الحاجز المستحيل

من المسرح السياسي (18)

الحاجز المستحيل*

بقلم الأديب الكبير: علي أحمد باكثير

المنظر: حجرة في قصر الهمام

"الهمام وتابعه أبو الخلول في انتظار زيارة النابح" "يدخل الحاجب"

الحاجب: هذا جناب النابح يا سيدي قد حضر.

الهمام: "ينهض" حضر؟ أين هو؟

النابح: (يدخل من الباب الخاص هأنذا يا سيدي الهمام. ألا تحب أن أحضر؟

الهمام: بلى يا سيدي أنا من الصباح في انتظار تشريفك ولكن..

النابح: دخلت من الباب الخلفي حتى لا يراني الناس.

التابع: ألم أقل لك يا سيدي الهمام إن جناب النابح شديد الاحتياط؟

الهمام: تفضل يا سيدي تفضل.

النابح: "يجلس" اسمع يا سيدي الهمام. أستطيع الآن أن أكشف لك سر الخطة.

الهمام: إني في غاية الشوق لمعرفتها.. ما نمت البارحة من فرط الشوق.

النابح: "للتابع" أغلق علينا الباب.

التابع: وأبقى أنا أم أخرج؟

الهمام: بل تبقى أنت معنا. أنت أمين سري.

التابع: شكراً يا سيدي الهمام "يغلق الباب".

الهمام: هات يا جناب النابح.

النابح: قد امتلأت المدينة بأنصارك.

الهمام: أعلم ذلك ولكن ماذا يراد منهم أن يصنعوا؟

النابح: وفي طيات ثيابهم المدى والسكاكين.

الهمام: أعلم ذلك ولكن ماذا يصنعون بها؟

النابح: "في استخفاف" اطمئن فلن يستعملوها على أي حال لتقطيع اللحم على سفرتك.

الهمام: "متظرفاً" تذكر يا سيدي إن السفرة ستكون في قصرك لا في قصري هذا اليوم الأول.

النابح: اطمئن أيضاً فلن يكون لهذا اليوم ثانٍ!

الهمام: "في اهتمام" ما تعني؟

النابح: سينتهي اليوم كل شيء.

الهمام: أحقاً يا سيدي؟

النابح: إذا نجحت الخطة.

الهمام: ولكن ما هي الخطة ذاتها؟ إنك لم تشرحها لي بعد.

النابح: الموكب سيبدأ من المطار.

الهمام: هذا معلوم.

النابح: وسيخترق شوارع العاصمة.

الهمام: هذا ليس في مصلحتنا. ينبغي تقصير سير الموكب لئلا يتمكن الشعب من الترحيب بهم والتهليل لهم إلا في أضيق نطاق.

النابح: لا تخف.. لن يستمر سير الموكب إلى النهاية.

الهمام: لن يستمر!

النابح: ماذا يصنع أنصارك إذن؟

الهمام: إني حتى الآن لا أدري ماذا يراد منهم أن يصنعوا.

النابح: سيضعون اليوم حاجزاً بين الشمال والجنوب ينفصلان به إلى الأبد!

الهمام: كيف؟ يهتفون بالاستقلال على أسماع مندوبي دول العالم؟

النابح: بل أخطر من ذلك.

الهمام: ينادون بسقوط الاستعمار الشمالي.

النابح: هذا وحده لا يكفي.

الهمام: يتحرشون بجموع الشعب ليفسدوا عليها الموكب؟

النابح: هذا أيضاً لا يكفي.

الهمام: فماذا يضعون إذن؟

النابح: لا تتغابَ يا سيدي الهمام فقد فهمت ما أعني.

الهمام: أجل ولكن أحب أن تصرح لي به لكي أتأكد.

الهمام: أي غبار؟ إنه محفوظ في خزانتي الحديدية.

النابح: تأكد أن الذي في بالك هو المقصود.

الهمام: لكن هذا أمر عظيم!

النابح: الغرض الذي نريد تحقيقه أيضاً عظيم!

الهمام: هل يقدر على ذلك أنصارنا وهم قلة في جانب الكثرة الكاثرة من الشعب؟

النابح: لم لا؟ إنهم وحدهم المسلحون.

الهمام: والبوليس؟

النابح: لن يحمل البوليس غير عصيهم.

الهمام: ورضيت الحكومة بذلك؟

النابح: أقنعناها بأن ليس من المصلحة أن يحمل البوليس السلاح لئلا يستفزوا بذلك شعور الأهالي في مثل هذا اليوم السعيد ثم لا تنس أن مدير البوليس معنا.

الهمام: لكني أخشى يا سيدي عاقبة هذا العمل الخطير. إن الشعب سيدرك السر فيثور علينا!

النابح: اطمئن من هذه الناحية فقد قدرت كل احتمال.

الهمام: أؤكد لك أنه سيثور.

النابح: أعلم ذلك ولكن قبل أن يثور علينا هذا الشعب الجنوبي سيثور الشعب الشمالي ويضطرم بروح السخط والكراهية للجنوبيين وبذلك تتأصل العداوة بين الفريقين.

الهمام: لكن..

النابح: (ينهض) حسبك.. لم يبق عندي وقت لسماع بقية أرائك.. علي الآن أن أتجهز لاستقبال ضيوفنا في المطار (يتوجه نحو الباب ليخرج).

الهمام: إذن فليحالفك النجاح!

النابح: النجاح مضمون، في وسعك الآن أن تخرج التاج الذي أهديناه إليك وتنفض عنه الغبار.

النابح: أعني غبار اليأس الذي تراكم عليه!

الهمام: صحيح! مع السلامة! مع السلامة! (يخرج النابح).

الهمام: أجل.. ما اكتحلت عيني بالتاج منذ زمان، سألبسه اليوم.

التابع: كلا يا سيدي لا تفعل.

الهمام: لم ويلك؟ ألا تحب أن تراه على رأسي؟

التابع: لا أحب أن أراه على رأسك إلا يوم التتويج.

الهمام: ومتى يحين يوم التتويج هذا؟

التابع: قريباً جداً يا سيدي.

الهمام: أتظن ذلك يا أبا الخلول.

التابع: لا ريب عندي في ذلك.

الهمام: إذن فدعني أتمرن من الآن علي لبسه.

التابع: لا يحتاج لبسه إلى مران.

الهمام: (في حدة) وماذا يضيرك أن ألبسه الآن؟

التابع: لا شيء يا سيدي.. لا شيء.. يخرج الهمام

التابع: يا ويلي.. سيغلبني الضحك حين أراه بالتاج وسيغضب مني! ماذا أصنع لأمنع الضحك؟ سأتذكر أبأس يوم من أيام حياتي.. أجل سأتذكر يوم فاز خصومنا في الانتخابات.

يدخل الهمام وعلى رأسه التاج.

الهمام: انظر يا أبا الخلول كيف ترى؟

التابع: (خافضاً بصره إلى الأرض) جميل يا سيدي.. رائع!

الهمام: جميل رائع من قبل أن تنظر إلى وجهي؟ ارفع رأسك!

التابع: اعفني يا سيدي.. لا ينبغي أن أرفع رأسي في حضرة صاحب التاج!

الهمام: صاحب التاج هو الذي يأمرك!

التابع: أمرك يا سيدي (يرفع بصره).

الهمام: هيه ما رأيك؟

التابع: (يتمتم) فازوا في الانتخابات وفشلنا! فازوا في الانتخابات وفشلنا!

الهمام: ويلك ما لنا وللانتخابات الآن؟

التابع: (يظهر الأسى والحسرة) الانتخابات يا سيدي.. الانتخابات التي كنا نأمل الفوز فيها فهزمونا!

الهمام: ما خطبك؟ هل جننت؟

التابع: أجل، سيدي أكاد أجن حين أذكر ذلك (بصوت يخالطه البكاء) إنها يا سيدي كارثة الكوارث!

الهمام: أتريد أن تبكي؟

التابع: من الحسرة يا سيدي.. من الحسرة.

الهمام: خيبك الله، أقول لك انظر إلى التاج على رأسي فتذكر لي الانتخابات وتبكي؟

التابع: وماذا تريدني أن أصنع.

الهمام: افرح وابتهج.. ابتسم!

التابع: أخشى يا سيدي أن يتطور الابتسام إلى الضحك!

الهمام: اضحك.. ماذا يمنعك؟ اضحك ملء فيك!

التابع: (ينفجر مقهقهاً بعد هذا الكبب الطويل) هئ هئ هئ هأ هأ هأ..

الهمام: (يرتاب قليلاً في معنى ضحكه) ويلك ما هذا الضحك كله؟

التابع: هأ هأ هأ هأ..

الهمام: (محتداً) مم تضحك كل هذا الضحك!؟

التابع: من شدة الفرح يا سيدي.. من شدة الفرح.

- 2 -

(نفس المنظر بعد قليل)

الهمام: ترى ماذا يجري الآن في الموكب هناك؟

التابع: ثق يا سيدي أن كل شيء على ما يرام.

الهمام: لا أكتمك أنني شديد القلق إني على نار!

التابع: انظر يا سيدي.. هذا رسول قد أقبل!

الهمام: ترى أي نبأ يحمل!

التابع: البشرى لا ريب.. (يدخل الرسول)

الهمام: ماذا وراءك؟ تكلم؟

الرسول: (يلهث من أثر الجري) انتقل الضيوف من الموكب يا سيدي وانطلقوا في طريق آخر.

الهمام: إلى أين؟

الرسول: إلى قصر جناب النابح.

الهمام: وهو معهم؟

الرسول: نعم وجميع الوزراء والكبراء.

الهمام: النابح هو الذي أصدر الأمر بذلك؟

الرسول: لا يا سيدي بل رئيس الوزراء.

التابع: وأين ذهب أنصارنا؟

الرسول: انطلقوا ليهاجموا القصر.

الهمام: أي قصر؟ 

الرسول: قصر جناب النابح.

الهمام: ويلهم.. من الذي أمرهم بذلك؟

الرسول: رئيس الكتائب.

الهمام: ويل له كيف أقدم على ذلك دون أمري؟

التابع: دعهم يا سيدي. هذه فرصة لا ينبغي أن تضيع من أيدينا.

الهمام: أخشى أن يصيبوا النابح نفسه!

التابع: لا تأسف عليه.. سترسل بلاده إلينا نابحاً غيره.

الهمام: والمسئولية؟

التابع: لا مسئولية عليك، هذه الخطة خطته وهو ولم يصدر إلى رجالنا أمراً بتغييرها أو إلغائها.

الرسول: هل من أمر يا سيدي تريد أن أبلغه لهم؟

الهمام: الآن بعد ما قضي الأمر؟

التابع: انظر يا سيدي. هذا رسول آخر قد أقبل.

الهمام: (مرتبكاً) اللهم أسمعنا خيراً.. (يدخل الرسول)

الرسول: أسرع يا سيدي.. أسرع بالفرار!

الهمام: (مرتاعاً) ماذا تقول؟

الرسول: يجب أن تخرج من المدينة حالاً!

الهمام: ويلك أتأمرني أنت؟

الرسول: هذا يا سيدي أمر جناب النابح؟

التابع: النابح.. أحي هو بعد؟

الرسول: بالطبع.. لقد أمر ألا يغادر جميع أنصارنا المدينة.

التابع: ألم يقتحموا قصره؟

الرسول: حاولوا ذلك فتصدى لهم البوليس وأطلقوا فيهم النار.

الهمام: ومن أين للبوليس السلاح؟

الرسول: من قصر جناب النابح.

الهمام: إذن فقد نقض بالاتفاق الذي بيّت.

التابع: طبعاً يا سيدي لما رأى الخطر على نفسه.

الهمام: وأصيب من رجالنا أحد؟

الرسول: أصيب منهم كثير ومن غيرهم أيضاً، وقتل مدير البوليس.

الهمام: مدير البوليس؟

الرسول: والحكمدار أيضاً.

الهمام: دعني من الحكمدار ولكن كيف قتلوا مدير البوليس؟

الرسول: تصدى ليمنعهم من اقتحام القصر فقتلوه.

التابع: وعلى أثر ذلك أطلق البوليس فيهم النار؟

الرسول: نعم.

التابع: هيه.. خاف النابح على نفسه! ليست عنده شجاعة سلفه!

الرسول: هيا يا سيدي أسرع بالفرار من العاصمة.

الهمام: ولم لا أبقى في قصري؟

الرسول: في بقائك هنا خطر على حياتك.

الهمام: على حياتي؟

الرسول: أجل.. الشعب.. الشعب هائج ثائر.

الهمام: على من؟

الرسول: عليك وعلينا جميعاً.

الهمام: ويلهم يثورون علي ولا يثورون عل مستعمريهم؟

التابع: هيا يا سيدي قبل أن يفوت الأوان!

الهمام: هيا اتبعني إذن! لكن التاج.. سآخذ التاج معي.

التابع: دع التاج في مكانه.. لا خوف عليه.

الهمام: سيأخذونه مني؟

التابع: كلا لن يأخذه أحد.

الهمام: لا لا أستطيع أن أتركه هنا.

التابع: "يأخذ بيده فيجذبه نحو الباب بقوة" خل التاج هنا: لن أقوى على الفرار معك وأنت تضحكني طول الطريق!.

 "ستار"

         

*مجلة الدعوة في 4 رجب 1373