يُغرر بك بعد الشفاء...

-        أعدك يا شيخ، أعدك، ولكن أين الدواء؟! أين؟!

فيتناول الشيخ صرته، ويخرج منها قصبة مجوفة من الغاب لها مقبض، وكرة صغيرة من القماش، ويقول:

-        اعلم يا بني، أنني قد خلطتُ بعض النباتات والأعشاب، ووضعتها في هذه القصبة المجوفة، وعليك أن تخلع ثيابك هذه، وأن ترتدي ثيابا رقيقة، وتترك ذراعك اليمنى عارية معرضة للشمس ثم تركب حصانك، وتمسك بيمينك هذه القصبة، ثم تضرب الكرة بشدة في الهواء حتى تعرق كفك، فيسري الدواء من القصبة إلى كفك وجسدك، فإذا عرقتَ تماما، فارجع فورا إلى قصرك، واغتسل في حمامك، ثم نم على فراشك، فستصحو بلا مرض إن شاء الله!

فيسرع الملك إلى داخل قصره، وتنزل ستائر المسرح، ويأتي صوت الأب:

-        ولقد فعل الملك كل ما أمره به الشيخ الحكيم، فلما استيقظ من نومه نظر في المرآة، فإذا بالمرض قد ذهب من وجهه ومن باقي جسده، ففرح الملك فرحا عظيما، وأقام الاحتفالات، ووزع الأموال، وأمر للحكيم بدار ينزل فيها بعدما أقسم عليه ألا يترك بلده أبدا..ولم تكن هذه الفرحة التي أصابت الملك مجرد فرحة عابرة، ولكنها كانت فرحة دائمة مستمرة؛ إذ تحول معها الملك من ذلك الرجل الوقور الجادّ العابس إلى رجل سعيد مرح لاه مقبل على الحياة بكل ما فيها من لذات. بكل ما فيها يا بني سواء كان حلالا أم حراما، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

الابن: وصلاة الملك يا أبي ودعاؤه وقيامه الليل!

الأب: كل هذا قد ذهب يا بني مع المرض، وتغيرَ مع تغيُّر الملك، ولمَ العجب يا بني؟ فإن المرض أحيانا يكون نعمة عظيمة! أما الملك فإن الدنيا ولذاتها قد شغلته عن الآخرة بصلاتها ودعائها، كما شغلته عن شئون دولته ومصالح شعبه بعدما كان حريصا عليها، ولما رأى الوزراء والقادة منه ذلك ذهبوا إليه، ونصحوه أن يعود كما كان، فغضب منهم وعاقبهم جميعا بالطرد من أعمالهم، وسجن بعضهم، واستولى على أموال الآخرين، وعيّن بدلا منهم وزراء وقادة فاسدين مفسدين تركوه على حاله، لم ينصحوه بشيء، وتركهم هو أيضا على فسادهم، لم يعاقبهم أو يسألهم عن شيء، وضجر الناس وغضبوا لما ألمّ بهم من ظلم المسئولين الجدد، فذهب بعضهم يشكو إلى الملك، فقال الوزراء والقادة للملك: إن هؤلاء أناس حاقدون كاذبون فيما يزعمون، والأَولى أن يُعاقبوا لكي لا يتجرأ غيرهم على الكذب والافتراء على رجال الدولة، وكان الملك قد ألف الظلم حتى إنه لم يتورع عن الأخذ بـ"حكم" المسئولين الفاسدين- وهم "المتهمون" - على هؤلاء الأحرار الذين استنصروا به، فنكّل بهم حتى يكونوا عبرة لغيرهم ممن يتجرأ على رجال الدولة، فخافه الناس، وسكتوا على رغم غضبهم.

الابن: والشيخ يا أبي؟!

الأب: لقد كان الشيخ يرى كل هذا والحزن والحسرة يملآن قلبه، ولكنه عزم على رغم ذلك على مواجهة الملك وأن يحاول رده عن غِيِّه.

المشهد الثالث

يجلس الملك على عرشه، ومن حوله القادة والوزراء الجدد، والجميع في ضحك ولهو، وقد اختفى الحاجب ووُضع بدلا منه حارسان غليظان، وقد أحيط باب القصر بحاجز أمني يكثر عنده الحرس الغلاظ الشداد، ومن الحراس اثنان يقفان عند الحاجز المحيط بالقصر وعلى الناحية الأخرى من الحاجز فتاة تناجيهما بدلال، وقد اختفت المحلات القريبة من القصر، وكان لا يمر من العامة بالقصر إلا القليل، وكانت حالهم (العامّة) قد اختلفت عن الماضي؛ إذ كانت علامات التعاسة والكآبة هي المسيطرة على وجوههم، وإذا تحدثوا أو نظر أحد منهم إلى الآخر كان الغضب والغيظ أسرع المشاعر ظهورًا عليهم، ومن المارة من يغضبه منظر الجنديين والفتاة؛ لذلك فإنه ينظر إليهما أكثر من مرة أثناء مروره مستهجنا محتقرا، فيراه أحد الحارسين فيشير إليه أن اقترب، فإذا ما دنا الرجل منه أمره بعبور الحاجز، وفتحه له حتى إذا عبره انهال عليه بالضرب والإهانة، وساعده على ذلك صاحبه ثم باقي الحراس، والفتاة تزداد سعادة لشجاعة صاحبيها(!)، ثم يسحبه بعض الحراس منهكا حتى يختفي معهم، ويظهر الشيخ من نفس المكان الذي ظهر منه قبل ذلك حاملاً عصاه والصرة اللتين كان قد أتى بهما؛ فلقد ضاقت به البلاد، وعزم على الرحيل، فيقترب من الحاجز، ويراه بعض المارة ولكن لا يحاول أيٌّ منهم مساعدته، وعند اقترابه من أحد الحراس يقول له:

الشيخ: السلام عليك ورحمة الله وبركاته!

الحارس: وعليك! خير يا شيخ؟

الشيخ: خير يا بني، إن شاء الله، فقط أريد أن أقابل الملك.

الحارس: نعم، نعم، ككل مرة، ألم تمل يا رجل من ذلك! ألم أقل لك ألف مرة من قبل لا سبيل إلى مقابلة الملك؛ فالملك مشغول جدًّا هذه الأيام، ولقد وعد الملك بأن يقابلك بمجرد أن يجد لنفسه وقتَ فراغ؛ لذلك عد الآن إلى بيتك، وسآتي لأخذك عندما يريد الملك أن يقابلك، تفضل، ولا تتعبني معك!

الشيخ: يا بني، قد أخبرتني بذلك من قبل كثيرًا.

الحارس مقاطعًا: الحمد لله! ولماذا تتعبني معك إذن!

الشيخ برفق: لأنني وببساطة قد عزمتُ على الرحيل من هذه البلاد، وليس أمامي إلا أن أقابل الملك اليومَ وإلا فلن أستطيع لقاءه بعد اليوم.

الحارس: ولكن الملك مشغول جدًّا، فما عليك إلا أن تنتظر في دارك حتى يفرغ للقائك أو أن تكتب في ورقة ما تريد قوله له، وتسافر أنت، وأنا أعدك ألا أرمي هذه الورقة أو أقطِّعها، بل سأعطيها له يدًا بيد.

الشيخ: يا بني، لو كانت الورقة كافية لكتبتُها لك منذ زمن، وأرحتك وأرحتُ نفسي، ولكن الأمر أكبر من ذلك، ولابد أن أقابل الملك بنفسي وأتحدث.

الحارس مقاطعا بغيظ: الملك مشغول. مشغول، ولن يتمكن من لقائك، ألا تفهم!

يُحزِن أسلوبُ الحارس الشيخَ كثيرًا، فيتراجع إلى الخلف بادية عليه آثار الخزي، ويذهب إلى حائط بعيد عن القصر ويجلس إلى جواره لا يدري ماذا يفعل ليتخطى هؤلاء الحراس الجفاة. ويمر الوقت حتى إذا جنَّ الليل، وخرج الملك مع أصحابه، يراهم الشيخ من بعيد وهم أمام القصر، فيقف ينادي الملك بأعلى صوته:

-        يا أيها الملك.يا أيها الملك. يا أيها الملك.

ومع وصول صوت الشيخ إلى الملك يختفي الضحك عن وجهه ووجوه أصحابه، ويحل مكانه الامتعاض مع اقتراب الشيخ منهم، فيسرع أحد الحراس يريد أن يضرب الشيخ على رأسه بمقبض سيفه حتى يرده عن الملك وصحبه غير أن الملك يستحي من ذلك فيشير إليه أن يخلي للشيخ طريقه، فيفعل ويقترب الشيخ من الملك ومعه عصاه والصرة، فيتصنع الملك الابتسام، وهو يقول:

-        ما هذا يا شيخنا الحكيم؟ وكأني بك يوم جئتني أول مرة ليس معك إلا عصاك والصرة، غير أن صورتك قد تغيرت قليلاً، فقد نحف جسدك، واصفرَّ لونُك، وعلَتِ الكآبةُ والتعاسةُ وجهَكَ.

وضحك الملك فضحك صحبه، غير أن الشيخ ظل على حاله، فلما رأى الملك منه ذلك توقف عن الضحك، فقال الشيخ:

-        اعلم أيها الملك أنني أحمل أغراضي لأنني قد عزمتُ على الرحيل، ولم أجئ إلى هذه البلاد إلا بهذه الأغراض، وقد قررتُ أن أخرج من هذه البلاد بأغراضي كما هي دون زيادة، وإن كانت قد نقصت بعض الأشياء، كما يعلم الملك، وكذلك نقص وزني واصفر لوني، مثلي مثل عموم هذا الشعب المسكين؛ فلقد كنا سعداء مرتاحي البال هانئي النفس عندما كان الملك جادًّا حازما، لا يترك أمرًا ينغص على الرعية عيشها إلا كافحه وجاهده حتى رده، أما الآن فلقد ترك الملك المنغصات حتى طغت، وتكاثرت حتى أصبحت أكثر من أن يطيق الشعب وحده مواجهتها وكفاحها، والشعب مع ذلك يجاهدها ويواجهها قدر استطاعته، ولكنها تهزمه دائما فترده هي ولا يردها، وتتبعه ولا يتبعها، فلماذا لا ننحف ونحزن ونكتئب، ونحن مهزومون في أوطاننا مطاردون في دورنا وبيوتنا؟!

الملك: تلومونني الآن على وجود بعض المشكلات عند بعض أفراد الشعب، وأنا الذي عاش عمره كله خادما للجميع؛ ففعلتُ ما لم يفعله أحد غيري، وحققتُ له ما لم يكن ليتحقق بدوني، والآن ها هي بلادي آمنة مطمئنة بسبب أعمالي العظيمة، هذه هي الحقيقة التي تحاولون طمسها لمجرد أن بعضكم وجد بعض المعاناة في بعض الأمور! وكأنني أنا المطالب الوحيد بفعل كل شيء لكل إنسان! ثم إن المنغصات جزء لا يتجزأ من هذه الحياة، فالحياة لا تعطي كل شيء، ويجب أن يعرف الشعب هذا الأمر جيدًا، وهذا دورك أنت وأمثالك، دوركم أن توجهوا الشعب للاعتماد على نفسه ولتقبل الحياة كما هي بمحنها وابتلاءاتها، لا أن تقودوهم للثورة على ملوكهم العظام!

الشيخ: إن كنتَ تؤمن حقًّا أن المنغصات جزء لا يتجزأ من الحياة، فلماذا كنتَ تسعى للحصول على كل شيء؟! ثم مَن قال إنك مطالب بفعل كل شيء لكل إنسان؟! لسنا نطالبك بأكثر من حقوقنا عليك، فالشعب وحده بدون قيادة تجمعه؛ فتساعد مُصْلِحَه، وتعاقب مُفْسِدَه - لا قدر له، ولا يمكنه أن يفعل شيئًا، وحتى إن فعل بعض أفراده بعض الخير فإن آخرين كثيرين سيهدمون ما فعل المصلحون القلائل، وهذه هي طبيعة الشعوب؛ ففي كل شعب تجد المصلحين، وتجد المفسدين، فإذا كان المسئولون والقادة من المصلحين غلب الصلاح على الدولة، وإذا كانوا من المفسدين غلب الفساد على الدولة، وزاد أهله، وانتشروا في كل مكان حتى يأتوا على حاضر البلد وماضيه، ثم إنهم يصبحون مع الوقت أساسا للمستقبل، وتخيل مستقبلاً لا يقوم إلا على أكتاف هؤلاء - كيف يكون! ثم إنك لا تدري أثر ما تقول على نفسك وعلى أصحابك هؤلاء؛ فإذا كان على الشعب أن يُسَيِّر أموره بنفسه، وأن يحل جميع مشاكله بعيدًا عنكم، فلماذا يُبقي عليك الشعب حاكما له؟! ألكي تستغلّه أنت وهؤلاء فتُغْتَصب حقوقه، ويُذل في أرضه...

فيضجُّ الوزراء من حول الملك، ويعلو صوتهم، وكلهم يحث الملك على القضاء على هذا الشيخ الذي يهينهم، ويهين الملك، وأن ذلك من شأنه إثارة العامة عليهم، والقضاء على استقرار الدولة، فأن يُقضى على شخص واحد أفضل من أن يُقضى على الملك والدولة، ولكن الشيخ لم يجعل لهم وزنًا، ومضى في كلامه دون أن يهتم بهم أو بما يقولون:

أيها الملك، لقد فعلتَ ما فعلتَ لشعبك من قبل قيامًا عليه بحقه عليك، فلقد كان من حقه أن تحميه من شرور الداخل والخارج، ولقد قمتَ بواجبك فأحسنتَ إلى نفسك وإلى شعبك، ومازلتَ ملكًا على هذه البلاد ولا يزال لشعبها عليك حقوق، فواجب عليك أن تقوم بحقهم، وواجب على الناس أن يساعدوك، كما فعلوا من قبل، فإن لم ترجع عما أنت فيه قيامًا بحقوق الناس فارجع تنفيذًا لوعدك لي...

وكان كلام الشيخ قد بدأ يؤثر في الملك، وقد لاحظ ذلك المسئولون من حوله، فقال كبيرهم بغضب:

وعد! أي وعد أيها الشيخ الخرف! أرأيتَ أيها الملك! إنه يحاول أن يكذب عليك ويخدعك لغايةٍ سيئة في نفسه، إن هذا الرجل غريب عن هذه البلاد، فهو يكرهها ويريد إفسادها وتدميرها، قبل أن يرحل منها إلى بلاده؛ ولذلك...

الشيخ مقاطعا بغضب: يعرف الملك جيدا أنني لا أريد لهذه البلاد إلا كل خير...

الوزير مقاطعا: ولماذا إذن تريد أن تهرب منها! وهل يهرب الإنسان إلا من المكان الذي يخشى فيه على نفسه.قل لي أيها الشيخ، لماذا تخاف على نفسك في هذه البلاد؟ وما الأخطاء التي ارتكبتها، وجعلتك تسعى للنجاة بنفسك من عواقبها!

الشيخ: أخطاء! ألا تظن أيها الذكي أنني لو كنتُ أخشى مما تقول لما حاولتُ لقاء الملك، ولما أضعتُ في سبيل ذلك كل هذا الوقت؟ ولكنك أيها المسكين تظن أن الناس كلهم مفسدون مثلك، لا يدخلون بلدا إلا عملوا على هدمه، ثم إنهم بعد ذلك لا يجرؤون على مواجهة نتائج أفعالهم، فتراهم يهربون قبل أن يُعرف عنهم ذلك، وليس معنى أنك جبان مفسد أن الناس كلهم كذلك...

فيقاطعه الوزير: الآن تظهر حقيقتك، ألهذه الدرجة تكرهني وتحقد عليّ! وماذا فعلتُ لك حتى تكرهني هكذا! أم الحسد أعمى بصرك وبصيرتك فجئتَ تتهمني بجرائمك أمام الملك...

ثم توجه بكلامه للملك:

أرأيتَ أيها الملك مدى حقد هذا الرجل علينا وكرهه لنا، وكل هذا لأنه كان يطمع في أن يحصل على منصب من مناصبنا بعد أن قدّم لك الدواء الذي قدمه لك، فهو لم يعالجك أيها الملك حبًّا فيك ولا رغبةً في خير بلادنا العظيمة، بل طمعًا في المناصب والأموال، ومثل هذا لا يؤمن لا على منصب ولا على مال، بل لا يؤمن على علاج المرضى الذين يعالجهم، فلقد شفاك أيها الملك من مرضك بشيء جعلك تمسكه في يدك، ولستَ تأمن إن اقترب منك أن يقتلك بشيء تشمه، فمثل هذا الرجل خطر على الدولة كلها لما يَعرف من الحيل المؤذية والسحر القاتل، والتي قد تودي بحياتك أيها الملك أو بحياة أي إنسان آخر يخدعه هذا الشيخ المحتال، والرأي أيها الملك أن تقتله لنأمن شره عليك وعلى البسطاء من هذا الشعب الطيب المسكين...

فيطرق الملك مفكرا ويعلو صوت الأب من جديد:

ولما سمع الملك كلام وزيره امتلأ قلبه خوفا ووجلاً من هذا الشيخ الحكيم، واستقرت كلمة الوزير في نفسه، وأخذ يرددها فيما بينه وبين نفسه، حتى رفع صوته بها...

الملك: صدقتَ والله، رجل شفاني بشيء أمسكتُه بيدي يستطيع أن يقتلني بشيء أشمه، ولقد تعلّمَ هذا الرجل ما تعلم خارج بلادنا، ولسنا نعرف ما يعلم وما يجهل، فكيف نأمن على أنفسنا منه، الرأي والله كما قلتَ لابد أن يُقتل هذا الشيخ قبل أن يقتلنا، بل لابد أن تُحرق كل كتبه وأغراضه حتى لا تقع في يد مَن يسيء استعمالها

الشيخ: تقتلني، وقد عالجتك، وتتركهم وهم يفسدون في بلادك! والله إنه لكما يقول الشاعر:

نصحتُ، فلم أفلح، وغشوا فأفلـحـوا          فأوقعني نصـحـي بـدار هـوان

فإن عشتُ فلم أنصح، وإن مت فانع لي     ذوي النصح من بعدي بكل لـسـان

أيها الملك، أما الموت فإنني إن لم أمت اليوم فلسوف أموت غدًا، ولكن لماذا تحرق كتبي، إن كنتَ تخشى أن تقع في يد مَن يسيء استعمالها فلا تتركها لأحد، وخذها أنت، اجعلها في خزائنك، فإن فيها كتبا أثمن من كنوز الأرض، وأغلى هذه الكتب هذا الكتاب (ثم فتح صرته وأخذ منها كتابا كبيرا قديما، وأعطاه للملك، وهو يقول..) فإن متُّ فافتح هذا الكتاب واقرأ فيه فإنك واجد فيه أمورًا عجبًا.

يأخذ الملك الكتاب ثم ينادي الحراس، قائلا:

أيها الحراس، خذوه، وأعدموه عند الفجر، فإن رجلا يشفيني بشيء أمسكه في يدي من مرض حارت فيه الأطباء قادر على أن يقتلني بشيء أشمه.

ثم يأخذ الكتاب ويدخل القصر يتبعه أصحابه، ويضع الكتاب على منضدة صغيرة مقابل عرشه، ويجلس ينظر إلى الكتاب صامتًا، وأصحابه في أماكنهم من حوله، ويمر الوقت ومع إشراق الصباح، يدخل عليه أحد الحراس يخبره أن الشيخ قد أعدم، فتعمّ الفرحةُ المحيطين به، ويُطرق الملك ينظر إلى الكتاب ويفكر، ثم يزفر زفرة ويقول:

ها هو الشيخ قد مات، وها هو الكتاب، فيا ترى ماذا فيه!

الأب: وكان الملك قد تأثر بكلام الوزير، فخاف أن يكون في الكتاب شيء من السحر إن هو قرأه عاد إليه مرضه، فقال الوزير...

الوزير: لابد أنه كلام في الطب والأدوية، لو أردتَ يا مولاي فتحته وقرأتُ عليك منه!

الأب: فارتاح الملك لهذا الاقتراح، غير أنه عاد وتذكر ما قاله هذا الوزير في الليلة السابقة عن خداع الشيخ، فعَجِبَ كيف يصفه بالأمس بأنه ساحر محتال، ثم يقول إن هذا الكتاب كتاب في الطب، فوجل الملك، وقال في نفسه: يجب ألا آمن أحدًا على شيء هذه الأيام، وربما يظن الوزير أن هذا كتابٌ في السحر، فهو يريد أن يفتحه ليعرف بعض ما كان يعرف الشيخ، ولعله يسعى فيما بعد لقتلي إن هو عرف ما يريد معرفته، وقد مات الشيخ فلماذا أخشاه، إنما الخوف يكون من هؤلاء الأحياء الذين يحيطون بي من كل جانب. لذلك فإنه رفض أن يفتحه الوزير، وأمره أن يعطيه إياه ليفتحه ويقرأ منه بنفسه، فأعطاه الوزيرُ الكتابَ، ففتحه، فلم يجد في الصفحة الأولى شيئا، فبلّ أصبعه من ريقه وقلب الصفحة، فلم يجد في الصفحة الثانية شيئا، فعاد وبل أصبعه ثانيا، وقلب الصفحة، وفعل ذلك أكثر من مرة، وهو لا يجد في الكتاب شيئا، ثم شعر فجأة بألم شديد في بطنه، فصرخ قائلاً...

الملك: قتلني الشيخ..قتلني الشيخ.. ولماذا لا يفعل، وقد قتلته أنا أولا ظلمًا وعُدوانًا؟!!

ثم يخر الملك على الأرض صريعًا وأصحابه من حوله في دهشة وذهول حائرين لا يدرون ماذا يحدث ولا ماذا يجب أن يفعلوا، ثم يأتي صوت الأب...

الأب: وسقط الملك على الأرض ميتا يا بني؛ لأن الشيخ كان قد وضع سمًّا قويًّا على صفحات الكتاب، فانظر يا بني، كيف قتل هذا الملك نفسه بطمعه، وعدم رضاه بما قدر الله له، وكيف تحولت قوته التي كانت تحميه وتحمي المظلومين والضعفاء، انظر كيف تحولت هذه القوة يا بني إليه فنالت منه، وقتلته شر قتلة، بعدما سخرها لمصالحه الشخصية ولذاته

تحكموا  فاستطالوا  في  حكومتهم     وعن قليل كأن  الحكم  لم يكن

لو أنصفوا أنصفوا لكن بغوا فبغى     عليهم  الدهر  بالآفات والمحن

وأصبحوا  ولسان  الحال ينشدهم:     هذا بذاك ولا عتب على الزمن