عروس النيل

عروس النيل

مسرحية من فصل واحد

علي محمد الغريب

[email protected]

-1-

"جانب من شاطئ نهر النيل في مدينة الفسطاط إبان الفتح الإسلامي لمصر"

الوقت: بعد منتصف الليل بقليل .. القمر بدر، أشعته تنعكس على صفحة النهر فتبدو مياهه كحبات اللؤلؤ .. الماء يتحرك في ملل .. نسمع صوت إنسان يتوعد ويهدد، فيخترق صوته جوف الليل .. الصوت يقترب شيئاً فشيئاً، حتى ينتهي إلى شاطىء النهر .. يدخل الشاعر آريوس فوق جواده حاملاً سيفه، وهو يهدر غاضباً

 

 

(ينزل عن جواده ثم يخاطب النيل معاتباً) أيها النيل العظيم .. أنت الذي اخترتني عدواً  برغمي، لكني مازلت على عهدي معك، وسأظل من أخلص خلصائك؛ ما تراجعت عن معاداتي .. سيد الماء .. هل هانت عليك آرمانوسة؟! .. هل هان عليك قلبان خفقا بالحب على شاطئك؟! أو نسيت رشفات تقاسمناها من ثغرك العذب؟! (يحتد) هل تجحدنا بعد أن باركت حبنا؟!!.. والله لئن مضيت في عزمك لأقطعن أوصالك؛ ولأجففن جداولك، ولجالدتك والكهنة الذين رشحوها عروساً لك .. نعم سأفعل.. لأنك خائن .. خائن!! (يمتطي جواده وينطلق على شاطىء النهر يضرب الأشجار والحشائش بسيفه في عشوائية وغيظ) أيها النيل.. سأشوه صورتك؛ ولأضربن رقاب زنابقك وزهورك، وسأصوغ معاناتي معك شعراً تلعنك به العجائز في أمسياتهن، وتوٌرثه الأجيال (يصيح صيحة عظيمة ثم يحتد أكثر) سيهجرك غناء القمر، وسيحتجب عنك الشباب والصبايا؛ خوفاً من غدرك بهم!، ستذبل سنابلك لأنها سترفض أن ترتوي من ماء الخيانة .. سيهجرك الجميع .. سيهجرك الجميع (يدخل جنديان من جنود المسلمين الذين يحرسون المدينة على إثر صياحه وجلبته)

:

آريوس

من هناك؟

:

الأول

أنا شاعر النيل.

:

آريوس

تباً لك ولجنونك! أأنت شاعر النيل وهجاء المسلمين؟!

:

الثاني

ماذا تريدان مني أيها العربيان؟

:

آريوس

صوتك أزعج المدينة وأقلق أهلها.

:

الأول

لن تنام المدينة بعد ليلتها تلك.

:

آريوس

مجنون .. مجنون!!

:

الثاني

اتركاني وشأني.

:

آريوس

سنحملك إلى الوالي ليحكم في أمرك.

:

الأول

مالي وواليكم.

:

آريوس

ألم تهجنا بشعرك؟

:

الأول

لا .. لم أهجكم.

:

آريوس

أنت كاذب.. لطالما سمعناك تتغنى بهجائنا في جوف الليل وكنا نغض عنك الطرف؛ لكنا لن نتركك في ليلتك هذه دون مثولك أمام الوالي.

:

الأول

اتركاني (يمشي في طريقه إلى جواده)

:

آريوس

(يقبض عليه) هيا .. امش أمامي إلى دار الوالي.

:

الثاني

(يقاومه) دع .. دعني.

:

آريوس

(يعاون صاحبه في اقتياده .. يخرجان به إلى دار الوالي)

:

الأول

-2-

 

 

 

 

 

مجلس عمرو بن العاص والي المسلمين بمصر.

 

 

الوقت في الصباح الباكر .. يدخل أحد الحراس

 

 

السلام عليك يا أبا عبد الله.

:

الحارس

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

:

عمرو

لدينا شاب قبطي قبض عليه الحراس الليليون في وقت متأخر من ليلة البارحة على شاطيء النهر وهو يهجوكم.

:

الحارس

إلىٌ به ومن قبضوا عليه.

:

عمرو

سمعاً وطاعة (يخرج وبعد لحظة يدخل آريوس والحارسان اللذان قبضا عليه)

:

الحارس

(للحارسين) لماذا قبضتما عليه؟

:

عمرو

هذا الشاب من اقدر شباب القبط على نظم الشعر.

:

الأول

ولقد سمعناه قبل مرة وهو يهجوكم والمسلمين، وكنا نغض الطرف عنه، لكنه تجاوز حدوده في ليلته تلك، وكان يصيح على غير عادته.

:

الثاني

اسمعني ما كان يقول.

:

عمرو

عفواً يا سيدي فأنا لا أعرف لغتهم جيداً.

:

الثاني

أنا أعرفها .

:

الأول

إذاً فأسمعني أنت ما كان يهجونا به.

:

عمرو

الحقيقة نحن لم نسمع منه كلاماً واضحاً هذه الليلة، لكنه كان منفعلاً وغاضباً فقلنا إنه لابد يهجوكم كعادته.

:

الأول

ألم تستوضحا شيئاً مما قال؟

:

عمرو

لا يا سيدي لأننا أقبلنا عليه وهو ثائر، ويهذي بكلام متداخل.

:

الأول

إذاً فما لكم عليه سبيل (لآريوس) وأنت ..  لِمَ صياحك وهذيانك؟ ألا تعلم أنك آذيت الناس بصوتك؟

:

عمرو

لو استطعت أن أصرخ في أذن الدنيا لفعلت.

:

آريوس

كل هذا؟

:

عمرو

(متوتراً) وأكثر .. وأكثر!!

:

آريوس

هل تمر بضائقة؟

:

عمرو

وماذا أنت صانع لي؟

:

آريوس

ربما ساعدتك.

:

عمرو

(يتنهد) لن تستطيع .. ا تسمح لي بالانصراف ؟

:

آريوس

ليس قبل أن نعرف سبب صياحك وتوترك.

:

عمرو

نحن قبط.

:

آريوس

ماذا تقصد؟

:

عمرو

بعد إحدى عشرة ليلة سيزفون آرمانوسة إلى النيل .. لقد اختارها  بعد أن رشحها له الكهنة (في مرارة من بين دموعه) وسترتدي ثياباً وحلياً اشتريتها بنفسي، استعداداً لزفافنا؛ أرأيت أبشع من هذا؟ (في عصبية) لكن ذلك لن يكون أبداً .. ليتوقف النيل عن الجريان ولتتوقف كل أنهار الأرض .. أما هؤلاء الكهنة فما أحسبني إلا قاتلهم، وقاتل أبيها أريطيون إن لم يرجع عن رأيه.

:

آريوس

ويحك .. هل تصرح هكذا بإباحة دم الناس دون خوف .. أنسيت أنك في حضرة حاكم البلاد؟

:

عمرو

ولماذا لم تستأ من إهدارهم دم آرمانوسة؛ وقتلي حياً؟

:

آريوس

هذه طقوسكم التي طالما نبهناكم لخطئها؛ فاتهمتمونا بالتضييق عليكم والتدخل في شئون دينكم (للحارسين) خذا هذا الشاب وتحفظا عليه .. أكرماه وقدما له الطعام؛ حتى نرفع أمره وهذا النهر إلى أمير المؤمنين في المدينة المنورة.

:

عمرو

-3-

 

 

"منزل أريطيون والد أرمانوسة .. تبدو أرمانوسة جالسة أمام مرآة كبيرة، والماشطة تدور من حولها تزينها وتهيئها للزفاف إلى النهر .. أرمانوسة تبكي في حرقة"

 

 

لا تبكي أيتها القديسة حتى لا تتلف الزينة.

:

الماشطة

قديسة!!

:

أرمانوسة

نعم .. فلم يخترك الكهنة عروساً للنيل إلا لأنك قديسة .. أنا أدرى منك برأي الكهنة.

:

الماشطة

لا أريد أن أكون قديسة .. أريد آريوس .. أريد آريوس (تبكي)

:

أرمانوسة

(تمنع دموعها من التحدر على خدها بمنديل في يدها) قلت لك لا تبكي .. لقد استغرقنا وقتاً طويلاً بسبب بكائك.

:

الماشطة

لن تجف دموعي إلا إذا تركوني لآريوس.

:

أرمانوسة

لا تشغلي بالك بآريوس، فالنيل لن يتخلى عنه، وسيهبه المزيد من الصنعة والعذوبة في الشعر وسيسمع به القبط في كل مكان مكافأة من النهر العظيم عن تنازله عنك.

:

الماشطة

آريوس تنازل عن حبي للنهر؟!!

:

أرمانوسة

من أجل خير الجميع؛ سيخلدكما التاريخ يا أرمانوسة.

:

الماشطة

(يفتح باب الغرفة ثم يمد عنقه وما زال واقفاً بالباب) ألم تنتهيا بعد؟ لقد اجتمع الكهنة وصويحبات أرمانوسة وخلق كثير أمام الدار .. هيا عجلا!

:

أريطيون

قل لابنتك تكف عن البكاء.

:

الماشطة

بنيتي العزيزة  .. لست أول ولا آخر من ستزف إلى النهر؛ واختياره إياك عروساً ما أحسبه إلا تشريفاً لي ولأمك.

:

أريطيون

أمي لم توافق .. وإلا لما لزمت فراشها منذ علمت بترشيحي عروساً للنهر.

:

أرمانوسة

أمك موافقة، وما بها الآن أمر عادي فهذه طبيعة الأمهات   .. حتى لو كان زفافك لآريوس فإنها كانت ستحزن لفراقك.

:

أريطيون

 هاأنذا قد انتهيت .. هيا أيتها القديسة الجميلة.

:

الماشطة

(يدخل ويتأبط ذراعها) هيا يا جميلتي.

:

أريطيون

(مذهولة كأنها لا تصدق) أبي هل تسلمني للموت بيديك؟!!

:

أرمانوسة

لن تموتي يا أرمانوسة؛ فأنت شهيدة، وكل أهل مصر مدينون لك بالفضل هذا العام كما أدينوا لفتاة قبلك في العام الماضي، وسيدينون لفتيات بعدك في الأعوام المقبلة، انتن واهبات الحياة لشعب مصر.

:

أريطيون

هكذا!!

:

أرمانوسة

هيا لا تضيعي الوقت، لقد انتصف النهار وأوشك النهر على الغضب.

:

أريطيون

(يجرها وهي تمشي من خلفه مكرهة .. يخرجون)

 

 

-4-

 

 

"أرمانوسه في طريقها إلى النهر في موكب مهيب .. الكهنة وأبوها يتقدمون الموكب .. صويحبات أرمانوسة يحطنها بطاقات من زهور اللوتس والزهور البرية الأخرى .. في مؤخرة الموكب يسير خلق كثير"

 

 

(يغنين) النهر أرادها عروسة.

:

الفتيات

يا ويح قلب آريوس.

 

 

بعد زفاف أرمانوسة. (الفتيات يرددن هذه الأغنية حتى يصل الموكب إلى شاطيء النهر)

 

 

(كبير الكهنة يتقدم الموكب إلى النهر، ثم يتلو عليه بعض التراتيل قبل إلقاء العروس إلى أحضانه .. قبيل انتهاء الكاهن من تراتيله يدخل آريوس شاهراً سيفه، ويبدو أنه قد هرب من دار الوالي)

 

 

(وهو على مقربة منهم) تباً لكم وللنهر.. لا نجوت إن هلكت أرمانوسة.

:

آريوس

(تتهلل بشراً كأنها لا تصدق) آريوس.. أدركني  يا آريوس.

:

أرمانوسة

دعنا نمضي فيما أتينا من أجله يا بني، ولا تشغب حتى لا تحل لعنة النهر على البلاد.

:

كبير الكهنة

إن نجوتم من لعنة النهر فلن تسلموا من لعنتي ولعنة السماء.

:

آريوس

الوقت يمضي في غير صالحنا!

:

كبير الكهنة

روحي دون أرمانوسة.

:

آريوس

ألا تضحي من أجل أن يحيا الشعب؟

:

أريطيون

ليهلك الشعب ولتهلك كل الحياة ولا تُمس أرمانوسة بسوء.

:

آريوس

(يشير للموكب بالتحرك إلى شاطئ النهر غير عابئ بآريوس)

:

كبير الكهنة

(يرفع يده بالسيف عالياً) إن فعلتم، فسأعمل سيفي في رقابكم جميعاً (يهم جماعة من الحضور بمناوشته وقتاله؛ فيدخل بعض من جنود الوالي الذين يبحثون عن آريوس الهارب)

:

آريوس

هذا هو .. أمسكوا به.

:

أحدهم

(يشعر بعدم قدرته على مقاومة الجنود الذين أتوا للقبض عليه وأفراد الشعب، فيوجه سيفه إلى بطنه مهدداً) إياكم أن تقتربوا مني .. لو فعلتم لأغمدت السيف في بطني

:

آريوس

(يحاول أن يستدرجه) آريوس لا تتعجل .. لقد جاء والينا رد من أمير المؤمنين بالمدينة بشأنك .. لا تتعجل فتندم.

:

جندي

(محذرا)ً تكلم دون أن تقترب مني أيها العربي.

:

آريوس

(وما زال يمشي تجاهه في حذر) صدقني يا آريوس لقد جاءنا رسول أمير المؤمنين اليوم بأخبار تهمك، ولكنك تعجلت فهربت.

:

الجندي

لو انتظرت رد أميركم لأهلك هؤلاء أرمانوسة ..قلت لك لا تتقدم نحوي .. إني أحذرك ..أحذرك.

:

آريوس

(يحس صدق عزمه على قتل نفسه فيتراجع إلى الوراء)

:

الجندي

(للجنود) دعونا ننقض عليه وليقتل نفسه إن أراد .. لم يبق لدينا وقت والنهر سوف يغضب(أحد الجنود ينطلق إلى الوالي)

:

رجل

انتظروا حتى يأتي الوالي فيفصل في أمركم.

:

الجندي

لا حاجة لنا بواليكم فهذا أمر يخص ديننا.

:

كبير الكهنة

لكننا مسؤولون عن سلامة أرواح الناس وحقن دمائهم .

:

الجندي

ولستم مسؤولين عن تلف زروعنا وموت ماشيتنا؟!

:

رجل آخر

نحن مسؤولون عن هذا أيضأ.

:

الجندي

إذاً فدعونا وشأننا، فنحن أعلم بما يضرنا وما ينفعنا (يشير لمن معه أن قدموا العروس للنهر)

:

كبير الكهنة

(يهجم عليهم فيدخل عمرو بن العاص ومعه بعض الحرس قبل أن يشتبك  آريوس وأفراد الموكب)

:

آريوس

(في حزم) كفوا أيديكم عن القتال (الجميع يتراجعون)

:

عمرو

أدام الرب عز الوالي .. إن لنيلنا هذا عادة قد نهيتنا عنها سنة قدومك إلينا وقد رأيت بنفسك غضبه علينا سنتئذ ، وإنا لمضطرون لتقديم إحدى فتياتنا إليه كل عام في نفس الموعد، فهلا ساعدتنا في إنفاذ أمر النيل علينا بإبعاد هذا الشاغب ؟

:

كبير الكهنة

هذا الشاغب  محتجز عندي منذ عدة أيام، وقد رفعت أمره والنهر إلى أمير المؤمنين، وإني لأحمد الله تعالى أن جاءني الرد في هذا الوقت القصير؛ حقناً لدمائكم وحفاظاً على أرواح فتياتكم(يشير لأحد الجنود فيتسلم منه رسالة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه .. عمرو يفض الرسالة ثم يقرؤها على الملأ) "من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى نيل مصر، أما بعد: فإن كنت تجري من قبلك فلا تجر، وإن كان الله يجريك؛ فأسأل الله الواحد القهار أن يجريك"(عمرو يتوجه إلى شاطيء النيل ويلقي الرسالة إليه بدلاً من أرمانوسة .. النيل يجري ويتدفق )  

:

عمرو

(لا يصدق نفسه من شدة الفرح) شكراً لك أيها الوالي .. أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ( بعض الحضور ينطقون الشهادة آريوس يتأبط ذراع أرمانوسة ويطوف بها شوارع المدينة والفتيات يلقين عليهما الزهور ويغنين بينما وقف بعض القوم أمام الشاطىء غير مصدقين ما حدث!)

:

آريوس

(يرفع يديه للسماء) يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك.

:

عمرو

ستار