المهرج والحكيم(4)

عبد الله عيسى السلامة

المهرج والحكيم(4)

حواريات

عبد الله عيسى السلامة

كل يدافع عن ربه

قال المهرج للحكيم بجزع ولهفة: أغثني يا فداك أبي وأمي..

قال الحكيم متحيراً: بمَ أغيثك – ويحك - ومم أغيثك؟

قال المهرج بقلق واضح: من هذا العجب العجاب الذي يربك عقلي.

قال الحكيم: وما هو!؟

قال المهرج: إني أرى الناس اليوم، إذا أهينت مقدساتهم سكتوا، وإذا أهينت أشخاصهم، أو ما يدور في فلكها غضبوا وثاروا..

قال الحكيم: لم أفهم تماماً ما تريد.

قال المهرج: إن أكثر الناس اليوم، يسكتون راضين أو غير راضين، إذا سمعوا تطاولاً على ذات الله عز وجل، أو تعريضاً بشخص النبي محمد صلى الله عليه وسلم أو الأنبياء الآخرين، أو سخرية من الدين وأحكامه وشعائره، أو نيلاً من رموز الأمة وقادتها العظام، أو استهانة بشأن الأمة كلها، بكل ما فيها ومن فيها..

إلا أن أحدهم إذا سمع مساً بشخصه، حتى لو جاء تلميحاً أو إشارة، ثار وغضب وزمجر. وحتى لو جاء هذا المس على شكل رأي شخصي موضوعي، يتعلق بصفة من صفات هذا الشخص، أو مؤهل من مؤهلاته، أو موقف من مواقفه، أو اجتهاد من اجتهاداته، المتعلقة بمصير الأمة أو بشأن عام من شؤونها..

فكيف تفسر هذا يا سيدي الحكيم؟

قال الحكيم متضاحكاً: بسيطة.. كل يدافع عن ربه.. أو إلهه.

قال المهرج متحيراً: لم أفهم.

قال الحكيم: لا يحتاج الأمر إلى عبقرية لكي تفهمه، إن مقدسات المرء تتفاوت في أهميتها لديه. فهو يتحمس للدفاع عن الهام عنده، أكثر مما يتحمس لسواه من أمور أقل أهمية. فإذا كان شرفه أهم لديه من ماله، دافع عن الشرف، حتى لو خسر ماله. وإذا كان موقعه الرسمي، أهم لديه من شرفه، دافع عن الموقع بقوة، حتى لو خسر شرفه. فالمؤمن القوي في عقيدته وإيمانه، يدافع عن الله ودينه وأنبيائه أكثر مما يدافع عما دون ذلك، حتى لو كانت هذه الأمور الأخرى التي تأتي في الدرجة الثانية أو الثالثة، هي ماله، أو شخصه، أو موقعه الرسمي..

أما الأشخاص الذين يعبدون ذواتهم، أو أموالهم، أو مراكزهم، أو قادتهم، أو أهواءهم.. فإنهم يدافعون عن هذه المعبودات التي اتخذوها آلهة، أكثر مما يتحمسون للدفاع عن المقدسات العليا.. لأن ترتيب المقدسات انعكس لديهم، فصاروا يضحون بالأسمى في سبيل ما هو أقل أهمية وأضعف شأناً منه.

قال المهرج وهو يهز رأسه: الآن فهمت لماذا..؟

قال الحكيم: لماذا ماذا ويحك..!؟

قال المهرج: لماذا تمتلئ السجون في طول العالم المتخلف وعرضه، ولماذا تلتهب الأكف بالتصفيق، وتبح الحناجر من شدة الهتافات..

قال الحكيم: فهمت الآن؟

قال المهرج: أجل فهمت، لكنّ ثمّة شيئاً لم أفهمه بعد.

قال الحكيم: ما هو؟

قال المهرج: إني أفهم مثلاً أن يغضب الحاكم لنفسه، إذا انتقد، أو لسياسته أو لسلوكه.. فيزج بأصحاب النقد في السجون، حتى لمجرد إظهار آرائهم المخالفة لرأيه أو سياسته، وأحياناً لمجرد الخوف من إعلان هذه الآراء.. إني أفهم ذلك. لكن ما لم أفهمه، هو سلوك بعض أتباع هؤلاء الحكام، من أتباع كبار وصغار، وصغار جداً.. وهو أنهم يسارعون إلى خنق أصوات العباد، وإلى سحقهم، وذبحهم، وتشريدهم، خدمة للحاكم، أو تملقاً أو تزلفاً، بينما كثير من هؤلاء الأتباع أنفسهم، يرون من الخلل أو الضعف، أو الفساد، لدى الحكام ما يراه أصحاب الآراء الضحايا. فيسرع هؤلاء الأتباع إلى التنكيل بالمنتقدين، مهما كان نقدهم خفيفاً، ويغضون أنظارهم، ويصمون أسماعهم، عما يرونه ويسمعونه، من استهانة بالمقدسات العليا التي يؤمنون بها هم أنفسهم..

قال الحكيم متضاحكاً: أسمعت بشيء اسمه النفاق!؟

قال المهرج: وكيف لم أسمع به، وهو طامة العصر؟

قال الحكيم: حسن.. رمم ما تآكل من فهمك بشيء من طين الطامة.. ولا تنس أن النفاق أنواع، ولكل نوع درجات. فنفاق العقيدة أخطر من نفاق العمل، أو السلوك. ولكل منهما جنود..