أبو عبيدة بن الجراح

عبد الله الطنطاوي

أبطال خالدون

أبو عبيدة بن الجراح

عبد الله الطنطاوي

[email protected]

الراوي: نحن الآن في منزل الشيخ محمود.. الشيخ جالس على مكتبه، يقرأ في كتاب كبير، والتأثّر ظاهر على وجهه، وفي حركات رأسه وركبتيه.

الجد: اسمع أيّها الراوي الأمين، هذا الكلام البديع:

مؤثر: نقرات على الباب.

الجد: ادخلوا يا أولادي.

مؤثر: صوت فتح باب وإغلاقه.

الحفيدان: السلام عليكم ورحمة الله.

الرجلان: وعليكما السلام ورحمة الله وبركاته.

الجد: اجلسا لتسمعا كلاماً بليغاً، بديعاً لأمين هذه الأمة.

فاطمة: لجدّي أبي عبيدة بن الجراح؟

الجد: نعم يا بنتي.. للرجل القائد العظيم أبي عبيدة بن الجراح، ذلك الذي تمنّى أمير المؤمنين عمر، أن يكون للأمة ملء بيته من أمثاله.

الجميع: رضي الله عنه.

الجد: قال أبو عبيدة:

ألا رُبَّ مكرم لنفسه، وهو لها مهين.

ادرؤوا السيّئات القديمات، بالحسنات الحديثات.

فلو أنَّ أحدكم عمل من السيِّئات ما بينه وبين السماء، ثم عمل حسنة، لََعَلَتْ فوق سيِّئاته حتى تقهرهنّ.

الحفيدان: الله أكبر.. الله أكبر.

الراوي: هذه الكلمات النُّورانية، لا تصدر إلا عن رجل ربّانيّ نوراني، نوَّر الله قلبه بنور الإيمان.

الجد: هذا الرجل القائد، التقيُّ النَّقي، ذو الأخلاق الرضيّة، المجاهد في سبيل الله، العامل لأخراه، أمين هذه الأمة، أبو عبيدة بن الجراح، هو الذي سوف نتحدّث عنه الليلة.

الجميع: إن شاء الله.

أحمد: ما اسم أبي عبيدة يا جدّي؟

الجد: اسمه عامر بن عبد الله بن الجرّاح القرشيّ، وكنيتُه التي غلبت على اسمه: أبو عبيدة.

فاطمة: إذن، الجرّاح جدُّه، وليس أباه.

الجد: نعم يا فاطمة.. أبوه عبد الله، وجدّه الذي ينسب إليه: الجرّاح.

أحمد: قلت يا جدّي: القرشي. معنى ذلك أنه مولود في مكة!.

الجد: نعم يا أحمد. وُلد أبو عبيدة في مكة المكرمة قبل الهجرة بأربعين سنة.

أحمد: وهل كان من المشركين الأشدّاء على النبيِّ الكريم وأصحابه؟

الجد: لا يا ولدي.. فقد أسلم أبو عبيدة في وقت مبكر جداً، وقبل أن يتخذ رسول الله.

الجميع: صلى الله عليه وزسلم.

الجد (متابعاً): دار الأرقم مقراً سريّاً لقيادة المسلمين، والدعوة إلى الإيمان بالله ورسوله.

الجميع: صلى الله عليه وسلم.

الجد: وكان إسلامه على يد أبي بكر الصديق.

الجميع: رضي الله عنه.

فاطمة: إذن.. آذاه المشركون كما آذوا سائر الصحابة؟

الجد: نعم يا فاطمة، ولهذا هاجر مع من هاجر من المسلمين إلى الحبشة.

الحفيدان: لا حول ولا قوة إلا بالله.

الجد: ثم هاجر إلى المدينة المنوّرة، وكان إلى جانب النبيّ صلى الله عليه وسلم يتعلّم منه الدين والتقوى والخلق القويم.

الجميع: رضي الله عنه.

الجد: وشهد أبو عبيدة المشاهد كلَّها مع الرسول القائد، وقاتل تحت رايته.

أحمد: وبهذا نال شرف الصُّحبة، وشرف القتال تحت رايته.

مؤثر: أصوات معركة.

الجد: قاتل في غزوة بدر قتال الأبطال الميامين، وقاتل في غزوة أحد، وكان فيها بطلاً صنديداً، ثبت إلى جانب الرسول الكريم، ودافع عنه دفاعاً مجيداً حتى انتهت المعركة.

الراوي: وفي هذه المعركة، كسرت رباعية الرسول القائد، وشُجَّ وجهه الشريف، ودخلت حلقتان من حلق المِغْفَر في وجنته الشريفة، فنزع أبو عبيدة الحلقتين بأسنانه، فسقط سنّان من أسنانه، وصار أهتم الثنايا.

الحفيدان: رضي الله عنه.

الراوي: وصار فمه أجمل مما كان، حتى قيل: ما رُئي هَتْمٌ قطُّ أحسنَ من هتم أبي عبيدة بن الجراح، رضي الله عنه وأرضاه.

فاطمة: أبو عبيدة أمين هذه الأمة.. كيف جاءه هذا الوصف يا جدّي؟

الجد: لمّا جاء العاقب والسيِّد، صاحبا نجران، وأرادا أن يلاعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أحدهما لصاحبه:

- لا تلاعنه، فوالله لئن كان نبيّاً فلاعنّاه، لا نفلح نحن ولا ذريتنا أبداً.

الحفيدان: الله أكبر.

الراوي: فجاءا إلى النبيِّ الكريم، وقالا له:

- لا نلاعنك، ولكن نعطيك ما سألت، فابعثْ معنا رجلاً أميناً يعلّمنا الإسلام.

الجد: فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "لأبعثنَّ معكم رجلاً أميناً حقَّ أمين"

الراوي: فتطلّع أصحاب النبيِّ لهذه المهمة، حتى إنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:

"ما أحببتُ الإمارة قطّ، حُبِّي إيّاها يومئذ، رجاء أن أكون صاحبها، فرُحْتُ إلى الظُّهْر مهجِّراً –وقت الحرّ- فلمّا صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، نظر عن يمينه ويساره، فجعلتُ أتطاول ليراني، فلم يزل يلتمس ببصره، حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح، فدعاه، فقال له: "اخرجْ معهم، فاقض بينهم بالحقِّ فيما اختلفوا فيه".

الجد: فقال عمر: ذهب بها أبو عبيدة.

الراوي: وقال رسول الله

الجميع: صلى الله عليه وسلم.

الراوي: إنّ لكلِّ أمة أميناً، وإنَّ أميننا –أيتها الأمة- أبو عبيدة بن الجراح.

الجميع: رضي الله عنه وأرضاه.

مؤثر: أصوات معركة.

أحمد: وماذا عن جهاد هذا القائد البطل يا جدّي؟

الجد: اسمعوا هذه المكرمة الربانية، لهذا الرجل الرباني أبي عبيدة.

الراوي: بعث الرسول القائد عليه السلام، سريّة، وجعل أبا عبيدة أميراً عليها، من أجل أن يتعرّضوا لقافلة قرشيّة، وزوّدهم بجراب من تمر لم يكن عند النبيّ غيره، فكان أبو عبيدة يعطي كلَّ مجاهد تمرة في اليوم والليلة.

الحفيدان: يا لطيف.. يا ساتر يا ربّ.

أحمد: ماذا كانوا يفعلون بتمرة واحدة في يوم وليلة؟

الجد: كانوا يمصّونها كما يمصّ الصبيُّ، ثم يشربون عليها الماء، فتكفيهم طوال يومهم، فإذا جاء الليل، ضربوا ورق الأشجار والنبات بعصيِّهم، ثمّ يبلّون ورق الشجر والنبات بالماء، ثم يأكلونه، فيكفيهم طوال الليل.

فاطمة (في بكاء): كم عانيتم يا أجدادنا العظام.

أحمد: وهل تلك التمرات والأوراق هي المكرمة الربانيّة يا جدي؟

الجد: اسمعوا الآن قصة تلك المكرمة الربّانية.

مؤثر: صوت مسير.. وقع أقدام.. أو صوت أمواج بحر.

الراوي: انطلق أبو عبيدة برجاله على ساحل البحر، فشاهدوا شيئاً ضخماً كالتلّ الصغير على الساحل، فلما وصلوا إليه، إذا هو حوت ضخم يدعى العنبر، وكان ميتاً.

الجد: فكّر أبو عبيدة قليلاً، ثم قال لأصحابه: نحن رسل رسول اللهِ

الجميع: صلى الله عليه وسلم.

الجد: وقد خرجنا في سبيل الله، وقد اضطررنا إلى أكل لحم الميتة، فكلوا.

الراوي: فأكلوا من ذلك الحوت شهراً كاملاً.

فاطمة: كم كان عددهم؟

الجد: كانوا ثلاث مئة مجاهد.. أكلوا من ذلك الحوت الضخم حتى سمنوا طوال ذلك الشهر.

الراوي: وعملوا من لحمه قديداً، فلما عادوا إلى المدينة، ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

فاطمة: فأجاز لهم ذلك؟

الجد: وقال لهم: هو رزق الله أخرجه لكم، فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا؟

الراوي: فأرسلوا منه إلى رسول الله فأكله.

فاطمة: هنيئاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم بهؤلاء المجاهدين، وهنيئاً للمجاهدين بما رزقهم الله.

أحمد: ثم ماذا يا جدّي؟

مؤثر: أصوات مسير..

الجد: وبعث رسول الله أبا عبيدة على رأس أربعين رجلاً، فأغاروا على المشركين في مكان اسمه: ذو القصة، فهرب منهم المشركون، إلا واحداً منهم أعلن إسلامه.

الراوي: وبعث رسول الله أبا عبيدة على رأس مئتي مجاهد، فيهم أبو بكر وعمر، رضي الله عنهم جميعاً.. أرسلهم مدداً لعمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل.

الجد: وفي فتح مكة، جعله الرسول القائد على مقدمة موكبه عليه الصلاة والسلام.

الراوي: وبعد انتقال النبيّ الكريم إلى الرفيق الأعلى، سمع أبو عبيدة باجتماع المسلمين في سقيفة بني ساعدة، فأسرع إليها مع عمر بن الخطاب، ولمّا رآهما أبو بكر رضي الله عنه، قال للناس:

- رضيتُ لكم أحد هذين الرجلين أميراً.

وأشار إلى أبي عبيدة وعمر.

الجد: وتابع أبو بكر يقول:

أمّا أبو عبيدة، فسمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لكلِّ أمّة أمين، وأمين هذه الأمة: أبو عبيدة بن الجراح".

الراوي: وأمّا عمر، فسمعتُ النبيَّ يقول: "اللهمَّ أيِّد الدين بعمر أو بأبي جهل".

الجد: ولكنّ أبا عبيدة أبى أن يتقدم على أبي بكر وعمر، فأشار على الناس بأبي بكر، فبايع المسلمون أبا بكر خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

الراوي: ورشّحه أمير المؤمنين عمر مرة ثانية للخلافة.

أحمد: متى كان هذا الترشيح؟

الراوي: لمّا سافر عمر إلى الشام، وبلغ قرية (سَرْغ) بوادي تبوك، وعرف أنّ في الشام وباء، قال أمير المؤمنين عمر:

- إنْ أدركني أجلي وأبو عبيدة حي، استخلفتُه، فإن سألني ربي عز وجل: لمَ استخلفتَه على أمة محمد؟ قلت: إني سمعت رسول الله

الجميع: صلى الله عليه وسلم.

الراوي (متابعاً): يقول: إن لكل نبيٍّ أميناً، وأميني أبو عبيدة بن الجراح.

الجميع: رضي الله عنه.

مؤثر: طبول حرب، وأصوات معركة.

الراوي: وكان للقائد البطل أبي عبيدة بن الجراح دور كبير في فتوح الشام، فقد كان قائد أحد الجيوش الإسلامية التي وجّهها الخليفة أبو بكر إلى الشام، لتخليصها من حكم الروم الطواغيت الذين كانوا يستعبدون شعوب بلاد الشام التي باركها الله في محكم كتابه، فقال الله عز وجل:

الجد: بسم الله الرحمن الرحيم، سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله.

الجميع: صدق الله العظيم.

الراوي: وجّه الخليفة أبو بكر جيشاً بقيادة أبي عبيدة، فنزل أبو عبيدة بجيشه في الجابية.

الجد: ووجّه الخليفة جيشاً ثانياً بقيادة البطل شرحبيل بن حسنة، إلى الأردن.

الراوي: وجيشاً ثالثاً إلى فلسطين، بقيادة القائد الداهية البطل: عمرو بن العاص.

الجد: وجيشاً رابعاً بقيادة البطل يزيد بن أبي سفيان، نزل في الشام.

أحمد: كم كان مجموع هذه الجيوش يا جدّي؟

الجد: كانوا سبعة وعشرين ألفاً، وجمع هرقل، قيصر الروم جموعاً هائلة، وأراد أن يشغل قادة المسلمين عن بعضهم البعض، بما عنده من الجيوش، فأرسل هرقل إلى كل جيش من جيوش المسلمين، أضعاف ما في الجيش من المجاهدين.

أحمد: فهابهم المسلمون؟

الجد: أجل يا أحمد، هابوا جموعهم الكثيفة، فكتب قادة الجيوش إلى القائد المحنّك عمرو بن العاص، يستشيرونه فيما يفعلون.

الراوي: فأشار عمرو عليهم بأن يجتمعوا، ليشكّلوا جيشاً واحداً، وقال لهم: إذا اجتمعنا، فلن نُغلب من قلّة.

فاطمة: وأين سيف الله المسلول خالد بن الوليد يا جدي؟

الجد: كان في العراق، يقاتل الفرس.

أحمد: يبدو أن القائد الداهية عمرو بن العاص، يقاتل بعقله وسيفه معاً.

الجد: طبعاً يا أحمد.. هكذا يكون القادة العظام، ألم تسمع قول الشاعر:

الرأي قبل شجاعة الشجعان    هو أول وهي المحلُّ الثاني؟

أحمد: بلى يا جدي.. هذا البيت لشاعر العرب: لأبي الطيّب.

فاطمة: لماذا لم يستشيروا الخليفة يا جدي؟

الجد: بل استشاروه يا فاطمة، فأشار عليهم بمثل ما أشار عمرو.

الحفيدان: الله أكبر.

الراوي: وقال لهم الخليفة أبو بكر رضي الله عنه:

اجتمعوا فتكونوا عسكراً واحداً، والقَوا زحوف المشركين بزحف المسلمين، فإنكم أعوان الله، والله ناصرٌ من نصره، وخاذلٌ من كفره، ولن يؤتى مثلكم من قلّة، وإنما يؤتى العشرة الآلاف، والزيادة على العشرة الآلاف إذا أُتُوا، فمن تلقاء الذّنوب، فاحترسوا من الذنوب، واجتمعوا باليرموك متساندين، وليصلِّ كلُّ رجل منكم بأصحابه.

الجد: فاجتمع المسلمون في اليرموك.

الراوي: فلمّا علم هرقل باجتماع المسلمين في اليرموك، كتب إلى قوّاده أن يجتمعوا قريباً منهم، وبيّن لكل قائد مكانه من الجيش.. من يكون على المقدّمة، ومن يكون على الميمنة، ومن يكون على الميسرة، ومن يكون على المؤخرة، ومن يكون القائد العام للجيش.

الجد: ونفَّذ القادة أوامر ملكهم، ونزلوا في الواقوصة، على ضفّة نهر اليرموك، بحيث صار الوادي خندقاً لهم.

الراوي: ووقفت جيوش المسلمين إزاءهم، وعلى طريقهم، بحيث لم يبق لهم طريق غيره.

الجد: فقال القائد عمرو بن العاص: أيّها الناس أبشروا.. حُصِرَتْ، والله، الروم، وقلّما جاء محصور بخير.

أحمد: كلام سليم.

فاطمة: ياله من ذكيّ ألمعيّ بعيد النظر.

الجد: أقام المسلمون على هذه الحالة ثلاثة أشهر.

فاطمة: في أيّ أشهر يا جدي؟

الجد: في صفر، وربيع الأول، وربيع الثاني، من السنة الثالثة عشرة للهجرة.

أحمد: ألم يطلبوا المدد من الخليفة يا جدي؟

الجد: بلى.. طلبوا المدد من الخليفة، فأمر الخليفة قائده في العراق خالد بن الوليد، أن يسير بنصف جيشه إلى الشام، لنجدة إخوانه.

الراوي: وقال الخليفة الصدّيق: والله لأنسينَّ الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد.

الجد: وجاء خالد مسرعاً إلى الشام في سرعة البرق.

أحمد: وكان اختيار الخليفة لخالد، توفيقاً عظيماً من الله تعالى.

الجد: وخاصة أنه حضر قبيل نشوب المعركة، وكان صاحب الصّدمة الأولى.

فاطمة: وزاد عدد جيش المسلمين.

الجد: صار تعداد الجيش ستة وثلاثين ألف مقاتل، أو أكثر بقليل.

فاطمة: وجيش الروم؟

الجد: أكثر من مئتي ألف مقاتل.

الحفيدان: يا لطيف!

الجد: آه لو سمعكما خالد.

أحمد: هل كان يغضب؟

الجد: نعم. ولأوجعك يا أحمد، بقوارع كلامه.

أحمد: لماذا يا جدي؟

الجد: لأنه عندما سمع رجلاً من المسلمين يقول، وهو ينظر إلى جيش الروم:

الراوي: ما أكثر الروم، وما أقلّ المسلمين

الجد: غضب خالد غضباً شديداً، وقال لذلك الرجل:

الراوي: بل قل: ما أقلّ الروم، وما أكثر المسلمين!

الجد: ثم قال خالد:

الراوي: إن الجيوش إنما تكثر بالنصر، وتقلُّ بالخذلان!

الجد: ثم قال خالد متحسراً متأوّهاً ومتمنّياً:

الراوي: لوددت أن فرسي الأشقر بريء مما به من الوجى، وقد أضعف الروم جيوشهم.

الحفيدان: الله أكبر.. الله أكبر..

الجد: تسلّم خالد إمارة الجيش، وعبّأه تعبئة لم تعبّئها العرب من قبل.

الراوي: قسَّم الجيش إلى ستة وثلاثين كِرْدَوْساً، وجعل على الميمنة عمرو بن العاص، وشرحبيل بن حسنة، وجعل على الميسرة يزيد بن أبي سفيان، وجعل أبا عبيدة أميراً للقلب.

الجد: وأقام على كل كردوس قائداً من شجعان الكراديس.

الراوي: وعيَّن أبا هريرة قاضياً.

الجد: وعيّن أبا سفيان بن حرب قاصاً يعظ الناس، ويحرّضهم على القتال.

الراوي: كان أبو سفيان يقف أمام كل كردوس ويقول بصوته الجهير:

الجد: الله الله أيها المسلمون.

إنكم ذادة العرب، وأنصار الإسلام.

وإنهم ذادة الروم، وأنصار الشِّرك.

اللهم إن هذا يوم من أيامك

اللهم أنزلْ نصرك على عبادك

الحفيدان: آمين آمين يا ربَّ العالمين.

الراوي: وكان القراء يقرؤون على الجنود وهم في الصفوف سورة القتال.

الجد: أيْ سورة الأنفال.

الراوي: ووقف خالد يخطب بصوت يدوّي كالرعد الهزيم:

الجد: هذا يوم من أيام الله، لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي. أخلصوا جهادكم، وأرضُوا الله بعملكم، فإن هذا اليوم له ما بعده، ولا تقاتلوا قوماً على نظام وتعبية وأنتم متساندون، فإنّ ذلك لا يحلّ ولا ينبغي.

الراوي: وقال خالد: إنّ الذي أنتم فيه من توزُّع القيادات، أشدّ على المسلمين مما قد غشيهم، وأنفع للمشركين من أمدادهم.

الجد: وقال خالد: هلمّوا أيها الناس، فإنّ هؤلاء قد تهيؤوا، وهذا يوم له ما بعده.

الراوي: وقال خالد: إن رددناهم إلى خندقهم اليوم، لم نزل نردّهم.. وإن هزمونا، لم نفلح بعدها.

الجد: وخرج الروم أيضاً في تعبئة لم ير الراؤون مثلها.

مؤثر: أصوات معركة صاخبة.

الراوي: وبدأ الروم القتال، فقاتل المسلمون قتالاً مريراً، وقاتلت معهم النساء المسلمات في بعض الجولات.

مؤثر: ما يعبّر عن الحزن.

الجد: وجاء رسول الخلافة إلى أبي عبيدة، ينعى الخليفة أبا بكر، ويخبره بتولّي عمر أميراً للمؤمنين، وكان في كتاب أمير المؤمنين عزلُ خالد عن إمارة الجيش، وتولية أبي عبيدة مكانه.

الراوي: حزن أبو عبيدة لوفاة الخليفة أبي بكر، وفرح لاستخلاف عمر، وكتم أمر الرسالة وما فيها عن سائر الجيش، وأمر الرسول ألاّ يحدّث أحداً بذلك، حتى لا يضعف من عزائمهم.

الجد: وانتهت المعركة الفاصلة بانتصار ساحق للمسلمين على الروم، وانهزم الروم هزيمة منكرة.

الراوي: وقرأ أبو عبيدة الرسالة على جيشه، فبكى الناس لوفاة الخليفة.

أحمد: وسيف الله خالد؟ ألم يتأثر لعزله؟

الجد: ولكنَّ تأثّره لم يضعف من عزيمته، بل وضع نفسه تحت تصرُّف أبي عبيدة، القائد العام الجديد، وقاتل تحت لوائه سيفاً ماضياً لا نظير له.

الحفيدان: الله أكبر.. الله أكبر.

الراوي: وجلس أبو عبيدة وأخوه معاذ بن جبل، وكتبا رسالة صريحة ومؤثّرة إلى أمير المؤمنين عمر.

الجد: قالا في الرسالة: إلى عمر بن الخطاب.. سلام الله عليك.. فإنّا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد:

فإنّا عهدناك، وأمرُ نفسك لك مهمّ، وإنك يا عمر، أصبحتَ وقد وُليتَ أمر أمّة محمد، أحمرِها وأسودِها، يقعد بين يديك العدو والصديق، والشريف والوضيع، والشديد والضعيف، ولكلٍّ عليك حقٌّ وحصّةٌ من العدل، فانظر كيف تكون يا عمر؟

الراوي: وتابع أبو عبيدة ومعاذ يقولان:

وإنا نذكّرك يا عمر يوماً تبلى فيه السرائر، وتُكشف فيه العورات، وتظهر فيه المخبآت، وتعنو فيه الوجوه لملك قاهر قهرهم بجبروته، والناس له داخرون أذلاّء، ينتظرون قضاءه، ويخافون عقابه، ويرجون رحمته.

الجد: وإنه قد بلغنا أنه يكون في هذه الأمة رجال: إخوان العلانية، أعداء السريرة، وإنّا نعوذ بالله من ذلك، فلا ينزلْ كتابُنا من قلبك، بغير المنزلة التي أنزلناها من أنفسنا. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

أحمد: الله أكبر! ما هذه الرسالة يا جدي؟

الجد: إنها رسالة من ناصحين أمينين، جريئين في الجهر بالحقّ، لا يخافان في الله لومة لائم.

أحمد: ولكنها شديدة اللهجة يا جدي.. شديدة جداً.

فاطمة: فماذا كان جواب أمير المؤمنين؟

مؤثر: وقع جواد المراسل.

الجد: كتب إليهما أمير المؤمنين:

الراوي: بسم الله الرحمن الرحيم.. من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، إلى أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل.

سلام الله عليكما، فإني أحمد إليكما الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد:

الجد: فإني أوصيكما بتقوى الله، فإنه رضاء ربّكما، وحظُّ أنفسكما، وغنيمة العقلاء لأنفسهم عند تفريط العجزة.

الراوي: والله عز وجل ولاّني أمركم، وإني أسأل الله أن يعينني عليه، وأن يحرسني عنه، كما حرسني عن غيره، وإني أمرؤ مسلم، وعبد ضعيف، إلا ما أعان الله عز وجل.

الجد: ولم يغيّر الذي ولّيت من خلافتكم من خلقي شيئاً إن شاء الله، وإنما العظمة لله عز وجل، وليس للعباد منها شيء.

الراوي: فلا يقولنَّ أحد منكم: إنّ عمر تغيّر منذ وَلي، وإني أعقل الحقَّ من نفسي، وأتقدّم وأبيّن لكم أمري.

الجد: فأيّما رجل كانت له حاجة، أو ظُلم مظلمة، أو عَتَب علينا في خُلُق، فليؤدِّني، فإنما أنا رجل منكم، ليس بيني وبين أحد من المسلمين هوادة.

الراوي: وأنا حبيب إليّ صلاحُكم، عزيزٌ عليَّ عَتَبكم، وأنا مسؤول عن أمانتي، وما أنا فيه، ومطَّلع على ما يضيرني بنفسي إن شاء الله، لا أكِلُه إلى أحد، ولا أستطيع ما بعد ذلك إلا بالأمناء وأهل النصح منكم للعامّة، ولستُ أجعل أمانتي إلى أحد سواهم إن شاء الله.

الجد: وقال أمير المؤمنين في ختام رسالته الجوابيّة الرائعة:

الراوي: وما سلطان الدنيا وإمارتُها؟

فإنَّ كلَّ ما تريان إلى زوال..

الجد: وإنما نحن إخوان، فأيُّنا أمَّ أخاه، أو كان عليه أميراً، لم يضرَّه ذلك في دينه ولا في دنياه، بل لعلّ الوالي أن يكون أقربهما إلى الفتنة، وأوقعهما بالخطيئة إلا من عصم الله، وقليل ما هم.

أحمد: ما أعظمكم يا أصحاب رسول الله..

فاطمة: ثم ماذا عن أمين هذه الأمة يا جدي؟

الجد: كانت أوامر أمير المؤمنين تترى إلى أبي عبيدة، وكان أبو عبيدة ينفّذ ما يأمره به أمير المؤمنين.

مؤثر: أصوات معركة.

الجد: فسار على محاصرة دمشق، حاصرها أبو عبيدة من ناحية، وخالد من ناحية، وعمرو من ناحية ثالثة.

الراوي: وأقام عسكراً بين حمص ودمشق، لئلا يأتيهم مدد من حمص.

الجد: وأرسل كتائب أخرى، لتكون بين دمشق وفلسطين، لتمنع وصول الأمداد من فلسطين إلى المحاصرين في دمشق.

الراوي: حاصروا دمشق سبعين يوماً، يزاحفون الروم، ويرمونهم بالمجانيق، وهم معتصمون في المدينة، ينتظرون وصول الأمداد التي وعدهم بها هرقل.

مؤثر: أصوات خيول.. صهيل.. وقع حوافر.

الجد: وبالفعل.. أرسل هرقل خيلاً لنجدتهم، فتصدّى لهم فرسان المسلمين، ومنعوهم من الوصول إلى دمشق.

الراوي: واستطاع خالد اقتحام دمشق من جهته، فيما كان القائد أبو عبيدة يستقبل الوفد المفاوض من دمشق، وقالوا لأبي عبيدة:

الجد: اكفونا خالداً.

الراوي: وقبل أبو عبيدة أن يفتح المدينة صلحاً.

مؤثر: صوت فرس المراسل.

الجد: وبعد فتح دمشق، جاءت أوامر أمير المؤمنين عمر، بأن يعيد جيش العراق إلى العراق، ليكون مدداً للقائد سعد بن أبي وقاص، الذي كان يستعدّ لخوض معركة القادسية.

الراوي: ونفّذ أبو عبيدة الأوامر، وأعاد جيش العراق إلى العراق، بقيادة البطل الهمام: هاشم بن عتبة، وأمر القعقاع أن يسبق الجيش برجاله الأبطال.

الجد: وتحرك القعقاع برجاله المغاوير، ووصل إلى القادسية في اليوم الثاني لنشوب القتال، والمسلمون في ضيق شديد.

الراوي: وأبقى أبو عبيدة سيف الله خالد بن الوليد معه، يساعده في قيادة الجيش، وتسيير الحملات لفتح بلاد الشام.

مؤثر: صوت معركة.

الجد: وحاصر أبو عبيدة مدينة فحل، ثم فتحها، كما فتح مدينة حمص في وسط سورية، وفتح قيسارية وأجنادين، وفتح قنّسرين وحلب والقدس.

الراوي: وطهّر بلاد الشام من طواغيت الروم.

الجد: ودخلت بلاد الشام في رحاب العروبة والإسلام وإلى الأبد بإذن الله.

الختام