جرير بن عبد الله البَجَليّ

عبد الله الطنطاوي

عبد الله الطنطاوي

[email protected]

صوت أجشّ: عندما دخل جرير بن عبد الله البَجَليّ على النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم)، نظر إليه وقال: "إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه".

صوت آخر: وقال عنه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

"جرير بن عبد الله يوسف هذه الأمة، وهو سيّد قومه".

فوزي: مَنْ هذا الرجل الجميل الصورة، المهيب الطلعة، الطويل القامة؟

فوزية: إنه الفارس الصنديد: جرير بن عبد الله البجليّ.

فوزي: أهلاً بك يا صاحب الصولات والجولات، أيها المجاهد في سبيل الله.

جرير: أهلاً بكم يا أحفادي، يا أبناء الصِّيْد الأماجد.

فوزية: هل تقدّم نفسك للإخوة المستمعين يا جدّي المجاهد؟

جرير: اسمي جرير بن عبد الله بن جابر، وأنتسب إلى قبيلة بَجِيْلة، من اليمن، وكنيتي أبو عمرو. أسلمت في السنة التاسعة للهجرة.

فوزي: هل من ذكرى أثيرة عندك، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟.

جرير: بل عندي ذكريات وذكريات مع سيّدي رسول الله..

الجميع: صلى الله عليه وسلم.

جرير: اسمعوا هذه الذكرى الجميلة.

جئت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو في بيت مزحوم، فقمت بالباب، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم يميناً وشمالاً فلم يرَ متّسعاً، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم رداءه فلفّه، ثم رمى به إليّ، وقال: اجلسْ عليه. فأخذت الرداء فضممته ثم قبّلته ثم رددته على النبي صلى الله عليه وسلم وقلت: أكرمك الله يا رسول الله كما أكرمتني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه.

فوزي وفوزية: هنيئاً لك يا جدي.

فوزي: ما أعظم رسول الله، وما أرفع ذوقه!.

جرير: بأبي هو وأمي، لقد كان على خلق عظيم وسع الناس جميعاً.

فوزية: عليه الصلاة والسلام.. هل قاتلت تحت لواء الرسول يا جدّي المجاهد؟

جرير: أولاً، أريد أن أقول لكم: كان الرسول الكريم يثق بي كما يثق بخُلّص أصحابه، فما حجبني عنه منذ أسلمت، ولا رآني مرة إلا ضحك.

فوزي: هنيئاً لك يا جدي بهذه الثقة العظيمة، وهذا الحب.. ثانياً؟

جرير: ثانياً. أراد رسول الله أن يرسلني لهدم الصنم (ذي الخَلَصَة) وهو صنم أبيض منقوش عليه كهيئة التاج، وكان هذا الصنم في مكان اسمه (تبالة) بين مكة واليمن، على مسير سبع ليال من مكة، وكانت عدة قبائل عربية تعظمه، وتهدي إليه، وكانت قبيلتي (بجيلة) من تلك القبائل، وكان هذا الصنم في بيت كانوا يطلقون عليه اسم (الكعبة اليمانية).

قال لي سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تريحني من (ذي الخَلَصَة)؟

قلت: ولكني لا أثبت على الخيل يا نبيّ الله.

فضرب يده الشريفة على صدري، حتى رأيت أثر يده في صدري وقال:

"اللهم ثبّته، واجعله هادياً مهدياً".

فما سقطتُ عن فرسي بعد.

فوزية: وهل هدمت الصنم؟

جرير: ألم أقل لكم؟ لقد سرت إلى (ذي الخَلَصَة) على رأس مئة وخمسين فارساً، فهدمت الصنم والبيت معاً، وحرّقتهما، وعدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا لي النبي الكريم.

الجميع: صلى الله عليه وسلم.

فوزي: هنيئاً لك يا جدّي، فقد نلت شرف الصحبة والعمل مع الرسول القائد.

جرير: وأرسلني النبي الكريم إلى اليمن، لأدعو الناس إلى الإسلام.. كان في اليمن رجل يستقسم بالأزلام، فقلت له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ها هنا، فإن قدر عليك ضرب عنقك، ثم قلت له وهو يضرب بالأزلام: لتكسرنّها ولتشهدن أن لا إله إلا الله، أو لأضربن عنقك، فكسرها وشهد.

وأرسلني النبي الكريم إلى ذي الكلاع وإلى ذي عمرو، فذهبت إليهما، وأقنعتهما بالإسلام فأسلما، كما أسلمت ضُرَيبة بنت أبرهة، وكانت زوجة ذي الكُلاع.

فوزية: بارك الله فيك يا جدي المجاهد، ففي إسلام هؤلاء، إسلام أهل اليمن.

جرير: هذا صحيح.. ولذلك بقيت عندهم أعلمهم أمور دينهم، وتعاليم هذا الإسلام العظيم، حتى أخبرني ذو عمرو بوفاة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، فعدت إلى المدينة وأنا جدّ حزين، لوفاة رسول الله قبل أن أملأ عيني منه، ولأن أكثر القبائل اليمنية ارتدت عن الإسلام.

فوزي: وأخبرت الخليفة أبا بكر بارتداد الناس عن الإسلام في اليمن.

جرير: وأخبرته أيضاً بثبات من ثبت على الإسلام، فما كان من الصدّيق إلا أن يردّني إلى اليمن، لأضمّ إليّ من ثبت على الإسلام من قبيلتي بجيلة، ومن القبائل الأخرى، وأمرني أن أشاغل المرتدين بمن معي، حتى يأتيني المدد.

فوزية: كم تعبتم يا جدّي حتى أرسيتم دعائم هذا الدين!

جرير: نفذت أمر الخليفة، واستطعت أن أقضي على المرتدين الذين صادفتهم، ثم جاء المهاجر بن أميّة من عند الخليفة الصديق، وكان آخر من تحرك من المدينة لحرب المرتدين، فقاتلت ومن معي من المسلمين تحت لواء المهاجر، وسرنا من نصر إلى نصر، حتى نزلنا صنعاء.

فوزية: وكان لثباتك يا جدّي على عقيدتك، بالرغم من ارتداد أكثر رجال قبيلتك بجيلة، وكان لعودتك السريعة إلى اليمن، وقتالك المرتدين، كان كل ذلك عوامل مهمة للانتصار السريع الحاسم على المرتدين في اليمن.

فوزي: وهل بقيت في اليمن يا جدي؟

جرير: بل عدت لأجاهد في بلاد الشام، تحت لواء القائد خالد بن سعيد، ثم استأذنت خالد بن سعيد وعدت إلى الخليفة أبي بكر، وطلبت منه أن يأذن لي في جمع رجال قبيلتي (بجيلة) لأن أفراد بجيلة كانوا موزعين بين القبائل، ولكن الخليفة أبا بكر غضب مني، ووجهني إلى العراق، لأنضم إلى قوات خالد بن الوليد.

فوزية: وبقيت تقاتل مع خالد بن الوليد في العراق؟

جرير: نعم.. ولما غادر خالد إلى الشام، صحبني معه، وقاتلت في كل المعارك التي خاضها وهو في طريقه إلى الشام.

فوزي: وهل شاركت في معركة اليرموك؟

جرير: أجل يا بني.. وقد اختارني خالد لأكون ضمن الفدائيين المئة من الفرسان الذين اختارهم من المهاجرين والأنصار، وكان كل فارس من هؤلاء، يردّ جيشاً وحده.

فوزي وفوزية: الله أكبر.. الله أكبر..

جرير: وكان لهؤلاء الفرسان المئة، تأثير كبير على معنويات الروم قبيل معركة اليرموك الحاسمة، كما كانوا أبطالاً في اليرموك، كان الواحد منهم يهدُّ صفوف الروم هدّاً.

فوزي: وبعد اليرموك؟

جرير: كلمتُ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، في أن يسمح لي بجمع أبناء قبيلتي (بجيلة) لأقاتل بهم في سبيل الله، فأذن لي، فجمعت أبناء القبيلة، ثم سيّرني أمير المؤمنين بهم إلى العراق، لنجدة المثنى بن حارثة، وهناك قاتلت تحت لواء المثنى القوات الفارسية في معركة (البويب) وهي أول معركة حاسمة من معارك المسلمين في العراق.

فوزي: وهزمتم الفرس.

جرير: وتطوّعت (بجيلة) بمطاردة المنهزمين، وتوغّلنا في عمق أراضيهم، حتى بلغنا مدينة (ياباط) وصارت مدائن كسرى على مرأى منا.

ولما انسحب المثنى إلى ذي قار، كنت على رأس بجيلة، نحمي قوات المسلمين المنسحبة، حتى لا تغير عليهم القوات الفارسية.

فوزية: وهل شاركت، يا جدي، في معركة القادسية؟

جرير: وأيّ مشاركة.. لقد تحملت (بجيلة) في اليوم الأول العبء الأكبر.. كان مع الفرس ستة عشر فيلاً وجّهوها إلى (بجيلة) ففرّقت الكتائب، وأفزعت الخيل، وكادت بجيلة تفنى عن بكرة أبيها، ولكن المشاة ثبتوا في مواقعهم ثبات الجبال، وتداركنا القائد سعدُ لن أبي وقّاص ببني أسد، فهاجموا الفيلة وحماتها هجوماً عنيفاً بقيادة البطل المغوار طليحة الأسدي، واستطاعوا أن يهزموا الفيلة وحماتها، بمعاونة ربيعة، ولكن، بعد جهد جهيد.

وتركت بجيلة كثيراً من الشهداء في ساحة المعركة، ولكنّ صمودها المدهش أتاح للمسلمين تدارك الموقف الخطير، والحمد لله.

فوزي: وفي التاريخ ذكرٌ جليل لشجاعة بجيلة، ولدورها المؤثّر في سير أحداث هذه المعركة التاريخية الحاسمة.

جرير: وفي اليوم الرابع من معارك القادسية، كان لبجيلة صولات وجولات، حتى إذا ما خيّم الظلام، وكانت ليلة (الهرير) حملتُ على القوات الفارسية مع مَنْ حملَ معها من القبائل الأخرى، غير منتظرة أمرَ سعد، فعَذَرنا سعدٌ وقال: اللهم اغفرها لهم وانصرهم، وقضينا في تلك الليلة على عدد ضخم من الفرس، ولما هرب الفرس طاردناهم إلى (ساباط) قريباً من المدائن.

فوزية: وهل شهدت فتح المدائن يا جدّي؟

جرير: شهدت مع قبيلتي (بجيلة) معركة فتح (المدائن) عاصمة كسرى، كما شهدت معركة (جلولاء) تحت راية هاشم بن عتبة، ولما تمكنّا من القضاء على القوات الفارسية في جلولاء، ضمّ هاشم بن عتبة خيلاً كثيفة إلى بجيلة، واستبقاني على رأسها، لنكون قوة ساترة في جلولاء، نفصل بين الفرس والمسلمين، واهتبلتها فرصة، فهاجمت (خانقين) وكان فيها فلول من القوات الفارسية، فقتلنا بعضهم، وفرّ الباقون.

فوزي وفوزية: ما شاء الله.

فوزي: لا تقف أرجوك يا سيدي، فنحن عطاش، ونتطلّع إلى أن نعيد سيرتكم الجهادية في حياتنا المُتعبة.. أكملْ يا سيدي أرجوك.

جرير: وأمدّني سعدٌ بثلاثة آلاف مجاهد، وأمرني أن أسير لفتح (حُلوان) فلما صرت قريباً منها، هرب كسرى الفرس (يزدجرد) إلى أصبهان، ففتحتُ (حلوان) صلحاً، ثم سرت إلى (قَرميسين) ففتحتُها صلحاً أيضاً، وبقيت والياً على حلوان، حتى جاءني أمر عمار بن ياسر، الذي تولى القيادة بعد سعد بن أبي وقاص، بأن أتحرك بقواتي إلى (خوزستان) حيث قواتُ أبي موسى الأشعري، فتحركت إلى هناك.

فوزية: نحن أتعبناك يا جدي.. لكأني أراك تقاتل وأنت تتحدث.

جرير: حديث الجهاد والاستشهاد، والفتح والنصر، والطِّراد والحصار والمبارزة والنجدات، هذا الحديث يثيرني ويهزّني هزاً، كأنني الآن أقاتل.

فوزي: بارك الله فيكم يا سيدي، ولست أدري بأيّ وجه نقابل ربنا غداً، وبأيّ لسان نجيبه إذا سألنا: هل نحن أحفادكم؟ وإذا كنا أحفادكم، فلماذا فرّطنا بالأرض التي سقيتموها بدمائكم؟

فوزية: احتلال فلسطين، وتهويد القدس، وأسر المسجد الأقصى، جراح ناغرة يا جدي، لا تكاد تندمل، حتى ينكأها حديث الفتوح والأمجاد.

جرير: لا يا أبنائي.. لا.. لا يجوز أن تغيب فلسطين عن عقولكم لحظة واحدة.. عيشوا مأساتها لحظة لحظة.. وحذار حذار أن تكتفوا بالقول وتتركوا العمل.

فوزي: ولذلك نستضيفكم يا سيدي، لنتعلم منكم، ولنقتدي بكم.

فوزية: هل كان لكم دور في معركة (نهاوند) يا جدي؟

جرير: لقد قاتلنا هناك قتالاً مريراً تحت راية القائد العظيم: النعمان بن مقرن، رحمه الله.. كان أمير المؤمنين عمر وجهه إلى نهاوند، وقال له: إن أصبت فالأمير حذيفة بن اليمان، فإن أصيب حذيفة، فالأمير جرير بن عبد الله الجبلي.

فوزي: هذا يدل على المكانة الكبيرة التي تحتلها عند أمير المؤمنين يا سيدي.

جرير: رضي الله عن عمر وأرضاه.. كان يعرف رجاله معرفة دقيقة، وكان يحيط بالمعارك، ويخطط لها، وهو على بعد مئات الأميال عنها.

فوزي: وأخيراً يا جدي؟

جرير: لقد كانت معركة نهاوند من المعارك الفاصلة الحاسمة في التاريخ، قتلنا فيها أكثر من مئة ألف مقاتل من الفرس.

فوزي: ولهذا يحقد الفرس على سيّدنا أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، لقد قتلوه، وكرّموا قاتله المجوسيّ أبا لؤلؤة، وهم يسبّون عمر وأصحابه الذين ثلّوا عرش كسرى، ومحوا إمبراطوريتهم من الوجود..

جرير: هذا صحيح..

فوزية: أرى أن نكتفي بهذا القدر يا جدّي المجاهد، فقد أتعبناك، كما أن أعصابنا لم تعد تحتمل وهي تقارن بين الأمس واليوم، فادع الله لنا يا جدّي، أن نكون مجاهدين حقاً وصدقاً.

جرير: قولوا معي يا أبنائي:

نوينا الجهاد في سبيل الله.

فوزي وفوزية: نوينا الجهاد في سبيل الله.

جرير: نوينا الجهاد في سبيل الله.

فوزي وفوزية: نوينا الجهاد في سبيل الله.

جرير: لا تحزنوا يا أحفادي، وتذكروا أن جدكم الذي يحدثكم، ما كان يثبت على صهوة حصانه، ثم غدا مجاهداً في سبيل الله.

فوزي: مجاهداً بطلاً لا يُشَقُّ له غبار.