نشيد المارسيلييز

نشيد المارسيلييز *

بقلم الأديب الكبير: علي أحمد باكثير

-1-

(في منزل النائب الفرنسي المسيو مارماريه)

تبدو مدام مارماريه جالسة أمام مرآتها تتزين-يدخل المسيو مارماريه)

مارماريه: صباح الخير يا مرغريت!

مرغريت: ويلك يا جان أتفتح الحجرة هكذا بدون استئذان؟

مارماريه: لا تؤاخذينني يا حبيبتي.. إني عن كل هذا في شغل.

مرغريت: (تلحظ المسدس في يده) وفي يدك المسدس! ماذا كنت تتوقع أن تجد عندي في المخدع؟ عشيقاً؟ أما لغيرتك القذرة من آخر؟

مارماريه: يا مرغريت إنما جئت لأخبرك بأنني خارج الآن فلا تنتظريني على الغداء.

مرغريت: ترى من هي العشيقة التي تريد أن تتغدى معها اليوم؟

مارماريه: أأذهب إلى العشيقة بمسدسي؟

مرغريت: لعل لك منافساً عليها تريد قتله؟

مارماريه: (يتنهد) يا ليتني أستطيع قتله؟

مرغريت: من هو؟

مارماريه: دي موتان.

مرغريت: (تضاحك) أما زلت تظن أن لي به علاقة؟ قلت لك ألف مرة إنني قد قطعت صلاتي به من عهد بعيد.

مارماريه: ما أقصد هذا يا مرغريت. الأمر أجلُّ من ذلك وأخطر. ألم تعلمي بما حدث مساء أمس في مجلس النواب؟

مرغريت: ما قرأت الصحف اليوم، فماذا حدث؟

مارماريه: لطمني النذل في المجلس.

مرغريت: لطمك! أما إنه لشرس.. وهل تركته دون أن تثأر منه؟

مارماريه: دعوته للمبارزة.

مرغريت: فلبى الدعوة؟

مارماريه: نعم.

مرغريت: يا ويلي.. أتريد أن تجعلني أرملة وأنا في هذا السن بعد؟

مارماريه: ما كان أمامي من سبيل لغسل الإهانة غير هذا.

مرغريت: لم لم تخبرني بهذا قبل الآن؟

مارماريه:لو كنت البارحة هنا لأخبرتك أنسيت أنك بت البارحة عند والدتك؟

مرغريت: عند والدتي؟

مارماريه: عجباً. ألست البارحة عند والدتك؟

مرغريت (مرتبكة): بلى يا عزيزي ولكن..

مارماريه: (في شيء من الحدة) لكن ماذا؟

مرغريت: كان عليك أن تأتيني هناك وتخبرني بهذا الحادث الخطير.

مارماريه: (يسرى عنه قليلاً) لم أشأ أن أزعجك وأزعج والدتك بالليل.

مرغريت: لكنه أمر خطير لا حق لك أن تؤجل إخباري به مهما كان الحال.

مارماريه: أشكرك يا مرغريت على لطف شعورك، ولكن نفسي لم تطوع لي أن أزعجك من نومك بأي حال.

مرغريت: هذا حسن منك يا حبيبي، أفلا يعز عليك أن تعرضني للترمل الآن؟

مارماريه: لا تخافي يا حبيبتي، فإني أرجو أن أنتصر على هذا النذل.

مرغريت: وإذا انتصر عليك؟

مارماريه: كان ذلك من سوء حظي.

مرغريت: فأنا لا أنيط مستقبلي بانتصار غير مضمون!.

مارماريه: إن قلبي يحدثني أنني سأقهره وسيكون ذلك خير جزاء لي على هذه المغامرة، إذ أتخلص من هذا الوغد الذي طالما اشتاقت نفسي إلى قتله.

مرغريت: هذا شعورك أنت، وعليك أن تعتبر شعوري أنا أيضاً.

مارماريه: ماذا تعنين؟

مرغريت: معقول أن تكره من يعشق زوجتك، ولكن ليس بمعقول أن أكره من يعشقني.

مارماريه: (مغضباً) إذن فأنت تحبينه وتخافين عليه مني؟

مرغريت: كلا لا أحبه ولا أخاف عليه منك، بيد أني لست أحمل له من الكراهية ما يجعلني أغامر بمستقبلي في سبيل التخلص منه كما تفعل أنت. فافهم هذا التحليل البسيط ولا تضطرني إلى أن أرميك بالغباوة.

مارماريه: فماذا أصنع الآن؟ أتريدين مني أن أعتذر له عن المبارزة فيعيرني أمام الناس بالجبن؟

مرغريت: حاشاي أن أرضى أن يرمي الناس زوجي بالجبن. فدع هذا الأمر لي فسأسويه لك.

مارماريه: كيف؟

مرغريت: (تقوم من مقعدها أمام المزيان، وتفتح صوان ملابسها لترتدي لها فستاناً) سأذهب الآن إلى دي موتان وأحمله على الاعتذار عن المبارزة.

مارماريه: تذهبين أنت إليه! لا يا مرغريت... لأن يقتلني هو أهون عندي من ذلك!.

مرغريت: لا شان لي بما تحب وتكره.. إن لي مطلق الحرية في اتخاذ الوسيلة التي تكفل لي سلامة زوجي.

مارماريه: لكن هذه وسيلة شائنة.. ماذا يقول الناس عني؟

مرغريت: اطمئن يا حبيبي، فسأتصل به على انفراد، ولن يعلم أحد بهذه الزيارة.

مارماريه: مثل هذا لا يمكن أن يخفى يا مرغريت.

مرغريت: إنه يقيم وحده في المنزل.

مارماريه: يقيم وحده! إذن لا أدعك تذهبين إليه وهو يقيم وحده.

مرغريت: عجباً لك.. أما تحب أن يكتم هذا السر عن الناس؟

مارماريه: لا بل دعي الناس جميعاً يعلمون.. قابليه في النادي أو في البار.

مرغريت: إن كنت لا تبالي أن يرميك الناس بالجبن فإني لا أرضى ذلك لزوجي، فدعني أتصرف كما يحلو لي.

مارماريه: لكن...

مرغريت: كفى اعتراضاً ومجادلة. لقد قررت رأيي ولا حاجة بي إلى مشورتك.

مارماريه: سيكون ذلك على مسئوليتك.

مرغريت: نعم على مسئوليتي (تنظر النظرة الأخيرة في المرآة وقد أتمت زينتها) انتظر هنا ولا تغادر المنزل حتى أعود إليك.. أورفوار شيري! (تخرج).

مارماريه: (يقف أمام المرآة وحده) قد تكون هذه تضحية قاسية.. ولكن من يدري لعله يقتلني في المبارزة فيستولي على مرغريت. فهذا أهون الشرين على كل حال.. مسكينة مرغريت. إنها تحبني!

-2-

(في مكتب وزير المستعمرات الفرنسية بباريس)

الحاجب: مسيو مارماريه ومسيو دي موتان.

الوزير: دعهما يتفضلا.. (يخرج الحاجب).

الوزير: ماذا عساي أن أقول لهؤلاء الجبناء الذين أوشكوا أن يضيعوا هيبة فرنسا؟

(يدخل مارماريه ودي موتان)

الرجلان: صباح الخير يا معالي الوزير.

الوزير: صباح الخير.. تفضلا.

الرجلان: (يجلسان أمام مكتبه) ها نحن أولاء قد جئنا تلبية لدعوتك.

الوزير: أهلاً بكما.. ما هذا الذي بلغني عنكما؟ أصحيح أنكما ألغيتما المبارزة؟

دي موتان: نعم يا معالي الوزير.

الوزير: ما الذي دعاكما إلى ذلك؟ ألم تعلما أن عدولكما عن المبارزة بعد إعلانها سيكون له أثر سيء على سمعة فرنسا؟

مارماريه: على سمعة فرنسا؟

الوزير: نعم.. سيكون سبباً لضياع هيبتها من صدور المغاربة والفيتناميين والمدغشقريين وغيرهم من أهالي المستعمرات.

دي موتان: وماذا يدري أهالي المستعمرات بحادث شخصي قليل الأهمية كحادث مبارزتنا التي ألغيناها؟

الوزير: أنسيتما أن الصحافة عندنا حرة تنشر من الأخبار ما تشاء وتتناول من الشؤون الخاصة والعامة ما تريد دونما رقيب؟ يا ليت هؤلاء الصحفيين يعلمون أن كثيراً مما تخطه أقلامهم يسبب لنا متاعب كثيرة في مستعمراتنا، ويقلل من هيبتنا في صدور أهلها، فيكفوا عن كتابة ما لا يحسن وقعه في صدور هؤلاء.

مارماريه: لا يمكن تقييد الصحافة في بلادنا طبعاً.

الوزير: ولا يجوز إطلاع أهل المستعمرات على كل ما يجري في بلادنا، وإلا احتقرونا، وقوي اعتقادهم في إمكان التخلص من سيطرتنا.

دي موتان: في وسعكم أن تمنعوا وصول هذه الصحف الحرة إلى المستعمرات، ولا تأذنوا بدخولها إلا لصحف معينة.

الوزير: هذا ما تجري عليه سياستنا فعلاً. بيد أن رجال الصحافة عندنا لا يعدمون حيلاً جهنمية لتسريب صحفهم إلى تلك البلاد طمعاً في الرواج-لقد استطعنا أن نمنع وصول الصحف والكتب العربية من مصر والشام إلى بلاد المغرب، ولكنا مع الأسف لم نستطع منع الصحف الفرنسية من دخول تلك البلاد وغيرها من المستعمرات.

مارماريه: ماذا يهم أهالي المستعمرات من نبأ فردي تافه كنبأ مبارزتنا أو إلغائها؟

الوزير: إنك لا تعرف نفسية أولئك العبيد. إن من أشهى الأمور إلى نفوسهم أن يتسقطوا أنباء الفضائح الخلقية والاجتماعية التي تحدث في فرنسا إذ يجدون فيها ما يؤكد لهم أن الفرنسيين ما هم إلا بشر مثلهم.

تصور كم يكون فرحهم حين يسمعون أن نائبين فرنسيين قد جبنا عن النزال وعدلا عن المبارزة بعدما اتفقا عليها على رؤوس الأشهاد!

مارماريه: سيقولون إنما تصافيا بعد الخصام وكفى.

الوزير: كان في الإمكان أن يقولوا هذا فيما مضى حين كانت هيبة فرنسا تملأ صدورهم. أما اليوم فهذه فيتنام تصلينا ناراً حامية، وهذه بلاد المغرب تتحفز أقطارها الثلاثة للثورة العامة مولية وجهها شطر الجامعة العربية... حتى مدغشقر تجرؤ على أن تحدث نفسها بالاستقلال! إن هؤلاء لن يتخذوا عدولكما عن المبارزة إلا برهاناً على ما شاع عندهم من غلبة الجبن والخور على نفوسنا منذ سقطت بلادنا في أيدي الألمان.

دي موتان: فماذا تريد منا أن نصنع الآن؟

الوزير: عليكما أن تجريا المبارزة في أوانها المحدد.

دي موتان: أنعرض أنفسنا للموت المؤكد من أجل خوف موهوم على سمعة فرنسا؟

مارماريه: أما من سبيل آخر غير هذا لتثبيت هيبة فرنسا؟

الوزير: بل هناك سبل أخرى كثيرة سنسلكها جميعاً ولكنها لا تغنينا عن هذا السبيل.

دي موتان: هب أن الاتفاق على المبارزة لم يقع البتة.

الوزير: ولكنه وقع مع الأسف وأعلنته الصحف العالمية.

مارماريه: هب أن د يموتان ما صفعني في مجلس النواب.

الوزير: ولكن الواقع أنه صفعك.

دي موتان: هب أنه ما دعاني إلى المبارزة حين صفعته.

الوزير: ولكنه دعاك.

مارماريه: هب أنه اعتذر عن التلبية حين دعوته للمبارزة.

الوزير: إن شيئاً من هذا لم يقع بل الواقع أنه لباك إليها ولم يعتذر.

دي موتان: إنا قد تصافينا فلم يعد لاستئناف المبارزة بيننا أي معنى.

الوزير: قد يكون هذا صحيحاً  فيما يختص بكما. أما فيما يتعلق بوطنكما فلا وإني والله لا أدري ما سر هذا التشدد منكما في الامتناع بعد ما شرحت لكما الأسباب.. هل لي أن أكلمك يا مسيو دي موتان على انفراد؟

مارماريه: (ينهض واقفاً) وكأنك تريد مني أن أنصرف؟

الوزير: لا يا مسيو مارماريه، بل انتظرني في الغرفة الأخرى إذا شئت. لأني أريد أن أتحدث إليك أيضاً.

مارماريه: بكل سرور.

الوزير: شكراً يا مسيو مارماريه.

(يخرج مارماريه)

الوزير: قل لي يا مسيو دي موتان: ما الذي دعاك إلى هذا التصلب والتشدد، بحياتك اشرح لي جلية الأمر.

دي موتان: هل تعدني بكتمان السر؟

الوزير: أقسم لك بذلك.

دي موتان: إن مدام مارماريه زارتني في بيتي وتوسلت إليَّ بكل ما تملك فوعدتها بإلغاء المبارزة وإني أخشى غضبها إذا أنا رجعت في وعدي.

الوزير: لماذا يهمك غضبها؟

دي موتان: إنها تعز علي كثيراً.

الوزير: ماذا.. أتحبها؟

دي موتان: حباً جماً، وهذه فرصة أتيحت لي للمواصلة فلن أضيعها أبداً.

الوزير: أدركت الآن!.

دي موتان: لا شك أنك تقدر شعوري.

الوزير: طبعاً.. طبعاً.. أتحسبني بليد الإحساس؟

دي موتان: معاذ الله. إنك – ما علمت - لأرق الناس شعوراً.

الوزير: (يتضاحك) قل لي: أهي جميلة جداً؟

دي موتان: أهي جميلة جداً! هذه إهانة لمرغريت واتهام لذوقي.

الوزير: أهذا اسم مدام مارماريه؟

دي موتان: نعم. أتريد اسماً أعذب من هذا؟

الوزير: بربك صفها لي؟

دي موتان: صفها؟ كيف أصفها؟ إنها.. إنها الجمال كله يتخطر في فستان. إنها. لا لا أزيد على هذا. أخشى أن تدفعني دفعاً إلى الموت ليخلو لك الجو.

الوزير: ما أظن مارماريه يغلبك في المبارزة.

دي موتان: من يدري؟ إن المنايا حظوظ.

الوزير:  هل لك الآن أن تدعو لي زوج مرغريت وتنتظر أنت مكانه؟

دي موتان: (ينهض) بكل سرور (يخرج)

الوزير: عجباً لي كيف لا أعرف مدام مارماريه إلى اليوم. لقد ذهبت أيامك يا دون جوان!!

(يدخل مارماريه فيجلس)

الوزير: لقد شرح لي المسيو دي موتان كل شيء.

مارماريه: ويل للنذل؟

الوزير: لا. لاتغضب يا مسيو مارماريه فقد أقسمت له لأكتمن السر.

مارماريه: فماذا تريد مني إذن.

الوزير: ألا ترى أن الأولى بك أن تبارزه فتتخلص منه؟ هذه فرصة أتيح لك بها أن تقتله بدون أن تدينك العدالة.. فما يمنعك من اغتنامها؟

مارماريه: إني أعلم أنه لا يمكن أن يقبل شفاعة زوجتي إلا بثمن.

الوزير: فسيعفيها استئناف المبارزة من دفع الثمن!

مارماريه: ما يدريني أن لا يكون قد قبض الثمن؟

الوزير: ما أحسبها من السذاجة بحيث تعطيه الثمن قبل تسلم البضاعة.

مارماريه: وأخشى أيضاً أن أصاب أنا في المبارزة فيستولي الوغد على زوجتي غنيمة باردة.

الوزير: هذه مشكلة لا ندري كيف نحلها (يطرق مفكراً).

مارماريه: ما اتفقنا عليه من إلغاء المبارزة هو الحل الوحيد.

الوزير: ولكن فرنسا.. فكر في أمك فرنسا. لا بد من إنقاذ سمعتها المهددة.

مارماريه: لا خوف على فرنسا.

الوزير: (مقاطعاً) اسكت. هأنذا قد خطرت لي فكرة.

مارماريه: ما هي؟

الوزير: قم فادع لي المسيو دي موتان.

(يخرج مارماريه)

الوزير: (يمرر أصابعه على جبهته) هذا حل مدهش. فكرة بارعة. حقاً إني لحلال المعضلات!

(يدخل مارماريه و دي موتان)

لقد فكرت في مشكلتكما فاهتديت إلى حل يوفق بين رغبتكما الخاصة ورغبتنا في إنقاذ سمعة فرنسا.

دي موتان: هذا جميل.

الوزير: سنجري المبارزة في أوانها المعلوم..

مارماريه: كلا لن يكون هذا حلاً للمشكلة.

دي موتان: هذا ما كنا عنه نحيد.

الوزير: لا تعجلا بالاعتراض. لن تقوما أنتما بالمبارزة.

مارماريه: فمن إذاً سيقوم بها؟

الوزير: سنكلف بالقيام بها جنديين ملونين أحدهما مغربي والآخر هند صيني على أن يدعى أحدهما مارماريه والآخر دي موتان، فمن قتل منهما فعلى سميه أن يتوارى من مسرح الحياة في باريس وينتحل اسماً آخر في إحدى قرى الريف حتى ينسى الناس أمره بعد عشرة أعوام أو نحوها، وحينئذ يجوز له الرجوع إلى باريس.

مارماريه: هذه فكرة مدهشة!

دي موتان: مدهشة حقاً يستحق عليها معالي الوزير حفلة نشرب فيها نخب صحته وتوقد ذهنه ورقة شعوره!

مارماريه: حقاً إنه لجدير بأن نقيم له حفلة.

الوزير: شكراً لكما.. بل اسمحا لي أن أدعوكما الليلة للعشاء في الامباسادير، اعترافاً لكما بفضل الموافقة على هذا الحل الذي سينقذ سمعة فرنسا. فما رأيكما؟

دي موتان: هذه دعوة لا نستطيع رفضها.

مارماريه: لا يسعنا إلا القبول يا معالي الوزير.

الوزير: ألا تريان أن هناك شخصاً رابعاً ينبغي أن يشهد الحفلة معنا؟

مارماريه: من هو؟

الوزير: شخص كان له الفضل في حقن دمائكما على هذا الوجه.

دي موتان: لعلك تعني مدام مارماريه؟

الوزير: ما أعني سواها.

مارماريه: هذه التفاتة كريمة منك يا معالي الوزير.

الوزير: أحسب أنها ستسر كثيراً بشهود الحفلة.

مارماريه: لا شك. وسيكون ذلك شرفاً لها.

الوزير: إذن فإلى اللقاء الساعة السابعة في الامباسادير!

مارماريه: إلى اللقاء (يخرج).

دي موتان: إلى اللقاء.. (بصوت خافض) حذار يا رجل.. إنني لك بالمرصاد!

(يخرج)

الوزير: (يتنفس الصعداء ويتمطى) رجعت أيامك يا دون جوان!. إنها الجمال كله يتخطر في فستان!!

-3-

(في مكان المبارزة بغابة بولونيا –يقف الشهود والمتفرجون في نصف دائرة وبينهم وزير المستعمرات وقد وقف أمامهم الجنديان المتبارزان)

الوزير: واحد.. اثنان.. ثلاثة!

(يتعالى الصفير وصيحات الاستنكار من جمهور المتفرجين)

الوزير: (بأعلى صوته) مارماريه.. دي موتان! ما لكما لم تتحركا؟ ويلكما.. أجبنتما عن النزال؟

الجندي المغربي: كلا.. سنريكم الآن كيف يكون النزال.

الوزير: لقد أعطيت الإشارة فلم تتحركا.

المغربي: (لمبارزه) اسمع يا مارماريه!

الجندي الهند صيني: أنا لست مارماريه.. أنا تيان كاي.

المغربي: اسمع يا أخي يا تيان كاي..

الهند صيني: نعم يا دي موتان!

المغربي: لست دي موتان.. أنا ثابت بن مهدي.. أرأيت إلى هؤلاء الفرنسيين الجبناء كيف يدفعوننا ليقاتل بعضنا بعضاً لينتحلوا هم شجاعتنا في النهاية!

الهند صيني: أجل إنهم يتظاهرون بالقوة والبطش بواسطة سواعد الآخرين.

المغربي: أرأيت إلى هذا الوزير المأفون كيف يرمينا بالجبن وهو يعلم أن المغاربة والفيتناميين هم الذين دافعوا عن فرنسا وسقطوا صرعى في ميادين القتال، وأن أبناء جلدته هم الذين خروا ساجدين تحت أقدام هتلر!

الهند صيني: وهو اليوم يحملنا على أن نقوم بتمثيل هذه المهزلة السخيفة ليوهم العالم بأن النائبين الفرنسيين دي موتان ومارماريه لم يجبنا عما تورطا فيه من إعلان المبارزة.

الوزير: (صائحاً بغضب): اقبضوا على العبدين الذليلين!

المغربي: في وسعكم أيها الفرنسيون الجبناء أن تقبضوا علي وعلى أخي وزميلي هذا وتخمدوا أنفاسنا إذا شئتم، ولكنكم لن تستطيعوا أن تخمدوا نيران الثورة التي تتأجج في صدور المغاربة والفيتناميين وغيرهم ممن تدعونهم عبيداً لكم وهم الأحرار وأنتم العبيد!

الهند صيني: أظننتم أيها الفرنسيون الجبناء أنني سأفرغ رصاصي في صدر هذا الأخ المغربي؟ ويلكم.. ليحتفظن كلانا برصاصه ليفرغه في صدور قوم آخرين!

(يقبض الجنود عليهما ويسحبونهما من الميدان وهما يلعنان ويسبان).

-4-

الوزير (قائماً يخطب في وسط ضجيج المتفرجين): اسمعوا أيها السادة.. أصغوا لي أيها السادة..

(يهدأ الضجيج رويداً رويداً)

الوزير: أيها السادة.. لعلكم دهشتم لهذا المشهد العجيب الذي رأيتم، ولكنكم تتساءلون عن وجه الحقيقة فيه، فاعلموا إذن أن هذا الذي شهدتموه آنفاً إنما هو مشهد تمثيلي كلفنا هذين الجنديين الملونين أن يقوما به تمهيداً للمبارزة الحقيقية التي ستجري الآن بين النائبين الفرنسيين الباسلين المسيو دي موتان والمسيو مارماريه وها قد نجحت التجربة والحمد لله، فقد شهدتم رأي العين ما يثبت للعالم جميعاً بالبرهان القاطع أن فرنسا لم تعتمد ولن تعتمد إلا على شجاعة أبنائها الفرنسيين الأقحاح فإلى هؤلاء يرجع الفضل في كل ما أحرزته فرنسا من النصر في ميادين القتال. أما الجنود الملونون فهؤلاء لا يغنون عنها شيئاً بل تقع عليهم التبعة فيما أصاب فرنسا من الهزيمة في بعض الميادين.

أصوات: "تتعالى من الجمهور": يحيا الفرنسيون الأبطال! يسقط الملونون الجبناء! تحيا فرنسا الباسلة!.

الوزير: أين دي موتان ومارماريه؟

(يقترب دي موتان ومارماريه منه)

الوزير: لقد وجب عليكما الآن أن تتبارزا.

دي موتان: لكني وعدت مدام مارماريه ولا قبل لي بغضبها!

الوزير: في وسعك أن ترضيها فيما بعد.. دع المناقشة الآن وخذ طبنجتك.. وأنت يا مسيو مارماريه خذ طبنجتك واستعد.

مارماريه: لكن دي موتان قد قبض الثمن!

الوزير: إنما قبض بعض الثمن فاقتله ولا تدعه يقبض الثمن كله.

مارماريه: لكنه قد يقتلني!

الوزير: إذن يريحك من الحيرة ويريح زوجتك!

مارماريه: أخشى أن يخلو له الجو..

الوزير: لا تخف.. سأكون له أنا بالمرصاد!

هيا تقدم إلى الميدان وأنقذوا سمعة فرنسا!

(يتقدمان إلى ميدان المبارزة وبأيديهما طبنجاتهما)

هتافات: يحيا أبناء فرنسا البواسل.. تحيا فرنسا الباسلة!

الوزير: أيها السادة الزموا الهدوء والسكينة... سأعطي الإشارة الآن.. استعدا أيها النائبان الباسلان.. أريا العالم كله نموذجاً من شجاعة أبناء فرنسا!! استعدا.. واحد.. اثنان.. ثلاثة.

(يغمض المتبارزان عيونهما ويطلقان في الهواء ثم يترنحان ويسقطان مغشياً عليهما)

الوزير: (من خلال ضجيج الجمهور) يا رجال الإسعاف دونكم جثتي الشهيدين سجوهما واحملوهما.

(ينطلق رجال الإسعاف فيوارون الجثتين في عربتهم)

الوزير: أيها السادة ترحموا على النائبين الفرنسيين الباسلين مارماريه ودي موتان.. لقد سقطا شهيدين في ساحة الشرف.. ولتحيا فرنسا!

(يترنم الجميع بنشيد المارسييز)

(ستار)

         

* مجلة الإخوان المسلمون (المصرية) في 8 / 6 / 1947