الندم بعد فوات الأوان

بقلم : محمد الحسناوي

المشهد الأول

( المكان : غرفة من بيت في قرية ضروان اليمنية . في صدرها فراش يضطجع عليه الأب المسن المريض ، وحوله أولاده الشباب : حارث وصالح وعلقمة ، أثاث الغرفة ينمّ عن نظافة وترتيب ومستوى من العيش متوسط . الوقت : ليلاً ) .

الأب : ( متنحنحاً من شدة المرض بالعاً ريقه بصعوبة ) حدثوني عن أخبار الموسم ، ماذا جنيتـم ،

         ماذا بعتم ، ماذا أنفقتم في سبيل الله ، وماذا ادخرتم لأنفسكم ولعيالكم يا أبنائي ؟

حارث : تَهمُّنا صحتُك يا أبي ، والحديث يتعبك ، وأنت زاهد بالمال والدنيا ، فلا تُتعبْ نفسك بشيء

         من هذا .

الأب : يا بني أنا لا أتعب في عمل الخير . لو كنت سليماً معافى لاشتركت معكم كالعادة في القطاف

        والحصاد ، وتوزيع اللازم على الفقراء وأصحاب الحاجات بنفسي .

علقمة : ما حصل يرضيك يا والدي ، فاطمئن . إن وصيتك الغالية نفذناها من أول الموسم إلى آخره

الأب : يا حارث ويا علقمة ، هل هناك مانع من سماع التفاصيل والتمتع بأخبار الخير ؟ هذا الحديث

       يعوضني عن شهود الموسم ، والاستمتاع برؤية مروج القمح وهي تتماوج مع النسيم العليل ،

       وعناقيد العنب تتدلى كالأطفال من أحضان أمهاتها ، وأيدي الفقراء والأرامل تحمل حصصها

       كأنها امتلكت كنوز الملك سليمان  .

حارث : إذا كان لا بدّ من إجهاد نفسك ، فأنت تحب أن يبدأ الحديث أوسطُنا صالح .

الأب : أنتم سواء عندي في المحبة ، لكن دعوا صالحاً في الحديث متأخراً .

حارث : السمع والطاعة ، يا أبتاه . تكلم يا أخي علقمة .

علقمة : أنا حصتي بين إخواني الإشراف على حقل القمح والشعير ، وقد استطعنا أن نحصد ونبيع

         ونختزن من القمح عشرين حمل بعير ، ومن الشعير خمسة عشر حملاً ، غير القش والتبن

         المتبقي للعلف أو صناعة الأوعية .

الأب : الحمد لله على ما أنعم وتفضل . لكن بمن استعنت في الحصاد والدرس والتذرية والنقل إلى

        السوق ، يا ابني يا علقمة  ؟

علقمة : أعددت لك مفاجأة سارة يا أبي . هذه المرة لم أستعن بأحد غريب . كل الأعمال قام بهــا

         أولادي ، حفدتك الفتيان قد شبوا عن الطوق . تقاسمنا أنا وأبنائي وبناتي وزوجتي العمل ، 

         وأتقنّا الحَفاظ على القمح والشعير ، فلم تضع منهما حبة .

الأب : وابنة عمك الأرمل صبيحة وأولادها اليتامى السبعة ، هل استعنتم بهم ، يا علقمة ؟

علقمة : ابنة عمي وأولادها سوف يحدثك عنهم أخي صالح .

الأب : وكيف حسبتَ حَصَّةَ الفقراء والمساكين ، وكيف وزعتَها يا علقمة ؟

علقمة : اتفقنا أنا وأخي الكبير حارث أن نكتفي هذا العام بما يوزعه أخونا صالح من موسم التين

         والعنب . والتين والعنب أكبر الحصص من ثروتنا .

الأب : يا علقمة ... أفهم أنك لم توزع شيئاً من القمح أو الشعير على الفقراء ؟

علقمة : نعم ، يا أبي .

الأب : والعلف ياعلقمة ، ألم توزع منه شيئاً ؟

علقمة : نعم يا أبي . لأن أخي صالحاً سوف ينوب مَنابَنا في التوزيع .

الأب : أخشى إذا سألتك : هل تبرعت بقرش أو رغيف إلى فقير أو جائع ، أن تقول لي : لم أفعل .

علقمة : ....( على حين تسمع تأوهات الأب من الألم والحسرة ، وهو يتقلب في فراشه ) .

الأب : وأنت يا حارث حدثني ماذا صنعت ؟

حارث : أنا أرى آثار الحديث واضحة على صحتك يا والدي . صحتك غالية علينا يا أبتاه ، حيــن

         يَشفيك الله تعالى قريباً نُحدِّثك بكل التفاصيل ، ونحن على استعداد لتصحيح كل ما تريــد

         تصحيحه ، يا أبي .

الأب : أنا لا أعلم الغيب ، ولكني أرى الأمور ليست على ما يرام يا حارث ، يا ولدي الكبير العاقل!

حارث : وهذا ما أخشاه على صحتك .

الأب : صحتي ليست بشيء أمام حقوق العباد ورب العباد ، يا حارث !

حارث : حين تسمع كلام أخينا صالح سوف تُسرُّ غايةَ السرور؟

الأب : لماذا يسرني حديث صالح  ، ولا يسرني حديثك أنت يا حارث وحديث علقمة أيضاً ؟

علقمة : يا أبي أنت تحبّ صالحاً ، وتميزه علينا ، وكلنا من أمّ واحدة !

الأب : أنتم سواسية في المحبة عندي ، أنتم أولادي ، لكن عمل بعضكم يختلف عن بعض يا حارث.

حارث : المحبة من الله !

الأب : وصلة الرحم ، وحرمة الجيران ، وإنصاف الفقراء والمساكين بإعطائهم حقوقهم من أمر الله

       أيضاً ، يا أولادي .

حارث : تكلم يا أخي صالح عن أعمال الخير التي قمت بها أنت .  

الأب : بعد أن تحدثني أنت يا حارث عن أعمالك ..

حارث : أنا حصتي الإشراف على بستان النخيل . أبشرك بأن موسم هذا العام ضعف الموســـم

         الماضي .

الأب : لله الحمد والفضل والمنة على ما أنعم . لكن بمن استعنت في القطاف وفي النقل إلى السوق

        أو المخزن يا حارث .

حارث : زوجتي وأبنائي وبناتي قاموا بالأعمال كلها بإشرافي ومشاركتي على أحسن ما يرام .

الأب : ( ساخراً) وأنفقت اللازم على أصحاب الحاجات والفقراء على أحسن ما يرام ؟

حارث : ....

الأب : مالك تسكت يا كبير الأبناء !

حارث : اتفقنا على أن نكتفي بما يوزعه أخونا صالح !

الأب : ( ساخراً ، ساخطاً ) وهل يدخل الجنة صالح بالنيابة عنك وعن أخيك علقمة ؟

حارث : نحن إخوة ، والثروة مشتركة في النتيجة بيننا ، وثواب الله تعالى مشترك بيننا .

الأب : لست ماهراً في الحساب يا ولدي الكبير .

حارث : وكيف يا أبي ؟

الأب : يا ولدي أنت تعلم أن لكل نوع من الغلال أو الثروة نوعاً من الصدقة والزكاة .  فإذا تصـدق

        وزكى أخوك صالح عن التين والعنب ، فأنت لم تتصدق عن تمر النخيل ، ولم يتصدق أخوك

        علقمة عن القمح والشعير . وإذا سدّ أخوكم حاجة بعض فقراء القرية  فمن يسدّ حاجة البقية؟

حارث : هل نحن مسؤولون عن كل أهل القرية يا أبي !

الأب : وعن الغرباء عابري السبيل أيضاً يا حارث !

علقمة : يا أبي أنت تُكلّف نفسك زعامة القرية ، وأنت لست بحاجة لأحد منها .

الأب : أنا لا أطلب الزعامة يا ابني ولا أريدها ، ولكن ..

علقمة : ولكن ماذا ؟

الأب : أطلب رضا الله تعالى وتوفيقه ، وفي الوقت نفسه أحمده وأشكره على ما أنعم عليّ وتفضل

        بالقمح والشعير والتين والعنب والنخيل ، والأبناء والحفدة ...

علقمة : أنت لم تقصر في الصيام وقيام الليل ...

الأب : هذا لا يكفي !

علقمة : لم أفهم !

الأب : حين يُنعم الله عليك بنعمة فإن عليك شُكرَها . وثروة البساتين والحقول تحتاج إلى شكر غيـر

        الصوم والصلاة حتى يديم الله نعمته على عباده..هل تنسَون أن هذا المال الذي بين أيديكم هو

         مال الله ، وأن الفقراء والمساكين وحتى أنتم عيالُ الله ، وأحبُّكم إلى الله أنفعُكم لعيالِه . ماذا

         تفعلون إذا أغضبتم الله تعالى بجحودكم ، فسلَّط عليكم سيفَ غضبِه في الدنيا قبل الآخـرة ،

          والآخرة عذابها أشدّ ؟!

علقمة : نحن لا دخل لنا في فقر الفقراء ، والباب مفتوح أمامهم للعمل ، كما عملنا نحن ..

الأب : هناك الذين لا يستطيعون العمل من أطفال أيتام ومُسنّين ، وهناك طلاب علم فقراء ...

حارث : ألا يوجد غيرُنا صاحب خير ؟

الأب : إن الله تعالى يختبر عباده بالغنى والفقر ، فلا تسقطوا في هذا الاختبار .

علقمة : مادمتَ أنتَ على رأسنا فلن نسقط في الامتحان يا أبتاه .

الأب :  وإذا توفّاني اللُه تعالى ، فما الضمان يا علقمة ؟

علقمة : نحن أولادك البارّون - يا أبتاه – ولن ننسى وصاياك طوالَ حياتنا .

الأب : أنا لم أمت بعد ، وأنتم تُقصرون يا علقمة .

علقمة : لو سمعتَ كلام أخينا صالح ، وما قام به من أعمال الخير ، لما ظننت بنا هذا الظن .

الأب : أخوكم صالح أخبرني من قَبْلُ عن أعماله الخيرة أولاً بأول ، وأنا راضٍ عنه ، وأسأل الله عزّ

        وجلّ أن يرضى عنه .

علقمة : نحن إخوته شركاء يا أبتاه !

الأب : أنتم كإخوة يوسف ، يا علقمة ، تغارون منه ، وتنقمون عليه ، ولا تؤدّون حق الله ولا حقوق

        العباد .

علقمة : معاذَ الله أن يكون في ذمتنا دّيْنٌ لأحدٍ من الناس !

الأب : أرأيت ؟ حتى الآن لم تفهم عليّ ، ولا تريد أن تفهم يا علقمة .

علقمة : أنا وإخوتي طوع يديك ، فأمرْ نُنفّذْ يا أبتاه ، ولا تُرهِقْ نفسَك بأدنى أسف أو حسرة .

حارث : كلُّنا فِداؤك يا أبتاه . بعد عُمرٍ طويل إن شاء الله .

الأب : اِسمعْ يا حارث . أطلبُ منك على وجه السرعة أن تُوزّع نِصفَ حمل بعير من القمـــح

        والشعير على أسرة ابنة عمكم صبيحة ، وعلى معلّم الأطفال العلمَ الشرعي ، وعلــى كل

        طالب علم فقير، وعلى كل فقير عاجز عن العمل بعاهة وسواها في قريتنا ، ولو بلغ الإنفاقُ

        ثلثَ المحصول من القمح والشعير ...

حارث : سمعاً وطاعة يا أبتاه ...

علقمة : وأنا سوف أوزِّع مثل هذه النسبة على من ذكرتَهم وأمثالهم يا أبي حتى ترضى عنّا .

الأب : الآن رضيت عنكم يا أحبابي ، وأسأل اللهَ عزّ وجلّ أن يرضى عنكم أولاً ، وأن يحفظكم ،

      ويحفظ نعمته عليكم ، ويزيدها ويزيدكم بِرّاً وخيراً . وموعدنا الجمة إن شاء الله تعالى .

الثلاثة : إن شاء الله تعالى . ( ينهض كل منهم ويقبل رأس أبيه ) .

       

المشهد الثاني

 

( المكان نفسه : غرفة في بيت يمني يجتمع فيها الإخوة الثلاثة : حارث وصالح وعلقمة . الوقت : ليلاً ) .

حارث : صباح هذا اليوم ذهبت إلى بستان النخيل ، فوجدت أعذاق الشجر مثقلة بثمارها الناضجة ،

         وتدعوني حثيثاُ لجنيها وقطافها ، وتَعِدُ بحصيلة وافرة جداً .

صالح : وكذلك عناقيد العنب وخدود التين الأخضر والأحمر تغمزني ، وتخبيء لنا رزقاً وفيراً .

علقمة : أما أنا فلن أحدثكم عن حصاد القمح والشعير حتى تَرَوا الأكداس المُكدَّسة في مخازنكم .

صالح : فلنتفق منذ الآن على خطة العمل ، لنبدأ التنفيذ بأقرب فرصة .

حارث : أنا دعوتكما لهذا الغرض .

صالح : أنت أخونا الكبير ، فماذا تقترح ؟

علقمة : متى نبدأ ؟

حارث : حِصصُنا في العمل معروفة ، كل واحد منّا يتابع جني الثمار في القسم الذي تحت يده ،

         ونقلها ، ثم بيع ما يمكن بيعه منها ، وتخزين ما اعتدنا على تخزينه للمؤونة أو للبيع في

         فرص أحسن .

علقمة : هذا الدور حفظناه ، لكن متى نبدأ ، وهل يبدأ كل منا متى يريد ؟

حارث : طالما كانت الأمور جاهزة ، والثمار ناضجة في الحقل والبستان ، فلنبدأ منذ صباح الغد .

صالح : ووصية والدنا رحمه الله تعالى كيف ننفذها .

حارث : والدنا مات ، الله يرحمه ، ونحن أولاد اليوم .

صالح : ماذا تعني يا أخي حارث .

حارث : أعني أننا ثلاثتنا الذين سوف نحصد ونقطف ونبيع ونشتري ، وليس أبانا .

صالح : أقصد وصيته بتوزيع زكاة الموسم والصدقات على ذوي الرحم والفقراء والمساكين ..

علقمة : ألا يكفي ما وزعه هو طوال حياته ، وما وزعتَه أنت في الأعوام الأخيرة يا أخي صالح ؟

صالح : كل ما وزعناه في الماضي ، هو زكاة المحاصيل الماضية ، أما المحصول الجديد من القمح

         والشعير والتين والعنب والتمر والرّطب ، فإن له زكاته الجديدة الخاصة به ...

حارث : هذا رأيك وحدك يا صالح .

صالح : هذا رأيي ورأي والدكم يرحمه الله تعالى .

علقمة : أما والدنا ، فقد مات ، ونحن ورثته الشرعيون ، والتصرف بالمال من بعده حق لنا .

صالح : وتذهبُ وصيتُه أدراجَ الرياح !!

علقمة : وأما أنت فواحد ، ونحن اثنان ، ثم لستَ الأخ الأكبر حتى تفرض رأيك علينا .

صالح : حقُّ الفقراء وذوي الرحم ليس رأيي ورأي أبينا المرحوم وحسب ، إنه أمر من الله تعالى

         صاحب المال أولاً وأخيراً ، فأين تذهبون ؟

حارث : هل يأمر الله أن نهدر أموالنا ، ونوزعها على الكسالى والعاطلين عن العمل ، وأن نصبح

         فقراء نتكفّف الناس؟

صالح : على العكس . إن كل ما أنفقناه حتى الآن لم ينقص ثروتنا شيئاً ، بل زادها بركة وخصباً

         ونموّاً عاماً بعد عام .

علقمة : هل تدري ، لولا إنفاقك الأموال , وإنفاق أبينا من قبلُ لكنَا الآن أغنى الأغنياء ، ليس في

         قرية ضروان وحدها ، ولكن في كل اليمن ...

صالح : على العكس . هل تدريان أن إنفاقي وإنفاقي أبي في سبيل الله ، عمل يرضي الله تعالى ،

        فأدام نعمته علينا ، ولم يذهب ببركة المحصول ، ولم يُسلِّط علينا غضبه أو عقابه ، كما فعل

        بالأقوام العاصين من قبلنا .

حارث : نحن لا نسرق مال أحد ، ولا نعتدي على مخلوق . إنها أموالنا نتصرف بها لنتنعم بها ،

         مكافأةً لنا على جهدنا وتعبنا لا غير .

صالح : والأرض من أين جئتَ بها ؟

علقمة : ورثناها عن أبينا .

صالح : وأبونا من أين جاء بها أيضاَ ؟

حارث : بعضها ورثه ، وبعضها اشتراه بكدّ عرقه وجبينه .

صالح : وهذا الجسم الذي يعمل بصحة وعافية فيك وفي أخيك وفي أبيك ويرشح بالعرق من أيــن

        جاءنا ؟

حارث : لن نطيل الجدال . كل ما تقوله نعرفه ، وسبق أن تناقشنا به طويلاً ، فلماذا تعيده هذه الليلة

         ونحن نستعد لقطاف الموسم بلا تأخير ؟

صالح : أنا أعيده لاقتراب الحصاد ، وفي الوقت المناسب حتى لا تفوت الفرصة ، وتنفيذاً لوصيـة

        أبينا الشيخ الذي نحبه جميعاً رحمه الله تعالى .

علقمة : أيَّ فرصة تقصد ؟

صالح : فرصة القطاف وانتظار أصحاب الحاجات من يقضيها لهم .

علقمة : أنا أطالب يا حارث أن يكون ذهابنا إلى القطاف والحصاد غداً في الصباح الباكر ، كلُّنـا

        نحن وعيالنا  بغير ضجة ، حتى لا يفطن الشحاذون والمتطفلون فيلحقون بنا ، ويلحفـون

        بالسؤال ، فيلهوننا عن عملنا ، أو يسرقون من خيراتنا .

صالح : هذه خيرات الله يا علقمة .

علقمة : هذه خيرات من الله ، وأعطاها لنا .

صالح : سوف تصبح لنا حين نُؤدّي حق الله منها وإلا !

علقمة : وإلا ماذا ؟

صالح : وإلا أذهبها عنّا .

علقمة وحارث : فأل الله ، ولا فألك .

صالح : أنتم أخواي ، , وأنا أحبكما  وأريد الخير لكما ، كما أريده لنفسي .

حارث : لو كنت تريد الخير لنا لما جادلتنا وأكثرت جدالنا .

علقمة : أنت لا تريد الخير حتى لنفسك وعيالك .

حارث : أنت مهووس كأبيك بأمر الناس ، ومن تسمّونهم الفقراء والمساكين .

علقمة : أنت في عقلك شيء غير طبيعي يا صالح .

صالح ( يدهش بالمفاجأة ) ....أنا يا حارث ؟

حارث : أنت تعطي المال لمن يستحق ومن لا يستحق .

علقمة : بدأ الناس يرتابون بملكاتك العقلية يا صالح .

صالح : وأنتما أهل العقل والفطنة والرزانة ؟!

حارث : اسمع كلام الناس .

صالح : أنتما تسيئان إليَّ أمام الناس ، وتُشيعان عنّي الأباطيل .

علقمة : أنت تُنفق كمن لا يخشى الفقر ، فماذا يقول عنك الناس العقلاء ؟

صالح : هل العقل يقضي بِحرمان الفقراء حقوقَهم ؟

حارث : لاحظ أنت تسمّي ذلك حقوقاً لهم ، كأنهم أعضاء في أسرتنا من أُمّنا وأبينا !

صالح : ألسنا جميعا أبناء آدم وحواء .

علقمة : ولماذا كان نظام الوراثة إذن؟

صالح : ولماذا كانت الزكاة والصدقات ؟

حارث : ها قد عدنا من حيث بدأنا ، انتصف الليل ، ولم نحزم أمرَنا .

علقمة : أنت الأخ الأكبر : مرْ ننفذْ .

حارث : ننفذ جميعاَ أعمالنا مع عيالنا بدءاً من الصباح الباكر ، بهدوء لكيلا يلحق بنا أحد غريب ،

         ثم نجني ثمارنا ، ونحاول إنهاء أعمالنا في اليوم الأول ، وإذا احتاج أحد منا للآخر يكون

         اللقاء عند عين الماء في مدخل البستان ، على المقعد الذي اعتاد أبونا الجلوس عليه .  

علقمة : وإذا تصرَّف صالح بإنفاق شيء ، أي غير ما اتفقنا عليه ، فما العمل ؟

حارث : نُعلن للناس أن أخانا قد جُنّ ، ونرفع أمره للقاضي ، كي يحجر عليه ، ويجعلنا أوصيـاء

                 على حصته من الميراث ، وننتهي من الجدال العقيم صباح مساء .

صالح : ( يرفع وجهه ويديه إلى السماء ) اللهمَّ إن هذا لمنكر ، فاشهد . لا حول ولا قوة إلا بالله .

        اللهمَّ ألهمني الصبر على ما يمكرون ، وأبرأ إليك مما يفعلون .

       

المشهد الثالث

( المكان : على باب بستان في أطراف قرية ضروان اليمنية . يدخل من الباب صالح برفقته زوجه وأولاده الخمسة : ثلاثة فتيان وفتاتان ، ومعهم بعض الدواب والسلال والصناديق الفارغة . الوقت : الصباح الباكر مع طلوع الشمس صيفاً . )

صالح : ( صائحاً من هول المفاجأة ) واعجباه واويلاه ‍...

الأسرة : ( تتجمَّد في مكانها ، وعليها علامات المفاجأة والذهول أيضاً ) ...

صالح : في حُلُمٍ أنا أم في يقظة  ؟

الأسرة : أنت معنا في البستان يا أبتاه ‍‍‍‍‍‍‍‍.

صالح : أين البستان إذاً ؟

‍الأولاد : ما ندري أين ذهب ‍.

صالح : هل نحن أخطأنا في الاستدلال ؟

كبير الفتية : لم نخطيء يا أبي أبداً .

صالح : أين عين الماء ؟

الفتى : أمامك يا أبي .

صالح : مالي لا أرى ماءً فيها ، ولا أسمع خريراً للماء ؟

الفتى : ما أدري ما السبب .

صالح : أين المقعد الحجري الذي كان جدك يجلس عليه الساعات الطوال ، ياحسن ‍؟

حسن :  إنه وراءك تماماً يا أبي .

صالح : ( يتلمس المقعد الحجري بيديه ، يجلس عليه )  إذاً نحن في مدخل البستان ، يا ابني يا حسن ؟

حسن : نعم ، يا أبي ‍.

صالح : لكن أين ذهب البستان ، يا حسن ؟

الزوجة : ( بصوت متحشرج ) لم يذهب البستان ، ولم يرجع ، وإنما ...

صالح : وإنما ماذا يا بلقيس ؟

الزوجة : إنما لا نرى إلا حطام أشجار التين وبقايا منثورة من جذور الدوالي ، يا زوجاه ‍ .

صالح : إذن أنتم ترون مثل الذي أرى من الخراب والدمار ، وليس البستان ، يا أولادي ؟

الأولاد: بأصوات متحشرجة بالبكاء ) نعم ، يا أبتاه .

صالح : بستاننا تعرض للتخريب يا أولادي .

حسن : البارحة ، كنت معك في زيارة البستان ، وكان جنَّةً غنَّاء ، عامراً بالخضرة والتين والعنب ، فماذا

        جرى له هذه الليلة ؟

صالح : أَحَدٌ ما أحرقه ، أو قلع الأشجار ونهب الثمار . 

حسن : ليس لنا عدوٌّ ، يا أبي ، حتى يفعل بنا ما يفعل .

صالح : ولا يستطيع بشر في ليلة واحدة أن يفعل هذا الفعل . هذه نار ربّانية أو سيل ربّاني أتى علـــى

         البستان .

حسن: هذا السيل ، هذه النار لم تُبقِ َأثراً يُذكر ، كأنّ البستان لم يكن موجوداَ أصلاً ، وا أسفاه ، وا أسفاه ‍.

صالح : حتى التربة الحمراء ، زالت مع الأشجار والثمار وماء العين الغزير ...

حسن : من فعل بنا هذا يا أبي ؟

صالح : أخشى أن أقول لك الأقارب ، وليس من أحد غريب .

حسن : كنت أنت البارحة مختلفاً مع عمّي حارث وعلقمة ، فهل يفعلانها ؟

صالح : لست أقصد الفعل المباشر بالقصد أو باليد ...

حسن : لم أفهم شيئاً ، يا أبتاه .

صالح : إنه فعل الجاهل بنفسه .. حين يُغضب الله تعالى بتصرفات جاحدة  ، يا ابني ، يا حسن .

حسن : أنت لم تقصر في حقّ الله تعالى وحقوق عباده ، حتى يعاقبك بمثل هذا العقاب ..

صالح : لكنني خضعتُ لتهديداتهما ، وسكتُّ ...

حسن : لكن لم تفعل شيئا بعد ؟

صالح : وهذا سبب عجبي وتساؤلي عن الفاعل وهدفه ...يا حسن ...

( تسمع أصوات صراخ وبكاء من خارج المسرح ...يصغي كل من صالح وأفراد أسرته يتبينون الخبـر ، يدخل كل من حارث وعلقمة من باب البستان في وقت واحد ، وهما يبكيان ويندبان بصوت عالٍ كالأطفال )

صالح : مهلاً ، مهلاً ، يا أخويّ الحبيبين ، ماذا جرى لكما ؟ من اعتدى عليكما ؟

الأخوان : لقد هلكنا ، لقد هلكنا ...

صالح : ( بصوت متهدج ) ماذا يبكيكما يا رجال ؟

الأخوان : ( باكيين ) لقد هلكنا ، لقد هلكنا ...

صالح : تكلما غير هذا الكلام ، قولا من اعتدى عليكما ؟

الأخوان : ( باكيين ) لقد هلكنا ، وكفى .

صالح : حسبُنا الله ونِعمَ الوكيل .

الأخوان : الموت لنا أفضل .

صالح : أخشى أن يكون قد حصل لحقل القمح وبستان النخيل سوءٌ ما .

الأخوان : نعم ... قد حصل سوءٌ أيّ سوء يا صالح ‍...

صالح : هل سرقتِ الثمار والغلال ؟

الأخوان : يا ليت .

صالح : هل فسدَ الموسمُ كلُّه ؟

الأخوان : يا ليت .

صالح : قولا بحق الله تعالى ماذا جرى ، لقد هلكتُ معكم من الطامَّة .

الأخوان : هلكنا وانتهى الأمر .

صالح : قولا ، انطقا ، ماذا جرى ؟

حارث : ( يبكي ويلطم وجهه من الحزن ) لقد طار بستان النخيل بأشجاره وثماره وتربته الخصبة ، وا أسفاه

          وا أسفاه .

صالح : وأنت يا علقمة ، هل جرى لحقلك شيء ؟

علقمة : ما جرى لحقل القمح والشعير أشدّ وأنكى ، أنا لم أعد أعرف مكان الحقل من الدمار ، لقد تبدلـت

        الأرضُ غيرَ الأرض ، وانقلب عاليها سافلها ، فأصبحت يباباً بلقعاً ، لا يصلح للزراعة بعد اليـوم .

صالح : ( يبكي معهما ) لا حول ولا قوة إلا بالله . لا حول ولا قوة إلا بالله . مُصابي مثل مُصابكم . وا

         أسفاه .. وا حزناه ...

حارث : ( يتمشى باكياً نادباً ضارباً كَفّاً بكفّ ) وا أرضاه ، واثمراه ، وا أسفاه ...

الأخوان والأولاد: ( جميعاً يرددون ) وا أرضاه .. وا ثمراه .. وا أسفاه ...

حارث : ( يقترب من أخيه صالح ، يحتضنه ويقبله معتذراً له ) : هذا غضب من الله تعالى يا صالح ...

علقمة ( يفعل فعل حارث فيقبل صالحاً ) : لقد حذرتنا يا صالح من غضب الله فلم نسمع كلامك ...

صالح : لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله . حسبِيَ الُله ونِعمَ الوكيل ...

حارث : ( يصيح باكياً نادباً ) هذا غضب من الله تعالى ...

الجميع : ( يرددون معه ) هذا غضب من الله تعالى ...

صالح : ( متحسراً ) قولوا : أستفغر الله العظيم ...

الجميع : ( يرددون معه ) أستغفر الله العظيم ...

صالح : من كلّ ذنب عظيم ...

الجميع : ( يرددون ) : من كل ذنب عظيم ... 

صالح : أستغفر الله العظيم ...

الجميع : أستغفر الله العظيم ..

صالح : من كل ذنب عظيم ...

الجميع : من كل ذنب عظيم ...

صالح : نعم . حذّرتكم وحذّرتُ نفسي من غضب الله تعالى ، ومن هذا المصير الأسود ..

الأخوان : نحن نادمون .. نحن نادمون ...

صالح : ماذا ينفع الندم الآن ؟

الأخوان : وندمُنا أشد ّ .. نحن نادمون .. نحن نادمون ...

صالح : لا اللوم ينفع الآن ، ولا الندم يرجع ما فات ..

الأخوان : ما العمل يا صالح ، ما العمل بعد المصيبة ؟

صالح :  نبدأ بعد التوبة إلى الله تعالى ..حياتَنا من جديد ...

حارث : تُبنا إلى الله العظيم ...

الجميع : تبنا إلى الله العظيم ..

حارث : نبدأ من العدم ؟ من الصفر يا صالح ؟

صالح : نعم يا أخي حارث .

علقمة : وشماتة الأعداء ، وكلام الناس يا صالح ؟

صالح : الاستقامة تُلغي الأقاويل ، ورضا الله تعالى هو المطلوب أولاً وآخراً ...

علقمة : تُبنا إلى الله العظيم ..

الجميع : تبنا إلى الله الغظيم ..

صالح : لنحمد الله عزّ وجلّ أن كانت عقوبتنا في الدنيا ، وليست في الآخرة ..

الجميع : نحمد الله العظيم ..

صالح : ولنحمد الله تعالى أننا مازلنا في صحتنا وعيالنا ...

الجميع : الحمد لله العظيم ...

صالح  : ولنحمد الله عز وجلّ أن هدانا للتوبة النصوح ، والاستغفار من الذنوب قبل أن نموت ..

الجميع : الحمد لله العظيم ..

صالح : سوف أدعو الله فأمِّنوا معي ... اللهمّ بِعلمِك الغيبَ ، وقدرتك على الخلق ..

الجميع : يا ربّ ..

صالح : أَحيِنا ما كانت الحياةُ خيراً لنا ..

الجميع : آمين ...

صالح : وتوفَّنا إذا كانت الوفاةُ خيراً لنا ...

الجميع : آمين ...

صالح : نسألك خشيتَك في الغيب الشهادة ...

الجميع : آمين ...

صالح : ونسألك كلمةً الحقّ في الغضب والرضا ...

الجميع : آمين ...

صالح : ونسألك القصدَ في الفقر والغنى  ..

الجميع : آمين ...

صالح : ونسألك نعيماً لا ينفد ...

الجميع : آمين ...

صالح : ونسألك قَّرةَ عَينٍ لا تَنقضي ...

الجميع : آمين ...

صالح : ونسألك الرِّضا بعد القضاء ...

الجميع : آمين ...

صالح : ونسألك بَرْدَ العيش بعد الموت ...

 الجميع : آمين ...

صالح : ونسألك لذًّةَ النظر إلى وجهِك ...

الجميع : آمين ...

صالح : ونسألك الشوقَ إلى لقاِئك ،

الجميع : آمين ...

صالح : في غير ضَرّاءَ مُضِرّة، ولا فِتنةٍ مُضِلّة ...

الجميع : آمين ...

صالح : اللهمّ  زينّا بِزينة الإيمان ..

الجميع : آمين ..

صالح : واجعلنا هُداةً مَهدِيّين  ..

الجميع : آمين ...

صالح : والحمدُ لله ربّ العالمين ..

الجميع: والحمدُ لله رب العالمين ...

( يتوجّه الأخوان حارث وعلقمة إلى أخيهما صالح ، يُقبِّلانه واحداً واحداً بالأحضان ، وهما يدعوان له ، ثم يتقدم الأولاد من أبيهم ، ويُقبّلون رأسه فرداً فرداً .)