بين واشنجتون والرياض

بين واشنجتون والرياض *

بقلم الأديب الكبير: علي أحمد باكثير

من الرئيس ترومان إلى الملك عبد العزيز

القصر الأبيض –واشنجتن 10 فبراير سنة 1948

إلى حضرة صاحب الجلالة الملك عبد العزيز آل سعود ملك المملكة العربية السعودية.

عزيزي الملك

لعل من نافلة القول أن أذكر جلالتكم بما يربط بين بلدينا من صلات المودة القديمة العهد، القائمة على مبادئ العدل والحرية والرغبة الأكيدة في التعاون التام لصون السلام العالمي ولخير بني البشر قاطبة –تلك الصلات الأدبية التي وثقت عراها بعد ذلك المصالح الاقتصادية المتبادلة منذ تفضلتم فأذنتم لشركاتنا الكبرى بإقامة منشئاتها العظيمة لاستنباط آبار البترول الغنية في بلادكم على أساس التعاون المثمر لخير البلدين.

فلا غرو يا صاحب الجلالة –نتيجة لهذا الارتباط الوثيق بين بلدينا- أن صار لكل ما ينتاب أحدهما من الأحداث الدولية سارها وضارها صداه البعيد المدى في صاحبه.

وحيث إنه يهم هذه البلاد أن يستقر السلام في ربوع الشرق العربي الذي تربطه ببلادكم روابط الدين والتاريخ واللغة، وتنتظمه جميعاً جامعة الدول العربية، وحيث أن لشخصية جلالتكم مكانها المرموق في هذه الجامعة وفي قلوب العرب جميعاً فقد عن لي أن استنجد بكم باسم السلام العالمي وباسم الإنسانية المعذبة لتستخدموا نفوذكم العظيم في وضع حد للحرب الأهلية الناشبة بالأرض المقدسة بين أهلها العرب واليهود، وذلك بأن تندبوا العرب إلى مسالمة مواطنيهم اليهود فكفى ما أصابهم من الاضطهاد النازي وسياسة الإبادة التي اتبعها معهم طوال حكمه المشئوم، مما اعتقد اعتقاداً جازماً بأن ذلك لا يرضيكم –فضلاً على أن ما يقوم به العرب اليوم يعتبر تحدياً صارخاً لقرار هيئة الأمم المتحدة القاضي بتقسيم البلاد بين الفريقين، ومن ثم يعتبر عملاً عدائياً موجهاً إلى جميع الدول المشتركة في الهيئة وفي مقدمتها بلادكم المجيدة.

وأخوف ما أخافه أن تضطر الدول المتحدة إلى إرسال قوات مسلحة لتأديب هؤلاء الخارجين على قرار هيئتها وتنفيذه بالقوة، رغم ذلك ما فيه من تعريض أرواح الألوف من بني جنسكم للموت، مما لاشك عندي أنه سيؤلمكم وسيؤلمني أيضاً لألمكم.

وإني لا أكتمكم أنني أخشى إذا تمادى هذا الحال أن يتكدر صفو العلاقات الطيبة بيننا، وتصاب مصالحنا المشتركة بأضرار بالغة لأن شعب الولايات المتحدة شديد العطف على اليهود المنكوبين الذين قد خضعوا لقرار التقسيم على الرغم من عدم وفائه بكل مطلبهم، فجدير بالعرب ألا يكونوا بأقل من اليهود رغبة في إقرار السلام واحتراماً لقرار الهيئة الدولية الموقرة.

إن التاريخ يا صاحب الجلالة ليرتقب منكم أن تقوموا بعمل حاسم في هذا السبيل ليسجل في صفحاته أن الملك عبد العزيز ابن السعود قد استطاع بحكمته ونفوذه أن يقر السلام في الأرض المقدسة، فأنقذ بني جنسه العرب من وبال العقوبة العالمية، وساهم في الترفيه عن شعب إسرائيل المعذب المضطهد.

وتفضلوا جلالتكم بقبول تحياتي وتمنياتي الطيبة وخالص شكري سلفاً.

المخلص

طبق الأصل هاري ترومان

رئيس الولايات المتحدة

* * *

من الملك عبد العزيز إلى ترومان

القصر الملكي –الرياض 10 ربيع الآخر سنة 1367هـ

إلى صاحب الفخامة الرئيس هاري ترومان

رئيس جمهورية الولايات المتحدة

عزيزي الرئيس

تلقيت رسالتكم المؤرخة 10 فبراير الجاري وأحطت بمضمونها علماً. وإني مع شكري لفخامتكم على ما وجهتم إلي فيها من عبارات المودة والمجاملة، لا يسعني إلا أن أصارحكم –والصراحة من آدابنا المرعية- بأنه ما كادت تتلى علي الرسالة حتى عجبت أشد العجب من أن يبلغ بكم الحرص على إحقاق باطل اليهود إلى حد أن تسيئوا الظن بملك عربي مثلي لا تجهلون إخلاصه للعروبة والإسلام، فتطلبوا منه أن يناصر باطل الصهيونيين على حق قومه.

ولكي تقدروا موقع هذا الطلب من نفوسنا فسأضرب لكم مثلاً: لو اعتدت دولة قوية على إحدى ولاياتكم المتحدة ففتحت أبوابها لمهاجرين من شذاذ الآفاق ليقيموا فيها دولة لهم. فلما هب الأمريكيون لرد ذلك العدوان والحيلولة دون قيام تلك الدولة الغريبة في أرضهم جئنا نحن فناشدناكم بحق الصداقة التي تربط بلدينا وباسم السلام العالمي أن تستعملوا نفوذكم ومكانتكم لدى الأمريكيين ليكفوا عن الدفاع عن بلادهم ويمكنوا لذلك الشعب الغريب أن يقيم فيها دولته حتى يسجل التاريخ في صفحاته البيضاء أن الرئيس ترومان قد استطاع بحكمته ونفوذه أن يقر السلام في القارة الأمريكية! فليت شعري ماذا كان يكون وقع هذا الطلب في نفوسكم؟

يا فخامة الرئيس، إنني ما بلغت المكانة المرموقة التي تذكرونها لي عند العرب إلا لما يعرفون من تمسكي الشديد بحقوق العروبة والإسلام، فكيف تطلبون مني ما لا يمكن أن يصدر من أي عربي مسؤول؟

وليست الحرب القائمة في فلسطين حرباً أهلية كما ذكرتكم، ولكنها حرب بين العرب أصحابها الشرعيين وبين غزاة الصهيونيين الطارئين عليها من الآفاق على كره من أهلها وبمساعدة الدول التي تدعي حب السلام العالمي وهي تتلاعب به.

وما قرار التقسيم الذي كان لحكومتكم الوزر الأكبر في دفع الدول إلى تأييده إلا قرار جائر رفضه دول العرب وشعوبهم من البداية، ورفضه معهم الدول التي آثرت أن تؤيد الحق، فليس العرب مسؤولين عن النتائج الوخيمة التي قد أنذروا بها الهيئة من قبل.

وإني لا أشفق على بني جنسي الذين يستشهدون في المعارك الدامية بفلسطين دفاعاً عن وطنهم ضد الغزاة الصهيونيين وغيرهم ممن قد يأتون لمناصرتهم، فإننا معشر العرب نعد ذلك شرفاً يغبطون عليه، ولن يتراجعوا، ولن نتراجع عن تأييدهم بكل ما أوتينا من قوة، حتى تبدد أحلام الصهيونيين وأطماعهم في بلادنا إلى الأبد.

أما ما ذكرتم من المصالح الاقتصادية التي تربط بلدينا فاعلموا أنها أهون في نظرنا من أن نبيع بها شبراً واحداً من أرض فلسطين العربية لمجرمي اليهود. ويشهد الله أنني قادر على أن اعتبر آبار البترول كأن لم تكن، فهي نعمة ادخرها الله للعرب حتى أظهرها لهم في الزمن الأخير. فلا تكون والله نقمة عليهم أبداً.

ولقد صرحت للعالم مراراً أنني مستعد أن أسير أنا وأولادي جميعاً لنقاتل في سبيل فلسطين حتى نمنع قيام دولة اليهود فيها أو نموت، فكيف يعقل بعد هذا أن يكون الكسب المادي من البترول أعز من نفسي ونفوس أولادي.

إن القرآن الذي نؤمن به، وعليه نحيا، وعليه نموت، قد لعن اليهود كما لعنتهم التوراة والإنجيل، وهو يوجب علينا أن نمنع اعتداءاهم على هذه الأرض المقدسة بأرواحنا وأموالنا، لا يقبل منا في ذلك صرفاً ولا عدلاً. وإذا كانت العقيدة الدينية عند المسيحيين الأمريكيين وغيرهم قد بلغت من الرقة والضعف بحيث تسوغ لهم تمكين اليهود من تدنيس الأرض المقدسة، فإن قلوبنا ما تزال عامرة بالإيمان الذي يحول بيننا وبين ذاك.

لقد كان في ممالأتكم السافرة لأعدائنا الصهيونيين، وموقف حكومتكم العدائي نحو العرب ما يكفي ليحملنا على قطع الصلات الودية بين بلدينا، وفسخ عقود الشركات الأمريكية، وإلغاء الامتيازات التي خولناها لها، لولا أننا آثرنا ألا نعجل باتخاذ مثل هذا الإجراء، لعل حكومة الولايات المتحدة تراجع نفسها وتصحح موقفها من قضية فلسطين فتعدل عن تأييد الباطل الواضح إلى تأييد الحق الواضح، دون ضغط منا أو تهديد بقطع مصالحها الاقتصادية في بلادنا، لأننا معشر العرب نؤثر أن ينتصر الحق بالحق، لا كما يفعل أعداؤنا الصهيونيون الذين يحملون الحكومات والهيئات العالمية على تأييد باطلهم بالرشوة، وبالضغط الاقتصادي وبالحرمان من أصواتهم في الانتخابات وهلم جرا.

بيد أننا متى أيقنا أن كرامة الحق ستهدر فلن نتردد في صيانتها بالوسيلة التي لا نؤثر غيرها عليها ولا سيما إذا قررت ذلك جامعة الدول العربية التي نتقيد بقراراتها في كل ما يحفظ كيان العرب ويصون حقوقهم.

ويسرني أن أطمئنكم، بأن الضيوف الأمريكيين النازلين في بلادنا لن يمسهم أي سوء ما داموا في أرضنا، وقصارى ما قد يصيبهم إذا جد الجد أن نقصر أمد غربتهم عن بلادهم فنرحلهم إليها سالمين موفوري الكرامة مصوني الحقوق.

وفي الختام نذكركم يا صاحب الفخامة بأن البضاعة التي قامت عليها صلاتنا الاقتصادية هي من البضائع التي يكثر طلابها ويقل عارضوها في أرجاء العالم.

وتفضلوا فخامتكم بقبول تحياتي وتمنياتي الطيبة.

طبق الأصل

المخلص

عبد العزيز آل سعود

ملك المملكة العربية السعودية.

*جريدة (الإخوان المسلمون المصرية) بتاريخ : 18/4/1948